قضايا

حاتم حميد محسن: الحياة الفلسفية للقديس اوغسطين

كان اوغسطين (354-430) قديسا، ليس لأن الكنيسة الكاثوليكية منحته ذلك اللقب(وهو ما حصل فعلا) وانما بسبب انه كان في الغالب رجلا جيدا. وهكذا قيل ان اسقف مدينة هيبون "استعمل سجلات المدينة لتحرير العبيد المضطهدين ضمن العوائل السيئة" (اوغسطين، Henry chadwick، ص11، 2001). لا أحد لم يتأثر بالحنان الرقيق لنثره الذي يكاد ان يكون شعراً في رسائله؟ القليل يكتبون عاطفيا حول كيف اننا "نتحرك تجاه الله ليس بالمشي وانما بالحب". كونه في صحبة اناس غير متعلمين، هو امتلك التواضع حتى انه قال ان "السمة الاخلاقية تُقيّم ليس بما نعرف وانما بما نحب" (الرسائل Epistolae، ص155). في ضوء هذا، ليس من الصعب فهم لماذا الفيلسوفة هانا ارندت كتبت رسالتها الدكتوراه حول "مفهوم الحب لدى اوغسطين: محاولة تفسير فلسفي". ايضا في نفس الوقت، هو كان بروفيسور البلاغة في ميلانو، هو أرسل زوجته غير الرسمية، ام ابنه الى مكانه الأصلي في افريقيا لكي يعزز مستقبل حياته المهنية.

بذور الفكر

اوغستين ابن الأب الوثني والأم المسيحية، وُلد في هيبون (حاليا مدينة عنابة في الجزائر) في 13 نوفمبر عام 354 ميلادية. اوغسطين الشاب كان طالبا نموذجيا، كان قد تلقّى تعليما بمساعدة فاعل خير، استمر في الدراسة في روما واُعطي كرسيا في مؤسسة تعليمية في ميلانو. الموهوب استفاد من دراسة البلاغة، وكتب بلغة لاتينية جذابة وبعبارات تجذب القرّاء بدون تدريب فلسفي.

اكاديمي ناجح جدا ورجل العالم، عُرف عنه من إعترافاته الشهيرة (397 ميلادية) بانه كان يقوم بأعمال متهورة في شبابه. في الحقيقة، كان اوغسطين واعيا بانه كان ولدا باحثا عن المتعة، وكتب بان الحقيقة "لا توجد في أعمال العنف وحفلات الخمر، ولا في الإثارة الجنسية والبذاءات" (الاعترافات، ص 202). ولكن حتى بعد ان تحوّل للمسيحية، هو كافح للاستمرار في ارتداء لباسه القديم . هو اعترف بسهولة انه كان بعيدا عن الكمال، وان لا أحد بلا عيوب سوى المسيح وحده (De Nature et Gratia,p42,415).

عدم كمال الانسان هو ايضا عنصرا هاما لفهم فلسفته السياسية. اولئك الذين يكتبون حول السياسة بعيون فلسفية هم عادة اما طوباويون (مثل افلاطون الذي كتب الجمهورية) او واقعيون (كما هو افلاطون ايضا في القوانين). اوغسطين، طرح يوتوبيا لكنها كانت يستحيل تحقيقها، مثل مدينة الله (413) التي ستتأسس في نهاية الزمن، عندما كما يقول العهد الجديد "الله سيمسح كل الدموع من عيونهم، وسوف لن يكون هناك موت ولا حزن ولا بكاء ولا أي نوع من الألم" (Revelation21:4). هذه المدينة ستكون مثالية. لكن حتى المجيء الثاني للمسيح ، نحن يجب ان نكون راضين بحالة ليست مثالية ربما نسميها "مدينة الانسان"، مع ان اوغسطسن ذاته لم يستعمل هذه المفردة.

كونه كاتب دنيوي وكأسقف واداري محلي، هو امتلك رؤية واضحة حول ما يجب ان يكون عليه المجتمع الأرضي. بعض رؤاه كانت ليبرالية، انت ربما تندهش لو علمت انه مثلا، في مدينة الله عارض عقوبة الإعدام وتحدّث مفضلا الضرائب التصاعدية. في وقت عندما كانت السياسة تتحرك بعيدا عن الديمقراطية، هو كان يرغب في افتراض دورا للناس: في كتابه (حول الاختيار الحر، 388) هو سأل بلغة بلاغية، "اذا كان الناس معتدلين وجادين وحرّاس حريصون على المنفعة العامة، واذا كان كل شخص يفكر قليلا في المصلحة الخاصة بدلا من العامة، أليس من الصواب سن قانون يجيز للناس اختيار القضاة لأنفسهم يديرون شؤونهم بواسطتهم ...؟" (1.6). لم يكن ذلك بالضبط قبولا واضحا بالحكومة الشعبية لكن بالتأكيد هو اكثر تقدما من الكتّاب الآخرين في ذلك الزمن.

