قراءة في كتاب

جرح الزهرة ونزف الحياة في: هكذا انت وانا وربما نحن للشاعر بهنام عطا الله

1109 aliمن الاقرار المسبق في عدم سهولة كتابة نقدية عن منجز ابداعي شعري تراكمي نوعي، لتجربة شاعر مبدع مثابر في بلوغ طموحه المتصاعد بهنام عطا الله الذي يمارس ويكتب في جوانب عديدة في الابداع الادبي والثقافي عموما، والابداع الشعري تحديداً، لمدة تزيد على ثلاثة عقود من العطاء المستمر.

صعوبة الكتابة النقدية المعيارية او التقييمية لمنجز شاعر او قاص او روائي، او فنان بأمانة وصدق، تتأتى صعوبتها من اسباب عديدة، منها ان تناول النصوص، بلغة او اسلوب الانطباعات السريعة، سواء أكانت مجامِلةً، ام متحامِلةً، فلا فرق، ذلك لان غياب المنهج يوقع "الناقد" او الباحث في احد المطبيّن اللذين اشرنا لهما . لذا نجد كتابة الانطباعات المجاملة لسبب او لآخر او الانطباعات في الكتابة السلبية الجارحة، تكون في كلا المنحيين خطأ منهجيا قيميا تقويميا يبتعد كثيرا عن استحقاق النصوص في التعريف بمراميها القصدية التي يريد الشاعر توصيلها للمتلقي القارئ، يساعده المنهج النقدي في ذلك، ولا يشفع لهذه الكتابات أي الانطباعات السريعة التي تغمط ألق النص من جهة، وألق الجهد المثابر للشاعر من جهة اخرى، تعكزّها واستخدامها مفردات ومصطلحات حداثية تستميت في إلباسها النصوص، في الانشائيات القسرية لتطويع النصوص لمقولات تنظيرية تشتغل اساسا على التلاعب اللغوي المصطلحي، وليس على تفكيك معاني النص، بلغة غير محلّقة طوباوية لا يحتملها النص المكتوب, بل في المطلوب لغة سمتها الاحالة الواقعية الدلالية الحقيقية في سبر اغوار النصوص، والولوج في دواخلها المضمونية المعبّرة القريبة من توصيل دلالات ومرموزات النص لفهم المتلقي.

الكتابة الانطباعية التي لا تعتمد منهجا أدبياً واضحاً، تقع لا محالة وتسقط في متاهة دوران دائري حول النصوص وليس الكتابة التحليلية للنص كشكل ومضمون.

لم اطلع على إصدارات الشاعر بهنام الشعرية والسردية، ولكن حسب علمي انه اصدر خمس مجاميع شعرية، هي على التوالي، فصول المكائد 1969، إشارات لتفكيك ألق الامكنة2000، مظلات تنحني لقاماتنا 2002، هو في قمة الكلام 2008، وأخيراً مجموعته (هكذا انت وانا وربما نحن) 2012، وسبقني في الكتابة عن تجربة الاديب بهنام الشعرية المتصاعدة، وحتى عن هذه المجموعة الاخيرة،عديدين غيري من شعراء  ونقاد وصحفيين، بذاك القدر من النجاح والصدق، او بذاك القدر من الاخفاق والعجز، غالبيتهم استخدموا لغة الدوران حول النص، والابتعاد عن تسمية الاشياء بمسمياتها الحقيقية، مدللين على استعراض سعة آفاقهم الثقافية الوهمية في استخدامهم لمصطلحات اكاديمية مجتزأة ومقتبسة بعيدة عن التفكيك المنهجي المنظم للنصوص، متجاهلين ان الشاعر يكتب و يُسطّر بضميره وقلبه ووجدانه تمظهرات حياتية يومية، فجائعية عراقية واقعية نازفة، لذا لم تضف تلك الكتابات شيئا جديدا في دراسة تجربة الشاعر واغنائها وتأشير منجزه في تنوع التجريب الشعري عنده، خاصة اذا ما علمنا ان الشاعر موزّع الجهد والعطاء في ميادين واهتمامات وانشطة يقوم هو على تنظيمها في الادب والثقافة السريانية، وبحكم تدريسه في الجامعة، ضمن تخصصه في الجغرافيا، ربما تأتي كل هذه الاسهامات والاعباء عامل استنفاد الوقت الكافي لديه، في تموين ذخيرته الثقافية والشعرية بالجديد، واذكاء ملامح تجربته الشعرية الخاصة به.

