قراءة في كتاب

قراءة في كتاب التربية العقلية والأخلاقية والبدنية (1)

hamza alshafi1. تعريف الكاتب: ولد مؤلف كتاب التربية العقلية والأخلاقية والبدنية، هربرت سبنسر (Herbert Spencer) في ديربي Derby في عام 1820 وتوفي سنة 1903. وهو من أب يعمل بالتعليم ما أهله لتلقي الجانب الأكبر من تعليمه على يد والده. وقد كان لذلك أثر عميق في تكوين شخصيته المستقلة. بالإضافة إلى ذلك، تأثر سبنسر بأفراد أسرته الذين انشقوا عن الكنيسة الانجليزية فتكونت لديه نزعة التمرد على كثير من الأوضاع الاجتماعية التي سادت في عصره، وقد تجلت هذه النزعة في كتاباته وأفكاره. عمل سبنسر مهندسا بالسكك الحديدية البريطانية، وكان أول احتكاك له بالأفكار التطورية من خلال اهتمامه بدراسة الجيولوجيا وتاريخ طبقات الأرض . وقد نشر أول مقال له يؤيد فيه سياسة حرية العمل Laissez-faire بصحيفة المنشقين The Nonconformist ، وذلك سنة 1842. وبعد ذلك ببضع سنوات، أصبح نائب رئيس تحرير مجلة الاقتصادية The Economist. (1)

و يعتبر هربرت سبنسر من كبار علماء الاجتماع الإنجليز، إذ أسهمت كتاباته إلى حد كبير في النقاش السوسيولوجي الدائر في عصره. ويعد كتاب الاستاتيكا الاجتماعية Social Statics (1850) أول كتاب ينشره ويعرض فيه فلسفته السياسية، حيث يعتبر أن التطور في المجتمع شبيه بذلك الذي يحدث لدى الكائنات العضوية(2). كما أصدر كتابه ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺉ ﺍﻷﻭﻟﻰ First Principles (1862). وقد حدد فيه سبنسر الإطار العام لنظرية التطور الاجتماعي والكوني والتي اعتمد فيها على نظريات كل من داروين ولامارك. وقد افترض أن "المجتمع مثل جسم كائن حي" (organism)، لذلك طور سوسيولوجيا ترى أن لكل مؤسسة اجتماعية وظيفة في "الجسم الاجتماعي".social body (3)

كما اعتبر سبنسر أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الأساسية في العملية التطورية. وفي محاولة لخلق علم اجتماع ذي طابع تطوري يوحد بين كل النظريات العلمية، أصدر كتباين هما مبادئ علم الاجتماعPrinciples of sociology (1855) ودراسة المجتمع The Study of Society (1873). ويعد السباق إلى صياغة عبارة "البقاء للأصلح " the survival of the fittest لوصف الحالة الطبيعية للعلاقات داخل المجتمعات وفيما بينها، ووفقها فالنخبة من المجتمع ينبغي أن تمتلك الامتيازات مما يوحي أنه يشرعن امتلاك وهيمنة نخبة المجتمع على الامتيازات وضرورة غزو بعض المجتمعات لغيرها. ((4)

2. معلومات حول الكتاب

كتاب التربية العقلية والأخلاقية والبدنية للكاتب الانجليزي هربرت سبنسر كتاب من الحجم المتوسط، وقد كتب باللغة الانجليزية سنة 1861، وعدد صفحاته صفحة309 ، وقد نشر من طرف A. L. BURT .COMPANY, Publishers

3. تلخيص فصول الكتاب

ينقسم كتاب التربية العقلية والأخلاقية والبدنية إلى أربعة فصول كبرى وهي:

الفصل الأول: ما هي المعرفة الأكثر قيمة وأهمية ؟

يفتتح الكاتب الفصل الأول من هذا الكتاب المعنون ب «ما هي المعرفة الأكثر قيمة وأهمية"بانتقاد للتوجه العام للناس فيما يتعلق نوع المعرفة الأكثر أهمية (5). من خصائص هذا التوجه أنه يميل إلى المعرفة الكمالية التي تتغيى تزيين العقل وزخرفته دون إحداث تأثير ايجابي على الحياة والمعيشة. وتضم هذه المعرفة الكمالية كلا من فن الموسيقى والشعر والبلاغة والفلسفة واللغات القديمة كاليونانية والرومانية. ومن صفاتها أنها تشحن أذهان الناس بأشياء قلما يستعملونها في مجالات الحياة اليومية ونادرا ما تساعدهم على تحسين وتطوير طريقة عيشهم. ويشبه سبنسر هذا النوع من المعرفة المقدمة لزخرفة العقل بأنواع الثياب والحلي التي يرتديها الناس للزينة والظهور الاجتماعي ولموافقة الأهواء.