لاحقا وبعد عدة سنوات ألهمت هذه الافكار السياسيين بمن فيهم الرئيس الحالي للولايات المتحدة: "قبل عدة قرون، كتب القس اوغستين في كنيستي، بان الناس كانوا جماعة تحددهم اشياء مشتركة في حبهم". هذا ما قاله جو بايدن في خطابه الافتتاحي. الفلاسفة نادرا ما يتم الاستشهاد بهم من جانب رؤساء الولايات المتحدة. في الحقيقة، كانت هذه اول مرة يُمنح فيها التكريم لواحد من الكتاب الكلاسيكيين منذ جورج واشنطن. وبالتأكيد، اوغستين كتب بالفعل بشكل موسّع حتى وان لم تكن بالضبط نفس الكلمات التي اقتبسها بايدن، بل، هو قال في مدينة الله ان "الناس هم مجموعة من الكائنات العقلانية المرتبطة باتفاق عام على تلك الاشياء التي يحترمونها"، واستمر بالقول بان "كلما كانت مصالحهم العليا أفضل، كلما كان ذلك أفضل لأنفسهم" (ص264).

القديم والحديث

ربما يبدو مثيرا بشكل خاص ان الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة اختار الإقتباس من اوغسطين في خطابه الافتتاحي لأن الفيلسوف كان مهتماً بأشياء يجدها العديد من الحديثين غريبة. فمثلا، القس صرف جهدا لا بأس به متأملا في الوقود الذي سيُبقي محارق الجحيم متقدة الى الأبد، وتسائل كيف ان تلك الأجسام المعذبة لا تتلاشى نتيجة لذلك (مدينة الله، ص322). بالتأكيد، اوغستين لم يكن كاتبا في القرن الواحد والعشرين. دائما من السهل العثور على أدلّة تشير الى التحيّز البايولوجي والجنس لدى كتّاب قبل وقت طويل، واوغستين ليس استثناءً. خذ هذه الجملة على سبيل المثال، "لو ان أدم كان بحاجة الى منْ يساعده في محادثة ذكية حقا ... لكان الله بالتأكيد جهّز له رجلا آخر" (De Genesi,p.9,408). ربما مثل هذه التعابير لا تُغتفر بصرف النظر عن الظروف التاريخية التي ادّت لها.

ونظرا لأن اوغسطين كان منشغلا في مسائل غريبة بالنسبة لنا، يمكن قبول تبرير المرء بأن فلسفته هي مجرد اهتمام تاريخي. هذه كانت وجهة نظر مألوفة بين المؤرخين خاصة اولئك مما سمي مدرسة كامبردج الذين يعتقدون ان الأقوال من جانب كتاب كلاسيكيين وُجّهت لـ "حل مشكلة معينة لها ظروفها الخاصة و بطريقة سيكون من السذاجة تجاوزها" (المعنى والفهم في تاريخ الافكار، كونتن سكنر، 1969، ص50) . لكن ذلك لا يعني ان " لا أمل هناك" باننا نستطيع ان "نتعلم مباشرة من الكتّاب الكلاسيكيين" (ص50). بالتأكيد، اوغستين كان منهمكا بقضايا معاصرة . تحطيم ونهب روما عام 410 من جانب القوط الغربيين حفز بعض الوثنيين الرومان ليعزوا ذلك التدمير المذل للمدينة الأبدية للرومان بسبب التحول نحو المسيحية. الخلاف الذي أنتجته هذه الكارثة حفز اوغستين لكتابة عمله العظيم مدينة الله، لطرح نظرية في التاريخ، عقيدة في الثيولوجي، وفلسفة سياسية دافعت عن المسيحية. ولكن من غير الصواب ان نرفض اوغستين وجميع أعماله على خلفية انه كان مهتما فقط بالشؤون السياسية .

عندما نستبعد المفكرين القدماء بسبب تحيزاتهم ذات الصبغة الثقافية ، ذلك معناه اننا ننكر على انفسنا الفرصة لتقدير قمحهم الفلسفي بين قشور شوفينية. اوغستين ذاته كان مطلعا على هذا. مثل القليل من المفكرين الآخرين الذي سبقوه، هو كان مطلعا على ان رؤانا هي دائما ملونة بالسياق التاريخي. لكنه اعتقد اننا قادرين على السمو فوق تحيّزاتنا من خلال قوة التجريد: في كتابه الاول بعد تحوّله "لنرى"، كتب، "نحن يجب ان ننسحب من التعددية ليس فقط من الناس وانما من التصورات الحسية التي نسعى، كما كانت، لتكون مركز الدائرة التي تشد المجتمع ككل" (De ordineKp.3,386). عبر اتباع هذا الإجراء هو كان قادرا على تجاوز زمانه وحتى ايمانه العميق الخاص به والوصول الى صوت ما بعد حداثي متناقض مثل على سبيل المثال، "من الأفضل ان نجد الله من خلال ان لا نجده" (الاعترافات، ص10).