ابدأ من عنوان المجموعة او ما يطلق عليه عتبة النص، او ثرّيا النص، كما هي في كتاب الباحث والقاص محمود عبدالوهاب، فأجد انه كان من الممكن ان تكون صياغة عنوان المجموعة، اكثر وحدة انسجامية دلالية متناغمة ومتداخلة في التماسك مع مضامين وموضوعات النصوص، والتماهي مع محتوى ومتن المجموعة كونها –أي المجموعة- تشتغل على ثيمة احادية الجانب تقريبا في التقاط الشاعر وقائع حقيقية انسانية، تتسم بالمظلومية والفوضى التي تستهدف الحياة، بكل تفاصيلها وتنوعاتها، جميعنا نحيا تفاصيلها بالساعة واليوم والأسبوع والشهر والسنة، وكنت اجد ان انسجام العنوان دلاليا مع مضامين النصوص الواقعية واشتغالاتها فنيا وجماليا، كان يأتي لو حذف الشاعر اللفظة الاستدراكية الزائدة من العنوان "وربما" ليكون العنوان اكثر شمولية وشفافية يفصح عن محمولات النصوص التي تخص فجائعية الواقع وتخص المجموع العام الشعبي فيكون العنوان "هكذا انت وانا ونحن" .

من الواضح ان العنوان صيغ بعبارة ذكيّة ولغة تعبيرية مفهومة بدلالاتها، ولم ينل من العنونة نقصا او عيبا انها كانت بلغة معبّرة بسيطة، فقيرة المدلول الشاعري المحلّق، فوق أرضية نصوصية لها علاقة تعالقية تواشجية مع العنوان.كما يفعل الكثيرون في اختيار عنوان وعتبة نص محلّق لا رابط له مع مضمون المتن.

والعنوان يتكون من ثلاثة ضمائر منفصلة، أنتَ او أنتِ للمفرد المخاطب بصيغة دلالة الجمع وانا ضمير المتكلم ايضا بصيغة التعبير عن المجموع وليس  ذاتية الشاعر فقط، والنحن ضمير الجمع، مبتدءا الشاعر العنوان، بمفردة تعميمية تفيد الجمع ايضا هي " هكذا" التي ابطلت الحاجة تماما لـ"وربما" فيكون العنوان،( هكذا انت وانا ونحن) وبذا لا يكون العنوان منفصما او منفصلا عن معاني ومحتويات النصوص ومضمونها . وتصبح "ربما" وجودها في العنوان لفظة زائدة استدراكية ليست ذات دلالة شمولية عامة تعمق دلالة التخصيص، بالعكس تماما لما أراده الشاعر من خلال نصوصه الشعرية في تجسيده لوجدان وضمير ومعاناة الجماعة في طرحه مصائب ومعاناة كارثية لنماذج إنسانية مسحوقة في اكثر من جانب من جوانب الحياة، ويحيطها الموت من كل حدب وصوب.

هكذا فهمت العنوان المكتنز بالدلالة الانسانية، والتعبير عن مأساوية حياة المجموع ولا عيب ولا مثلبة من ان تكون عنوانات الاجناس الادبية، وفي مقدمتها الشعر، عنوانات غير محلقة ولا منفصمة تماما عن المعنى المضموني بل التطابق مطلوب بين العنوان والمتن. ومن المهم برأيي ان يعبر ويتداخل العنوان مع المتن.

من الملاحظ جيدا، عنوانات وعتبات مجاميع شعرية، او قصصية او روائية، او نقدية، وسرديات اخرى عنوانات محلّقة فارغة، لا يربطها بالمتن رابط دلالي حقيقي يتضمنه الجنس الادبي علنا او يضمره في ثناياه داخلياً، وهي لعبة استنفدت نفسها مرتين، مرة في ادعاء كاذب بالعمق الثقافي للكاتب او الشاعر، ومرة اخرى فشلها في اللعب على ذكاء وذائقة القارئ الحصيف.