ويعارض الكاتب بشدة صرف وقت كبير في تعليم النساء المعارف الكمالية من موسيقى ورقص ورسم أو المعارف المرتبطة بحياة الملوك وتواريخهم، لأن ذلك كله لا يفيدهن في شيء في حياتهن اليومية. بدل ذلك، يجب الانكباب على تلقين النساء المعارف الضرورية. ويقصد بالمعارف الضرورية، تلك التي تجلب الفائدة وتساعد على الرقي الفردي والاجتماعي. يتضح إذن أن المقياس الوحيد لتصنيف معرفة ما بأنها ضرورية هو فائدتها ومساسها بجوانب حياة الإنسان، وتأثيرها الايجابي في معيشته، وجلبها للسعادة والرفاهية. وهذا يرتبط أساسا بدرجة تأثير تلك المعرفة بشكل ايجابي على العقل والبدن والعمل والأسرة وحسن السلوك مع الأصدقاء والناس، وحسن الانتفاع من خيرات ونعيم الطبيعة. والغاية النهائية من كل ذلك هو بلوغ عيشة كاملة وهنيئة. لذلك، فواجب التعليم ودوره الأساس هو إعداد الناس للعيشة الكاملة، وهذا يتطلب نظاما تربويا وتعليميا يمكن من إعداد الأطفال والطلبة لهذا الغرض.

يرتب سبنسر الأعمال الرئيسة التي تتألف منها الحياة حسب أهميتها، ويرى أن تلك الأعمال يجب أن تنعكس في عملية التربية :

1. الأعمال التي تضمن صيانة النفس مباشرة.

2. الأعمال المتعلقة بتربية النسل.

3. الأعمال المرتبطة بحفظ العلاقات السياسية والاجتماعية.

4. الأعمال المختلفة التي تشغل أوقات الفراغ والملاهي، والموجهة للملذات والشهوات.

و يقسم المعارف إلى ثلاثة أقسام، ويؤكد على ضرورة تقديم المعارف ذات القيمة الثابتة على تلك التي تخص الحوادث وحياة الناس:

- معارف ذات قيمة ثابتة لا ينقص منها الزمن ولا الحوادث كقواعد العلوم الطبيعية.

- معارف ذات قيمة يكون بقاؤها رهينا ببقاء أشياء أخرى مثل الفائدة الجديدة التي تنضاف إلى اللغة الانجليزية بتعلم اللغات الكلاسيكية كاليونانية واللاتينية، لأن هذه الفائدة لا تدوم إلا بدوام اللغة الانجليزية.

-  معارف لا قيمة لها إلا في اصطلاح الناس والمجتمع مثل الأحداث التاريخية المسرودة وأسماء الملوك والأعياد والأيام العديمة الدلالة (مثل التاريخ).

الفصل الثاني: التربية العقلية

يفتتح هذا الفصل المعنون بالتربية العقلية بإقامة تقابل بين نظرة الكنيسة الكلاسيكية ونظرة الحركة البروتستانتية فيما يخص طريقة تعليم الأطفال. فالكنيسة ترى أن المدرسة يجب أن تمتثل لقاعدتها الأساسية "آمن ولا تطرح الأسئلة believe and ask no questions " باعتبار الكنيسة سلطة معصومة لا تحتاج إلى تقديم تفسيرات، وهذا النمط من التدريس نتج تعليم دوغمائي عقائديdogmatic teaching للأطفال. لكن مع ظهور البروتستانتية، أعطي الحق للكبار والصغار في إصدار الأحكام الخاصة والقيام ممارسات مبنية على العقل لا على التقليد والتبعية. لذلك، فلا غرابة أن تظهر تحولات في طريقة تعليم الأطفال عن طريق تعريضهم لسيرورة الفهم بدل التلقي السلبي والحفظ والحشو، وكلها عمليات مجردة من التساؤل والتحليل والنقد، لأنها أصلا مبنية على مبدأ المنع والحرمان. فالخضوع conformity للأفكار الدينية والمذهبية  doctrinalوالسياسية والتربوية الكلاسيكية كما كان سائدا في القرون الماضية، بدأ يعوض بالتنوع، بعد ظهور توجهات نحو الفردانية individuality ، التي نتج عنها ظهور الحركة البروتستانتية وما صاحبها من طوائف sectsجديدة وأحزاب سياسية.