اوغستين الفيلسوف القديس

اعتبر اوغستين نفسه كثيولوجي، لكنه لا يؤكد كونه فيلسوفا. برتراند رسل، الفيلسوف البريطاني الذي لخص رؤاه عن المسيحية بكتابه لماذا انا لست مسيحيا، 1927، مع ذلك أبدى اعتبارا كبيرا للقديس الكاثوليكي، ملاحظا انه عندما شغل اوغستين نفسه بالفلسفة الخالصة "هو يبيّن مقدرة كبيرة"(تاريخ الفلسفة الغربية، ص351). ولكن حتى هذا القبول الظاهر هو تقريبا شيء غير مهم. اوغستين كان ايضا مخترع كلمة "مناجاة" solioquia او الحديث مع الذات. في المناجاة (387)، كان اوغستين وليس ديكارت هو الذي جاء اولا بحجة "انا افكر اذا انا موجود". ليس فقط هذا، بالاضافة لكون الاعترافات اول سيرة ذاتية عالمية، انها ايضا احتوت استطرادا حول مفهوم الزمن الذي كان اشارة مسبقة للعديد من الافكار التي جرى التعبير عنها لاحقا بمزيد من التفصيل وبلغة اكثر كثافة من جانب كانط في نقد العقل الخالص (1781). في القسم الاخير من الاعترافات، اوغستين يعتبر الزمن كنوع من "التصفية" filter من خلاله نتصور الاشياء. بهذا المعنى، كان اوغستين اول "مثالي متجاوز" – مع انه كفيلسوف اراد ان يخاطب جمهورا واسعا، هو بقي بعيدا عن العبارات الثقيلة والرطانة التي استعملها كانط بعد الف وخمسمائة سنة للتعبير عن مثاليته المتجاوزة.

"في البداية كانت الكلمة"، جاءت في الأناجيل (يوحنا 1:1). لذا لا عجب ان اوغستين ايضا فكّر في طبيعة اللغة. في الحقيقة، بعدة طرق هو تنبأ بما سمي "المنعطف اللغوي" لفلسفة اواسط القرن العشرين، ومثل الفلاسفة البريطانيين الذين ارتبطوا بها، اوغستين فكّر بعمق حول العلاقة بين الكلمات والاشياء. اوغسطين كان واحدا من القلة الذين اقتبس منهم لودفيج فيتجنشتاين. كتب النمساوي المولد فيلسوف اللغة "اوغستين، في وصف تعلّمه اللغة، يقول انه عُلّم ليتكلم عبر تعلّم اسماء الاشياء" (الكتابان الازرق والبني، ص77، 1935).

كتب فيتجنشتاين "ان حدود لغتي تعني حدود عالمي" (رسالة منطقية فلسفية، ص149، 1921)، ومن ثم غيّر آرائه. في الحقيقة، اوغستين وصل الى نفس الاستنتاج ولاحظ بان "الانسان لايستطيع قول اي شيء حول ما لا يقدر ان يشعر به" – لكنه اضاف "هو يستطيع ان يشعر بما لا يقدر وضعه في كلمات" (sermons.p.117). الرؤية الاساسية لاوغستين تلخصت في كلمات "إعتقد لكي تفهم". لكنه لم يكن مهتما فقط بالايمان: يبدو ان – جزء الفهم – اللاحق كان الهدف الحقيقي. ما اذا كان صائبا حقا بان "الرؤية ستُمنح لمن يعيش جيدا ويصلي جيدا ويدرس جيدا" (De ordine,ii,51)، يمكن نقاشها – مع ان مثال اوغستين كان بالتأكيد رائعا. ربما وبدون قصد، بيّن القس اوغستين نفسه فيلسوفا اكثر مما هو ثيولوجي. كفيلسوف حقيقي، محب للحكمة، هو اعترف بشكل صحيح بان هذا "عنصر مهم في الاكتشاف لطرح السؤال الصحيح ولتعرف ما ترغب انت اكتشافه" (سبعة اسئلة تتعلق بالكتاب الاول من الاناجيل السبعة).

توفي اوغستين في مدينة هبون او عنابة في الجزائر في 28 اوغسطس عام 430 عندما كان الغوغائيون يحاصرون المدينة.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم