قراءة في كتاب

العراق في رحلة مدام "ديولافوا" من المحمرة الى البصرة وبغداد

1128 aliديولافوا فنانة فرنسية زوجة مارسيل ديولافوا المهندس المعماري الذي اغراه الشرق وأراد ان يعرف عنه الكثير ولم يشف غليله ما قرأه عن الشرق فأراد أن يراه على حقيقته فيمم وجهه شطر هذا المكان من الكرة الأرضية عام 1881 على حسابه الخاص برفقة زوجته وكان العراق أحد محطات هذه الرحلة .

في سبتمبر 1881 ابحرت بهما السفينة الى نهر الكارون وبعد يومين وصلا المحمرة وبعدها إستقرا لبضعة أيام في البصرة التي تصفها ديولافوا بأنها " بندقية الشرق" حيث المرفأ الجميل والنخيل السامق والحقول الزاهية التي تخترقها مجاري المياه الرقراقة وفيها قطعان الجاموس والبيوت مختفية تحت ظلال غابات النخيل الكثيفة واشجار الليمون المثقلة بأثمارها ذات اللون الاحمر الجميل واشجار الموز بأوراقها العريضة التي تزيد هذا المشهد روعة وابداعا فضلا عن الزوارق الجميلة .(ص18 – ص19 )

لكن الملاحظ في البصرة في ذلك الزمان والى اليوم هو عدم إهتمام السلطات، بها وذلك ما كانت عليه السلطات العثمانية حيث السدود المهدمة والأوبئة المنتشرة إلَا أن ما أثار مدام ديولافوا كان هو موديلات الالبسة الجميلة في هذه المدينة فالنساء يلففن أنفسهن – بدل العباءة – بقطعة رقيقة من القماش تسمى (إيزار) وهي منسوجة من الحرير الأزرق أو الوردي أو الأبيض المصفر موشاة بأسلاك رقيقة من الفضة أو الذهب ويلبسن تحت الإيزار عادة ثوباً قصيراً قد وشيَ بالفضة أو الذهب .

والغريب الذي تشير اليه مدام ديولافوا أن حال المرأة ليس كحال الرجل، ومُقيدة بنوعية معينة من الملبس، أما الرجال المدنيون فلباسهم المتأثر بأوربا يقلل من قيمتهم بين السكان.

تشير الرحالة ديولافوا أن البصرة شيدت فوق أرض رسوبية وأنها لم تكن من المدن القديمة إذ لم تنشأ إلَا بعد وفاة النبي العربي بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب فقد إتخذ منها مركزا تجاريا وعسكريا مهما في العراق، تارة تكون تحت الحكم العثماني وتارة أخرى تحت الحكم الفارسي.

كان التمر من محاصيل هذه المدينة يصدر منها سنوياً ألوف الأطنان الى الخارج (ص29) وهي مدينة تعايش يسكنها جميع الطوائف " انك تجد النساطرة والسنة والشيعة والبابية والوهابية والمسيحية الرومية والمسيحية الكلدية والصابئة واليزيدية واليهود والأرمن وغيرهم كل بجنب الاخر وقلما يحدث نزاع بين أنصار هذه الطوائف التي تمارس كل منها شعائرها المذهبية الخاصة بمطلق الحرية والأطمئنان "، قارن ذلك مع وضع البصرة في القرن الحادي والعشرين .

كانت شركة لنج لندن، هي التي تنقل المسافرين من البصرة الى بغداد ولكنها "قذرة جداً" لأنها تترك لركابها حرية القيام بعمليات الطبخ والغسل في ممراتها وعنابرها. وهناك شركة عثمانية أسوء منها و لأن مدام ديولافوا كانت تريد الرحيل الى بغداد وعلى وجه السرعة فقد ركبت احدى سفن هذه الشركة وقد وصفت مدام ديولافوا سلوك العثمانيين بأسوء وصف لاسيما قبولهم الرشوة وإبتزاز الناس لاسيما الأجانب. مرت السفينة بمدينة "القرنة " والتي تصفها بأنها كانت تسمى " جنة الأرض " ! (ص36) ، ولكنها عند العثمانيين لايطالعك فيها إلا ساحل قذر تغطيه مياه الفيضان وموطنا للأمراض كما تستخدم محلا للجواميس .