وقد أدى التحول الديني والسياسي والاقتصادي في تلك الفترة إلى ظهور نظم مختلفة للتفكير خاصة في التربية. ويتجلى ذلك في الانقسام والتراكم في المناهج مع وجود صراع وتضارب بين تلك الأنظمة التربوية، وما يترتب عن ذلك من أضرار وسلبيات، لكنها رغم ذلك، تبقى مرحلة انتقالية لابد منها للعبور نحو نتائج مفيدة ونهائية. ومن بين تلك النتائج، تأسيس وتبني طرق تربوية جديدة لخدمة الحاضر وتجاوز أو إلغاء أخرى، نظرا لتقادمها وعدم صلاحيتها. ويتجلى ذلك في الانتقال من التربية المبنية على الضرب والقسوة والغِلظة المهيمنة في عصور الاستبداد إلى مرحلة ففكت فيه قيود الطفل، واستبدلت فيه مسألة تدبيره إلى وسائل غير العقوبات. إضافة إلى ذلك، فقد أدرك الآباء والمعلمون وجوب إطلاق شهوات الطفل ما لم تتعدَّ الحدود، وإباحتهم ما تنزع إليه طباعهم من اللعب والمرح تماشيا مع التغيرات التي لحقت النظام الاجتماعي في ذلك العصر.

ويقد قدم سبنسر في هذا الكتاب خلاصة استنتاجاته حول ماضي وراهن التعليم من خلال المقابلة بين مذاهب التعليم القديمة والحديثة. ويرى أن الفترة التي كان يُعنى فيها بخدمة البدن وحده وتقويمه أعُقب بفترة جعل فيها الاهتمام بالعقل وحده الغاية الوحيدة لعامة الناس، لأنهم يعتقدون أن اكتساب العلوم هو كل ما يحتاج إليه المرء، ليأتي بعد ذلك زمن يؤمن فيه الناس أن الاهتمام بالعقل والبدن أمران لا ينفصلان. كما بدءوا يعارضون طريقة الحفظ والاستظهار، فاختاروا تعليم الحساب لأطفالهم أثناء العمل وتعليم اللغات الأجنبية بطريقة طبيعية تشبه تلك التي يكتسبون بها لغتهم الأصلية. كما تم الانتقال من التعليم بواسطة القواعد deduction) الاستنباط ( إلى التعليم بالجزئيات induction) الاستقراء(، إذ تُعرض الجزئيات مقرونة بعضها إلى بعض، فيُستنتج منها قانون كلي يرشد إليها. وقد عاب الكاتب التعليم الذي يبدأ بالقواعد، ودعا إلى تبني التعليم القائم على تقديم الأمثلة والأجزاء لأنه يسمح بالمقارنة والتقابل ومن ثم فهم المحتوى المراد تدريسه، لأن ذلك يتيح للذهن إمكانية الاشتغال واستنباط الحقائق من ينابيعها باستقلالية وحرية. وهذا بدوره يحمي الحقائق المستنبطة من خطر النسيان والضياع، عكس الحقائق والمعارف والقواعد المحشوة والجاهزة التي سرعان ما ينساها الأطفال، نظرا لعدم تماسكها وتناسقها لأنها لم تكتسب بالفحص والتدقيق والتفكير المطلق الحر والاستكشاف والاستطلاع.

يضيف هذا الفصل حول التربية العقلية أن أهم ما ابتُكر حديثًا من طرق التربية هي طريقة ترسيخ ملكات المشاهدةobservation ، لأن الناس بعد طول غفلة فطنوا إلى سر ومعنى حب الاستطلاع باستعمال الحواس لدى الأطفال. فتوقد حركة الطفل وحيويته في استعمال حاسة البصر بشكل ملفت، سبب طبيعي يتوصل به الطفل إلى إدراك معارفه وبناءها في المستقبل. لهذا نجد سبنسر ينادي بوقف القمع المطلق الممارس على الأطفال وإعطاءهم الحرية للمرح واللعب واستعمال حواسهم في أوائل أعمارهم كما يشاءون وكما تفرضه الطبيعة.