من مطالعتنا نصوص المجموعة نجد الشاعر، يعمد الى عملية سحب مقصود، في نقله المتلقي- القارئ من تلقي المدلول الخاص، إلى الهم والوجع الانساني العام، كشاعر يمتح في تجربته الشعرية الذاتية من واقع التعبير عن معاناة المجموع مبتعدا عما يفعله الآخرون في ترجيحهم الكتابة الذاتية المنغلقة على نفسها، وجعلهم الموضوع ثانويا في القول الشعري منتحين في ذلك توكيد "أناوية" تائهة في متاهة لا معنى ولا رصيد حقيقي لها.

نصوص المجموعة في غالبيتها تمثل التمركز حول حالة وجودية إنسانية عامة او اكثر من حالات مستمدة من واقع مأساوي عام، مليئ بالرعب والخوف والجريمة، هذه المواضيع العامة، لا تمثل لدى الشاعر اجتراراً ذاتيا وتهويما شعريا محلّقا في المطلق، بل هي حالات فجائعية تستفز الشاعر، وتستنفر أحاسيسه ووجدانه وضميره، في التعبير عن معاناة غيره من المجموع معقودي اللسان في التعبير عن همومهم، فيقوم الشاعر بتمثيل ضمير الجماعة الصامتة المغلوبة على أمرها التي يملأها الرعب والخوف، فالحالة الوجودية اللاانسانية المتلبّسة بخصوصية المشهد العراقي اليومي العام، تمثّل علامات استفهام تحزم الفرد والمجموع العراقي من قمة الرأس، والى أخمص القدمين . قلق دائم يهم مصير الجميع من دون استثناء، فالعراقي لا يجد أجوبة لتساؤلاته المصيرية، الخوف، الحيرة، الانكفاء، الصمت، فهي تساؤلات عقيمة صادمة، نازفة فاغرة أشداقها للموت المجاني، والشاعر هو الملاذ الأخير في التعبير عن كل هذه الهموم. وعندما لا يجد العراقي اجوبة تساؤلاته خارج ذاته، ينكفئ بتساؤلاته الى الداخل الجوّاني النفسي، من نحن ؟ ومن هو الآخر؟ ماذا نريد ويريده الآخر؟ كيف لنا ان نتعايش بأمن وسلام؟ كيف نتقاسم الحوار البناء الذي يجمعنا في المصير المشترك، بماذا نختلف عن الآخر وبمَ يختلف معنا؟ على ماذا نتفق ونتوافق وعلى ماذا نختلف؟ ما هي طموحاتنا التي صرّح بها شاعرنا بهنام: " لم تكن احلامنا سوى مصابيح تبحث عن رذاذ مطر / يستلقي على راحة النهر/ تدنو من اضغاث احلامنا / ثم تهرب باتجاه المنايا" ص127 من المجموعة. ما يريد الشاعر التعبير عنه اننا بالمأساة نحيا وبها نموت، ومع لحظة الموت يتراقص مشهد الضحية والقاتل، وعلى الرعب والخوف نصبح ونمسي، وباليأس والكآبة والحيرة، نتبادل الكلمات بترقب ثم نفترق على حوار الطرشان والخوف الذي يعقد اللسان. طموحاتنا كما يقول شاعرنا اضغاث احلام تقودنا بإرادتنا او من غير إرادتنا باتجاه المنايا على غير موعد ولا ميعاد. الشاعر  بهنام وهو يحمل هموم وطن ذبيح قتيلا من الوريد الى الوريد، جاءت في جميع نصوص وقصائد مجموعته الشعرية تعبيراً واقعياً، عن متاهة وجودية حقيقية نعيشها ونحياها، الشاعر هنا يمثّل لسان الاغلبية الصامتة، المرعوبة في حمله مشعل او مصباح الفيلسوف الاعمى الاغريقي " ديوجين"، الذي يمشي حاملا مصباحه المضيء في وضح النهار، مرددا وسط جموع الناس، اين الحقيقة، اني ابحث عنها، اين اجدها ؟، كما فعل الشاعر نجيب سرور في احدى نوبات، إقفال عقله على الجنون الوجودي وعن معاناته الألم صارخا: أريد ناس يا وطن، ومن وين اجيب ناس يا بلد؟

يقول شاعرنا بهنام حين تعطلت القلوب/ وهاجت الاناشيد / منذ رحيل الدفء من أحضان المساء/ يوم حشوّا الخوف بين الضلوع/ وهو يعرج عند اروقة الساسة/ ومحاجر المحاصصة/ من نص الشاعر ص124.