بعد مرورها بعدة مدن لم تستقر بها وصلت مدام ديولافوا الى المدائن "سلمان باك" عاصمة كسرى أبرويز، إذ تقول عندما يدخل الانسان في هذا البهو العظيم يُؤخذ بالرهبة منه ويستولي عليه العجب العجاب لضخامته وعظمته على الرغم من مرور تلك العصور المتلاحقة من تاريخ انشائه وتصفه بكل جوانبه وأبنيته بإعجاب (ص42 – ص48) .

أهم ما لفت نظر مدام ديولافوا بعد دخولها بغداد والاستقرار بها ملاحظتها وضع النساء فيها فقد وجدت أن أكثرهن يعانين الأذى لما يؤمن به الاهلون بعادات وتقاليد غريبة.

شاهدت قوافل الزوار حينما يتجهون الى الكاظميَن "يحيط بها الأطفال السائبون ويأخذون في إسماع أفراد تلك القافلة قارص الكلم وجارحه في وسط زوبعة من الهرج والمرج ... ولا يستطيع الزوار إقامة دعوة في المحاكم، فالمسؤولون الترك - في الواقع - يشجعون تلك الحوادث و ربما تحدث بوحي منهم " ص76 – ص77 .

تذكر الرحالة وجود مدرستين فرنسيتين واحدة في بغداد وأخرى في البصرة يتعلم فيها العراقيون من جميع الطوائف اللغة الفرنسية " تؤدي هاتان المدرستان نتائج بعيدة في تثبيت نفوذ فرنسا في الشرق وتوسيعه وإني لمست آثار ذلك خلال سفرتي هنا وهناك بحيث أثلج ذلك صدري" (!!) (ص77) ، كيف لا وهي الفرنسية التي جاءت وأحد دواعي سفرها هو هذا الامر .

وما لفت نظرها واعجابها واعجاب الراهبات المدرسات في المدرسة الفرنسية " ذكاء ونبوغ أطفال هذه البلاد " (ص78 ) .

أما فيما يخص أثر الحضارة الغربية على مناطق الشرق فتشير مدام ديولافوا الى القول أن نقل الحضارة الغربية الجديدة الى الشرق والعمل على تمدينه وتلقيحه بمبادئ هذه المدنية المادية الحديثة يبدو مستحيلا لأن ماكنة الحضارة الغربية بإعتقاد ديولافوا معقدة بحيث لا يستطيع أن يقوم بها شعب من شعوب الشرق الجاهل الساذج هذا ...(!!)

لذلك ينبغي علينا أن نُوجد مبادئ أخرى نستخلصها من روحيتهم وميزاتهم النفسية عندئذ تكون سياستنا نحوهم ناجحة ومفيدة ص83 .

من الأشياء التي يجب أن يقوم بها الغربيون هو تغيير إنطباع الاتراك عن الغرب والمسيحية لأن " في قلوبهم حقداً دفيناً للنصارى ويكرهونهم كرهاً شديداً ذلك لأنهم يروننا كفارا وخارجين عن كتاب الله وسنته فيجب الحذر منهم والابتعاد عنهم ما إستطاعوا الى ذلك سبيلا (!) ثم لأننا نريد تغيير عاداتهم وتقاليدهم الشرقية بما نمتلك من ثقافة وعلم. وخلاصة القول أنهم ( الأتراك الشرقيون) يعدون معلميهم من الاوربيين أحقر وأقذر من الكلاب السائبة " ! ص86 .

وحين دخلا الى بغداد ( مدام ديولافوا وزوجها ) وجدا "أن النساء يرتديَن ملابس فضفاضة تغطي أجسامهن من قمة الرأس الى أخمص القدم " ص62. فضلا عن ذلك ففي هذه المناطق يحظر على النساء أن يشاركن الرجال في أعمالهم أو التواجد في أماكن عملهم. ص63 .