يقترح سبنسر أن من بين الخطوات الأساسية التي يجب مباشرتها في النظام التعليمي استبدال الدروس المحفوظة عن ظهر قلب غيبًا بالدروس الشفهية المشاهدة والموضحة بالصور والأشكال والآلات، لأن ذلك يبين جزئيات الحقائق والمعارف بطريقة ملموسة، ويقود إلى القواعد والاستنتاجات الضرورية، إضافة لما هذه الطريقة في التعليم من أثر إيجابي في ذهن الطفل لأنها تخلق لديه اللذة وبهجة النفس وطول الانتباه والتركيز، لكونها تقوم على الفحص المباشر والمشاركة والتفاعل مع الأشياء التي تقع تحت نظره.

يتفق سبنسر مع فكرة سابقه يوهان هاينريش بستالوتزي القاضية بأن التربية يجب أن تكون مطابقة لأطوار العقل التي يتنقل بينها الأطفال. فأطوار العقل تتقدم وفق ترتيب وتناسق مطرد حتى يبلغ العقل في كل منها حدٍّا معلومًا. ويظل واجب الآباء والمربين إذن، هو إدراك حدود ومبلغ العقل في كل طور لكي يتسنى لهم تقديم ما يناسب أطوار عقول أطفالهم من المعلومات والمعارف مع مراعاة ما يطلبه وما يحتاجه الأطفال من معلومات. ويكمن دور المعلم هنا في خدمة أذهان الأطفال عن طريق مراعاة ميولهم وفضولهم المعرفي مع حسن اختيار الوسيلة النافعة لتربيهم وتعليمهم. وكلها أساليب تقود نحو بلوغ أسرار النجاح في التربية.

كما يؤكد انه أثناء تعليم الأطفال يجب مراعاة جملة من الأمور المهمة، أولها هو أن يتم الانطلاق من الأسهل إلى الأصعب، ومن البسيط إلى المركب، لأن العقل كسائر الأشياء النامية يتحول في نموه من هيئة بسيطة إلى هيئة مركبة؛ لذلك وجب أن يكون أسلوب التربية مجانسًا لحالة العقل؛ أي أن يبتدئ بسيطا، ثم يؤخذ في تركيبه شيئا فشيئا، لأن العقل لا يبلغ حد كماله إلا عند بلوغ الرشد، وعلى حسب مبلغه من النظام والدقة، تكون درجته في السداد والإصابة. ثانيا، يجب أن تكون تربية الطفل مطابقة في النظام والأسلوب لتربية الأمم، ويقصد بذلك أن يسلك في التعليم السبيل الذي سلكه النوع الإنساني قبل؛ لذلك يجب علينا أن ننهج بالطفل في أمر تعليمه القصد الذي نهجه العالم قدما. معنى ذلك هو أن تربية الطفل يجب أن تكون صورة دقيقة للمدنية بحذافيرها؛ أي أن تستجيب لوثيرة وإيقاع نمو المدنية. ثالثا، يجب في كل علم أن يهتم بمهارات السمع والنظر والاستدلال، لأن الطبيعة الإنسانية مجبولة على الاستعانة بالمسموع والمحسوس لتسهيل وظيفة العقل في الفهم والاستيعاب .رابعا، يجب الاهتمام وتشجيع مبدأ التعلم الذاتي .ومن خلاله يسعى الطالب إلى تعليم نفسه عن طريق إجراء عمليات البحث والفحص والاستدلال والاستنتاج .

الفصل الثالث : التربية الأخلاقية

في هذا الفصل المعنون بالتربية الأخلاقية ينتقد سبنسر بشدة استخفاف وإهمال الآباء لفكرة تربية وتأديب أطفالهم، ويدعوهم إلى تعويدهم على الخصال الحسنة والطيبة. ويشدد على فكرة صعوبة مهمة التربية لحاجتها إلى الفحص والبحث والمكابدة. الملاحظ أن هذه الطرق التقليدية في تربية الأطفال كما هو وارد في هذا الكتاب تتأسس على الزجر والتعالي والنهي والأمر والتكليف، وكلها طرق لا تنفع في شيء بقدر ما تقوض وتهدم عملية تهذيبهم وتحسين أخلاقهم. ولتجاوز أزمة التربية هذه، تم اقتراح البحث عن الأساليب العلمية الفعالة كوسائط ضرورية لتربية وتهذيب الأطفال.