ادانة سياسية لم يستطع الشاعر لجم جموحها وانطلاقتها المأساوية على لسانه، باستخدامه لغة شعرية شفيفة من القلب للقلب، نحو واقع نحتاج فيه مصباح ديوجين، لفك ظُلمهُ وظَلامه، قساوته وهمجيته، واقع مأساوي مأزوم منشطر على نفسه، بمتواليات عددية وهندسية تصل تفاصيل الحياة الانسانية الغائبة والمغيبة ولا يكفي تشظي وانقسام هذا الواقع الى تفاوت طبقي بين غني وفقير فقط، وساسة وضيعون، همهم الوحيد تقاسم الغنائم، والامتيازات، والمحاصصة هذا لي وذاك لك، فساد مالي واداري، نهب اموال وثروات البلد، الذي يباع بالمزاد العلني، كل شيء فيه بدءاً من الانسان، وصولا الى التراث الحضاري وحتى الارض، كروش تنتفخ بالمال الحرام، وهياكل بشرية تنحف وتهزل من الجوع والحرمان، تموت بصمت في بيوت الصفيح، تقتات على ما تعافه كلاب الانسانية من الساسة العراقيين، والكلاب الحيوانية التي تدمر في طريقها الهمجي كل شيء . نعم كما يقول الشاعر بهنام: " زرعوا الموت/ واستفزّوا طفولتنا / فرحنا مرغمين/ نحو احداق المكائد/ نمضغ اللعنات" ص130من المجموعة، يا له من تعبير مدهش شعريا نمضغ اللعنات!! قمة اليأس والعجز عن فعل التغيير، وسط الظلام الاسود. حقيقة عقيمة مأساوية مقفلة.

في أبهى قصيدة تأسرك من العنوان، وتمنيت ان تكون هي عنوان المجموعة بأكملها " أؤرخ لدمعةٍ خفقت خلف شرفة" عنوان شعري شفيف بلغة موحية مكتنزة، تحتمل من التأويل والاثارة والاعجاب الشيء الكبير، يوظف الشاعر بهذه القصيدة ما يعرف نقديا بنسق التضاد الشعري الساخر بلظى المأساة، ليكشف عورات حاضرنا، ويشتغل على ايحاءات مرموزية واضحة ومفردات لغوية تتماوج خلل غيوم داكنة في تصوير حادثة مروعة، حصلت في الكرادة ببغداد، حادثة تفجير كنيسة النجاة، يقول الشاعر بهنام: "نقف على اعتاب الموت/ نقايضُ آخر ملوك الزمان/ أمراء الطوائف والولايات المنفلتة/ من اجل عطايا وهبات" ص42 إلى ان يصل بنا ذروة الفاجعة: "صبيّات تركن التفاهات في دفاترهن/ على درج الحرائق بين طين الفناء/ بعثرن شعرهن بالأوجاع/ هاجت العيون في ليل المكيدة" ص43 ويمضي "أتهجّى اسماء الموتى/ في وضح النهارات واحدا واحداً/ وفي قدّاس الشهادة الاخير/ وجوه رحلت واخرى ما زالت/ هكذا يتمطّى الموت/ بين العيون الغافية/ فيدخل الخوف عمدا بين قاماتنا/ يوقد الاسئلة الثكلى/ ويداهم كل الجهات" ص44. من القصيدة . قصيدة تعجز الكلمات عن الاضافة لها شيئا،موتٌ مجاني يلدُ أحزانا دائمية لا تندمل بسهولة.

قصيدة (بُعدك ايها القريب مسافة) ص46 من المجموعة يدهشك فيها عنوانها التصوفي - الفلسفي" المقتبس عن مرجعية مقولة المتصوف (النفري) التي ثبتها الشاعر كتصدير للقصيدة: "البعد الذي تعرفه مسافة.. والقرب الذي تعرفه مسافة، وانا البعيد القريب بلا مسافة". لاشك ان مقولة النفري تخص الاستكشاف العرفاني والاستبطاني التصوفي للذات الالهية.يوظفها الشاعر بناءا شاعريا في القصيدة من غير ما يمر بتجربة تصوفية حقيقية .