أما إسم بغداد فهو كما يعتقد المؤرخون الأولون يعني "هدية الله أو إنعام باك" وباك هذا هو إسم صنم قديم كان يقدسه الكلدانيون، أما في إعتقاد العرب فأنه حرف من كلمة " باغ " التي هي البستان في اللغة الفارسية و "داد" الذي هو أحد الزاهدين النساك والعلماء وكان يملك بستانا في هذا المحل بعينه لذلك سميت هذه المنطقة بأسم " باغ داد " أي بستان داد ويقال (باغ داد) أي بستان العدالة نسبة إليه وسميت هذه المدينة بهذا الإسم عند تأسيسها . ص64

تشير الرحالة مدام ديولافوا الى أن هذه المدينة التي أسسها المنصور كانت مأهولة بالسكان، وفيما أسس الخليفة العباسي جسرين عائمين يربطان الضفتين (ضفتا دجلة) (الكرخ والرصافة) إحداهما بالاخرى، وعلى إثر هذا أخذت بغداد تتوسع وأصبحت إحدى المدن المهمة في العالم يوم ذاك، وهو ذات الوقت الذي كانت أوربا غارقة في ليالي الجهل والوحشية كانت بغداد هذه موطن العلم والمعرفة ومركز الإشعاع في الدنيا كلها .ص65

لم تغفل مدام ديولافوا الاشارة الى الصراع الفارسي العثماني، إذ تذكر كيفية دخول "آل بويه" الى بغداد وصراع السلاجقة وإستحواذهم عليها، وإحتلال بغداد كان يتم بالتناوب بينهما، الأمر الذي أجج الصراع الطائفي في هذه المدينة . ينظر ص66- ص68

وهذا ما نوه إليه الوردي في كتاب لمحات اجتماعية والذي نظر اليه بوصفه احد الاسباب الرئيسية في تأجيج الصراع الطائفي في تاريخ العراق .

تذكر هذه الرحالة أن مدينة بغداد في أيام رحلتها أغلبيتها من الطائفة السنية وتذكر سوء تصرف أبناء الطائفة السنية مع الشيعة. وبغداد اليوم ليست بغداد الأمس، فأغلبيتها من الشيعة، لا من السنة.

أما أسباب التخلف وإنهيار الدولة العثمانية فمنها كما ترى" تعدد الزوجات، ومنها الإعتقاد بالقضاء والقدر إعتقاداً راسخاً، وهذا الأمر الأخير تتميز به السنة أكثر من الشيعة، لأن الشيعة معتدلون في سلوكهم ومسيرتهم، فطائفتهم تؤمن بجانب سلطة القضاء المحمي بإختيار الانسان وأثره فيما يأتيه من أعمال" ص86.

أما " كثرة الزوجات فقدأدت (بنظر ديولافوا) بالرجل المتزوج من أكثر من إمرأة الى أن يقوم بأعمال كثيرة ولا يتورع حتى عن المسائل غير المشروعة لكي يستطيع سد نفقاته المتزايدة " ص86 ، لذلك نجده منهك القوى فضلا عن لجوئه للرشوة، الأمر الذي أدى الى خراب هذه الأمة .

أما القضاء والقدر فقد دفع بكثير من المسلمين الى الإعتقاد بالجبرية والقدرية إعتقاداً مطلقاً حتى صاروا أناساً كسالى متوانين وتركوا جميع أشياءهم في كف القدر. ص87 ، ومن الآثار التي تتركها عقيدة القضاء القدر " انها تجعل منهم ناسا لا مبالين خانعين لا يجشمون أنفسهم عناء التفكير في الغد وما يحمله لهم، ولا يضعوا خططاً لمستقبل حياتهم وحياة اولادهم ".