كما تطرق هذا الفصل إلى مسألة عدم كفاءة الآباء في تربية أبنائهم، لأنهم أولا يدعون امتلاك صفات مثالية كالصلاح وحُسن الخلق والفطنة والذكاء وضبط النفس. وثانيا، لأنهم ينسبون كل الهفوات والعيوب للأطفال فقط. ومن نتائج ذلك الاعتقاد، قسوة الآباء وضربهم وسوء معاملتهم للأطفال ظلما وتسلطا، وهو ما يولد العناد والتمرد لدى الأطفال على أوليائهم، ويقدم بديلا إيجابيا لإصلاح نظام التربية العائلية يرتكز على لطف التدبير ورفق السياسة، لأن الأطفال بحكم طبيعتهم، في حاجة إلى الحنان والألفة والليونة واللعب. فمعاملة الأطفال بلطف ورفق، يقوم أخلاقهم ويزيدهم أدبا ويصقل طباعهم ويكونهم تكوينا يؤهلهم للاندماج في معترك الحياة، كما يفتح لهم أفاق النجاح الفردي والاجتماعي.

بعد ذلك، ينتقل إلى ذكر أغراض التربية الأخلاقية للأطفال ووسائلها. من أمثلة ذلك، مبدأ الجزاء من جنس العمل. والمقصود به هو عدم تدخل الآباء في معاقبة أبناءهم في كل زلة أو خطأ، وإنما يجب تركهم للطبيعة لتقوم بمهمة تأديبهم. والتأديب الطبيعي يقصد به مجموع الدروس والعقوبات الطبيعية أو التلقائية التي يتلقاها الطفل أثناء قيامه بفعل معين، كأن يمسك جمرة أو يصب ماء ساخنا على جلده فيحس بالألم الناتج عن الحرق. وتكمن أهمية هذا التأديب الطبيعي الذي يخلو من تدخل أبوي في تحذير وزجر الطفل من تكرار نفس الفعل الذي سبب له الألم. في هذا الصدد، يمكن التمييز بين عقاب الآباء وجزاء الطبيعة. فالنوع الثاني جدير بأن يدعى ثوابا وليس عقابا، كما أنه منصف وعادل لأن الطفل لا يتلقى من الألم أكثر مما يستحق، بينما يتصف النوع الأول بالتصنع والمبالغة والضرر.

في حالة قيام الطفل بتصرف غير سوي يقتضي تدخل الآباء، يقترح الكاتب أن يقابلوا ذلك بالعقوبات الطبيعية بدل ما يصطلح عليه بالعقوبات الأجنبية أو العقوبات غير الطبيعية. فمثلا، إذا رمى الطفل كل لعبه في كل الأرجاء وشوه رونق المنزل بفعلته تلك، يلزم مقابلته بالعقاب الطبيعي والقاضي بإصلاح ما أفسده وجمع ما نثره من ألعاب، لكن في حالة توبيخه أو ضربه فهذا العقاب ليس بالطبيعي المنصوح به في عملية تأديب الأطفال. فأثناء العقاب الطبيعي، يحس الطفل بالإنصاف والعدل لأن عقابه من جنس عمله وتصرفه، بينما في العقاب الأجنبي أو العقاب غير الطبيعي فالطفل يحس بالظلم والمهانة.

يتضح إذن، أن التربية بواسطة الجزاء أو العقاب الطبيعي لها إيجابيات عدة أولها، إكساب الطفل الحنكة الكافية للتبصر في عواقب تصرفاته مما يسمح له بالتمييز بين النافع والضار، ثانيها، إحساس الطفل بعدل الجزاء إذا رأى أنه لم ينَل من العقاب إلا كسب يده، وثالثها، أن الطفل إذا أقر بعدل الجزاء، وأنه من فعل الطبيعة وليس صناعة إنسانية، هان عليه الأمر، ولم يغضب بسببه، وإن كان من تنفيذ الآباء، رابعها، أنه إذا لم يكن هناك إحساس بالغضب أو الظلم بين الطرفين، أحس الآباء والأطفال معا بالاطمئنان وائتلاف القلوب والمودة المتبادلة.

وتتطلب المودة المتبادلة بين الأطفال وأولياء أمورهم من الأمهات على وجه الخصوص، عدم جعل نفسها آلة لعقاب الطفل. بدل ذلك، يجب أن تبني مع طفلها علاقة صداقة مليئة بالحب والألفة وأن تتركه يتعود اكتشاف الأشياء وفحص الأمور وبناء الحقائق بنفسه، لمعرفة نتائج كل تصرف من تصرفاته بدل قمعه وحرمانه من التجريب المفضي إلى التعلم. والحالة الوحيدة التي يمكن فيها للآباء التدخل هي عندما يقدم الطفل على فعل فيه خطر كبير كمحاولة إتلاف عضو من أعضاء جسمه أو نحو ذلك. أما فيما عدا ذلك، فيجب أن تتبع طريقة التحذير والرأفة والإرشاد المبني على المحبة، بدل المنع والقمع والتحفظ المؤدي إلى القلق والتحايل والكذب والغش والبحث عن الانتقام. يختتم هذا الفصل عن التربية الأخلاقية بفكرة مفادها ضرورة حرص الآباء على تقبل ضعف ولا كمال أطفالهم. وفقا لذلك، لا يجب أن يطمح بالأطفال إلى أكمل وأرقى مراتب الأخلاق. والمقصود هنا، هو ضرورة تجنب المغالاة والمبالغة في تربية الأطفال على الفضائل والقيم، لأن النضج العقلي للطفل لا يزال ناقصا ويحتاج إلى وقت لينمو ويكتمل.