وبعد ان يمهد الشاعر بجملتين أو أكثر على نفس المنحنى التصوفي البلاغي اللغوي للنفري فقط حين يقول: امست المسافات قريبة الآن/ والقريب فيها بعيد/ والبعيد منها قريب، ص46 من القصيدة، سرعان ما تجد الشاعر ينقلب بـ"180" درجة من التصّوف الفلسفي، إلى الاسقاط الرمزي الواقعي الذي نعيشه ونحياه، بهذه الجمل الشعرية: "والقريب البعيد/ يرفل بالكوابيس/ يحمل في قلبه قصائد حزينة/ يتخذ منها صمتا ابديا/ الذئاب على الباب/ تصرخ تهذر تصيح/ والخناجر تحد من نصولها/ وانا احلم بالمستحيل/ اهرب من الدخان والحروب/ لم اعد احاور ضياعي/ خلسة من الغدر والذبح بالسكين. ص46-47.

هروب العراقي نحو الداخل، الذات والنفسية، واقع الحياة، منغصّات العيش بلا رحمة، تجعل من هروب أو رحيل العراقي ان شئت، رحيلا مزدوجا فرحيل العراقي، عن الوطن الام الجغرافي مجازاً، وليس الرحيل الوجودي الذاتي الذي يمثل الموت المجاني بلا سبب، ومن مفرداته التشرد، الحرمان، الفقر، والعراء، والحاجة، اما رحيل العراقي نحو الخارج، فهو يمثل غربة اللوعة والحسرة، النحن والآخرون القابعون في ضياع متاهة ما يسمى مجازاً وطناً بديلا أيضاً، هناك تجد في غربة المنفى الضياع الاجباري القسري، أو الطوعي الاختياري الذي لا يقاوم . يصدمك فيه تهجين الهوية، وضياع الانتماء، وجغرافيا المكان، وكآبة وحزن الزمن الذي لا يملك أحدنا غير ان "يمضغ اللعنات" كما اشار الشاعر المبدع بهنام، هذار عقيم عن النقمة غير المجدية، التي لا حل لها في المنظور القريب. ولا امل مطلوب يلوح في افق المستقبل.

في قصيدة الشاعر ضحايا البراءة ص 55 من المجموعة، يصور الشاعر حال الجموع المقهورة: "نتثاءبُ في حلم الهزائم/ تهرول مع القذائف/ القذائف التي تسحل ارواحنا/ إلى قامة القدر/ وهي تتشظّى مثل مرايا منكسرة/ تزرع خدوشها بين جباهنا/ وترسم بين فواجعنا ضحايا البراءة".

استطيع القول جازما باطمئنان بان قصائد مجموعة الشاعر بهنام، هي بمجملها الطاغي ما عدا استثناءات متناثرة هي مراثي، وتاريخ توثيقي لمرحلة من التاريخ العراقي الدامي المعاصر، ونتيجة عبثية كارثية مؤلمة، ضحايا البراءة، وضحايا كل ما هو جميل بالحياة، كل ما هو انساني في الوجود، هذا التاريخ لا يشفع له كل الارث، الحضاري العراقي الماضوي بمفارقة مؤلمة، كمرجعية لا يمكنها ان تلد كل هذا الدمار والخراب والكوارث، هذا التاريخ الحضاري العظيم، يستوحيه الشاعر من نشيد سومر الاول عنوان قصيدته ص66، يطرحه الشاعر كتاريخ وحضارة وهوية، للمحاججة والمفارقة غير المعقولة بين تاريخ متألق حضاري غابر وواقع مأساوي مؤلم فلا يمكن للحضارة ان تلد الهمجية وليداً من بعدها قائلا: "فرشنا عقولنا وقلوبنا/ مسلاّت والواح ومُقل/ ارسلت نورها على الارضين/ دونت اولى الابجديات بالعلم واليقين/ فانسابت الخيول تدكُ بسنابكها الطغاة والفلول/ شع نورها/ لمعت تقاويمها بيقظة الازمنة/ وغطّتْ الريح والافلاك/ نهضت اور وهي تحمل الحكمة/ شعلة الخصب والنقاء/ لانه هكذا قيل منذ البدء/ لا يليق بالملح ان يفسد". ص71-73 من القصيدة. كيف يليق بالملح ان يفسد وهو علاج الفساد والعفن !؟.

في الختام، اقول ان الحقيقة التي يبشر بها الشاعر من خلال حمله "مصباح ديوجين" ليست الحقيقة المادية ولا الفلسفية ولا الرياضية، ولا التربوية، وانما حقيقة ان نعرف أنفسنا كما اشار سقراط .

 

علي محمد اليوسف

 

في المثقف اليوم