وقد وجدت المستشرقة أن اليهود كانوا أكثر قوة لاسيما ما يتعلق بسيطرتهم التجارية والاقتصادية، أما أحياءهم فإنها تختلف عن أحياء المسلمين، فالمنازل ذوات شبابيك ومشارف ذوات سياج حديدي تطل على الأزقة، والنساء اليهوديات عادة منزوية في البيت ويملن الى إقتناء الذهب والجواهر النفيسة والألماس (ص106) وهذا دليل عدم التفرقة والتعايش السلمي بين أطياف المجتمع العراقي، فالأقلية فيه محترمة وتتميز بنفوذ واضح ولم يثر هذا حفيظة الأكثرية في ذلك الوقت.

تناولت المستشرقة الصراع بين السنة الشيعة، إذ نجدها بحكم معيشتها في إيران وبحكم إطلاعها البسيط على بعض عقائد المسلمين تجزم على أن الحق مع الشيعة في إعتقادهم بولاية علي (ع) وتقول "أن هذه المسألة أصبحت جلية لا تحتاج الى نقاش أو جدل بحكم قربه من النبي (ص) لذلك أراني احترم الإيرانيين واجلهم لأنهم يؤمنون بحق علي في الخلافة " ص126.

المستشرقة بشكل عام نجدها أكثر احتراما للإيرانيين مقارنة بالأتراك، وتعتقد أن الشعب الإيراني أكثر تحضراً من الشعب التركي، وأعتقد أن حُكمها هذا المتعلق بتقديرها للإيرانيين كونها قد زارت المناطق التي هي تحت الحكم العثماني، فشاهدت معاناة أبناء هذه المناطق وحالة التخلف والجهل والإهمال بسبب حُكم الاتراك السيء، فضلا عن فساد الموظفين الترك في هذه المناطق، إذ نجدها تقول حينما زارت الحلة "يسكنها اليوم خمسة عشر ألف نسمة تقريباً وهم خليط من العرب والكلدانيين واليهود وجماعة من الشيعة الإيرانيين ، وموظفي الباب العالي ، والطائفة الأخيرة تجدهم في أي بلد تحت سلطة العثمانيين وكأنهم السرطان الذي يفتك بجسم تلك البلدان ... " ص130- 131

من كل ذلك نستطيع القول ان الرؤية الاستشراقية في هذه الرحلة تقوم على الإستفادة من علوم الانثروبولوجيا ودراسة واقع المجتمعات البدائية والنامية بغرض الإحاطة بأخلاقيات وعادات هذه المجتمعات لمعرفة كيفية التعامل معها وإستثمار طاقاتها البشرية والمادية خدمة للنزعة الكولنيالية التي دفعت باتجاه تطوير الدراسات الاستشراقية ، لذلك نجد مدام ديولافوا في رحلتها للعراق تنظر الى هذا المجتمع بوصفه مجتمعا تنقصه الخبرة ويسوده الجهل على الرغم من التوافق الاجتماعي بين فئاته وهي تعتقد أن هذا المجتمع لديه القابلية على النهوض في حال إستطاع التخلص من الهيمنة العثمانية، والرحلة في طياتها تحمل دعوة الى الدول الاوربية الى تخليص هذا المجتمع من الاحتلال العثماني ، بمعنى آخر إبدال إحتلال الشرق للشرق بإحتلال الغرب للشرق، مبررة هذا الإحتلال بكونه من واجبات المجتمعات المتقدمة تجاه الدول الأقل تقدماً أو المتخلفة (!) منطلقة بطبيعة الحال من مقولة مركزية الغرب وهامشية الشرق وإن بقيت ديولافوا منبهرة بسحر الشرق وروحانيته .

 

الكتاب : رحلة مدام ديولافوا (1299 هـ - 1881 مـ)

ترجمها عن الفارسية : علي البصري

مراجعة وتقديم : د . مصطفى جواد

مكان النشر : الدار العربية للموسوعات ط1 ـ بيروت 2007    قراءة تلخيص : د. علي عبد الهادي المرهج

حجم الكتاب : 17 سم X 24 سم

عدد صفحات الكتاب : 176 صفحة

 

 

في المثقف اليوم