الفصل الرابع : التربية البدنية

يقدم الفصل الرابع الخاص بالتربية البدنية مجموعة من التوجيهات التي تهم كيفية تربية الأطفال تربية صحيحة وسليمة من الناحية الصحية عامة والجسمية خاصة. يبدأ هذا الفصل بانتقاد الكاتب لنظرة قاطني الريف بإنجلترا حول التربية، إذ يهتمون بتربية الحيوانات والطيور، ويجعلون ذلك المهيمن في مناقشاتهم وجدالاتهم وبحثهم. في حين، يهملون شؤون أبناءهم الصحية والبدنية، لذلك فقليلا ما يكترثون لما يحتاجه أطفالهم من أغذية مفيدة وكفيلة بصلاح أجسامهم وحفظ صحتهم. كما ينتقد فكرة ترك الرجال أمر تربية الأطفال إلى النساء فقط، لأنهن لا يتعلمن سوى اللغات والموسيقى وشيئا من الفنون الكمالية أو إلى المربيات الجاهلات المشحونات الأذهان بالعقائد الفاسدة القديمة في التربية، وما لذلك من عواقب وخيمة على حياة الأطفال وتربيتهم.

يدعوا سبنسر الآباء، وبإلحاح، إلى الالتفات إلى أمور أبنائهم البدنية، لأن أول أسباب النجاح في الحياة هو تقوية جسم الإنسان، وهو أيضا من أسباب ارتقاء الأمم مستشهدا بكون صحة أبدان الجنود وشدتها يساعد الدول على الانتصار والغلبة في حالة الحرب. أما في حالة السلم، تساعد قوة الأبدان وصحتها على نيل الرزق وضمانه في ظل معترك الحياة، الذي لا يعترف إلا بالكد والعمل. فالاعتناء بتقوية أبدان الأطفال أصبح إذن من الضروريات التي يجب الاعتناء بها حتى يطيقوا تحمل أعباء الحياة، وحتى يبلغوا الاستقلالية داخل معتركها.

لتمكين الأطفال من تحمل أعباء الحياة، هناك عدة توجيهات ونصائح يجب إتباعها من طرف الآباء والمربين لتربية بدنية سليمة للأطفال. أولا، يحذر سبنسر الآباء من الغلو في الأمور المتعلقة بتغذية الأطفال كما كان معتاد لدى الأسلاف. يتجلى هذا الغلو في حض الآباء لأطفالهم على التناول المفرط للطعام والزيادة فيه دون حاجة لذلك، اعتقادا منهم أن ذلك يصلح لهم، أو الغلو في حرمانهم من الغذاء لما لذلك من مضار صحية وبدنية مثل إعاقة النمو السليم لأجسام الأطفال. خلاصة القول أن كلا من تقليل غذاء الطفل أو إكثاره عبارة عن عادات سيئة، لما فيها غلو شديد، وهفوة أبوية وتربوية يجب مراجعتها وتصحيحها.

كما يثير الكاتب انتباه الآباء إلى مسألة الشهوة لدى الأطفال، ويصفها، أي الشهوة، بأنها قائد الطفل في تناول طعامه. ويوجه الآباء إلى ضرورة عدم منع أو حرمان الأطفال من المأكولات التي يشتهونها لأن ذلك يولد انفجارا رهيبا فيما بعد، مستشهدا على سبيل الذكر، بحالة الراهبات في الكنائس اللواتي قد ينتهي بهن الأمر إلى الباطل والزنا والغواية بعد طول تعفف وزهد واعتكاف. ويقدم مثالين للشهوات الغذائية لدى الأطفال والتي لا يجب أن تقمع من طرف الآباء. الأولى تكمن في شهوة الأطفال وشغفهم لتناول الحلوى، وفي اعتقاده، فالحلوى تحتوي على السكر الذي يعد من أهم ما يحتاج إليه جسم الإنسان لأنه يتحلل ويمتزج أثناء تناوله بالأكسجين مما يحدث حرارة مفيدة للجسم. الثانية، تتمثل في ولع الأطفال بالأحماض النباتية الموجودة في الفواكه والخضر، وكلها أغذية صالحة لجسم الأطفال، وينصح بتجاوز الخلاف والتنافر الموجود بين احتياجات الأطفال الغريزية ونظرة الآباء التي تتسم بالحرمان والمنع. كما ينتقد إقدام الآباء على فرض مأكولات محددة وثابتة على الأطفال كالخبز واللبن في الصباح والشاي، والخبز والزبدة في المساء، في تحد صارخ لنداء وحاجات معدة الأطفال ورغبتهم الداخلية، لأن ذلك الصنف من المأكولات، دون شك، يتعارض مع شهوات وأذواق الأطفال التي تميل إلى الفواكه والحلوى والنباتات. يتبين إذن أن تدخل الآباء في تدبير معدات الأطفال عن طريق فرض أغذية محددة وكبح شهوة الأطفال في الحصول على أخرى يشتهونها، ينتج عنه أطفال دون نمو سليم، ودون أجسام صحيحة المصحوب بقلة الحركة والحيوية. ويعزى ذلك، إلى حرص الآباء على تدبير والتحكم في معدات الأطفال إلى الجهل بعلم الحياةbiology ، وموقفهم المقرون بالغرور والكبر الذي يحتقر أحكام الطبيعة وشرائع الغرائز والفطرة.

بعد ذلك، ينتقل إلى الحديث عن كمية الأغذية الحيوانية التي يجب أن تقدم للأطفال. وينتقد الرأي المألوف من طرف الآباء الذي يذهب إلى ضرورة إعطاء القليل من الأغذية الحيوانية للأطفال، ويوضح أن مثل هذا الرأي غير مبني على أسس علمية أو فحص فلسفي، وإنما أملته الظروف الاقتصادية على ذوي الثروة القليلة. لذلك، فحرمان الأطفال من اللحم لا يجب أن يكون قانونا متبعا من طرف ذوي الإمكانيات المالية الكافية، وهذا لن يتحقق إلا بتفادي التقليد وتأثير المربيات اللواتي غالبا ما ينتمين إلى الطبقة الفقيرة. كما يجب تفادي التعميمgeneralization ، والمتمثل في القول أن معدة الطفل ليست قادرة على هضم المواد الحيوانية، وهو أمر ينطبق فعلا على حال الرضيع والأطفال ذوي العهد بالرضاعة، لكنه لا ينطبق على الذين تجاوزوا الرابعة لأن معدتهم في هذا السن تكتسب القوة العضلية لهضم اللحوم. لذلك، فبدن الطفل في هذه الفترة يحتاج إلى اللحم وغيره من المواد الحيوانية لتعويض ما يفقده الجسم كل يوم بجهد العضلات وكد الأعصاب عند إِعمال الفكر، ونظرا لرقة أمعاء معدته لحركتها الدائمة، ونظرا لحاجة جسمه إلى النمو وإلى اكتساب المناعة والقوة الكافيتين تحسبا للأمراض والعلل.

كما تطرق إلى أنفع الأطعمة التي يجب أن تقدم للطفل. ويدعوا إلى تجنب الأطعمة الكثيرة المكونة من مواد أقل تغذية، وضرورة تقديم أطعمة قليلة لكن ذات قيمة غذائية وافرة وغزيرة وسهلة الانهضام لأنه كلما خف عمل الجهاز الهضمي كلما ازداد نشاط الجسم ونموه، وكلما شغل الجهاز الهضمي بمقدار كبير من الطعام الرديء، كلما أجهد الجهاز الهضمي لأن ذلك يتطلب مقدارًا وافرًا من الدم، ومقدارا كبيرا من جهد وكد الأعصاب. يعيب سبنسر عدم اهتمام الآباء والمربين بتنويع أطعمة الأطفال، ويؤكد أن كل من الأطعمة النباتية واللحمية تمنح الجسم القوة والنشاط وخفة الأعضاء وسلامة القلب، وتوقد الذهن وتؤدي إلى النمو. فتقديم وجبة واحدة من الطعام مثل اللبن والخبز والعصيدة بشكل متكرر ينافي القوانين الفسيولوجية، في حين أن التربية الغذائية الصحية للأطفال تتطلب الوفرة والتنوع والقيمة الغذائية العالية.

بعد الانتهاء من مسألة كيفية وكمية الغذاء التي يجب أن تقدم للأطفال لضمان نمو بدني سليم وللاستجابة لغرائزهم الطبيعية، يوجه سبنسر الآباء إلى ضرورة الاهتمام بملبس الأطفال، وينصحهم بعدم المبالغة في التخفيف أو التقشف في ملابس الأطفال بناء على فكرة متوارثة تقول بضرورة مخالفة ما تطلبه الحواس لتفادي الضلال. ويفند هذا الزعم بالقول أن الله لم يجعل من أجسامنا أعداءً لنا، وأن الضرر كل الضرر هو مخالفة طبع الجسد المتمثل في الرغبة في الاستمتاع بالحواس عن طريق الثياب واللعب واستنشاق الهواء النقي الخ.

تتحقق صحة الأطفال وسلامتهم أثناء توفير الثياب لهم، وهو ما تؤكده قوانين الفيسيولوجيا (وظائف الأعضاء)، إذ أن انتقاص حرارة الجسم ينقص من حجمه. كما هو الشأن عند سكان الجهات القطبية، فهم أرق وأصغر حجما من سائر البشر. ويكمن دور الثياب في درء الانعكاسات السلبية للبرد خاصة بالنسبة للرضع والأطفال الحديثي العهد بالرضاعة. ويشترط في الثياب: أولا، أن لا تكون ثقيلة جدا لتفادي إرهاق الطفل. ثانيًا، أن تقوم بتدفئة الطفل. ثالثًا، أن تُصنع من نسيج يوفر الحرارة مثل الصوف الخشن. رابعًا، أن تكون متينة لكي تقاوم أطول مدة لعب الطفل ومراحه. خامسًا، أن تكون ذات ألوان خافتة لتقاوم كثرة تعرضها للشمس.

ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن دور الرياضة البدنية لصحة ونمو الأطفال، ويعارض إغفال دور التربية البدنية بالنسبة للبنات وندرة تخصيص فضاءات رياضية لهن، لأن المربيات يعتقدن أن هناك بونًا بين خِلقة الذكر وخِلقة الأنثى، لذلك يتفادين أن يكون للبنات الخشونة والصلابة اللتين تجلبهما الرياضة البدنية، ويرين ذلك أمرا غير محمود يجب تحاشيه. لذلك، تسعى المربيات أن تشبه بناتهن أولاد الملوك ونبلاء القوم في الرقة وضعف الركن، متغافلين دور التربية البدنية في محاربة الملل وجلب الارتياح للجسم والابتهاج أثناء تحريك للأعضاء الحيوية، وبعث حركة الدم في الجسم والسلامة والعافية من الأمراض والنمو السليم. في مقابل ذلك، يحذر من المبالغة في بذل المجهود الذهني المؤدي إلى أقصى غاية الإعياء كمواصلة العمل من شروق الشمس إلى غروبها، أو سهر الليل كدحا واشتغالا أو عدم تخصيص وقت للرياضة أو فسحة للنفس كي تستريح فيها تلك الأذهان المتعبة والأجسام المنهوكة.

 

بقلم: (هربرت سبنسر)

Education; Intellectual, Moral and Physical

(Herbert Spencer)

ترجمة وقراءة: حمزة الشافعي- المغرب

...............

(1)John H. Goldthorp. HERBERT SPENCER (1820-1903). <http://jashm.press.illinois.edu/10.4/10-4Spencer_Goldthorpe207-212.pdf>. (15.03.2016).

(2) <http://ejtema3e.com/the-pioneers-of-social-thought/12-2013-07-28-15-06-58.html>. (15.03.2016).

(3) < https://philosophynow.org/issues/40/Forgotten_Philosophers_Herbert_Spencer>.) 15.03.2016).

(4) Turner, Jonathan H., Beeghley, Leonard, & Powers, Charles H. (2002). The emergence of sociological theory (5th ed.). Belmont, CA: Wadsworth Thomson Learning.

<http://www.bolender.com/Sociological%20Theory/Spencer,%20Herbert/The%20Origin%20and%20Context%20of%20Herbert%20Spencer's%20Thought.htm>. (20.03.2016).

(5) وقد ترجم هذا العنوان من طرف محمد السباعي كما يلي "أنفس المعارف". أنظر كتاب التربية لهربرت سبنسر. ترجمة محمد السباعي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، جمهورية مصر العربية، 2012.

 

 

في المثقف اليوم