قراءة في كتاب

حكايات من ليالي العنف.. سيرة الآخرين بعين سينمائية

adnanhusan ahmadصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت كتاب "حكايات من ليالي العنف" للناقد السينمائي الأردني عدنان مدانات وهو طبعة مزيدة ومنقّحة لطبعة أولى مقتضبة ومحدودة لم تنل حقها من التوزيع في سنوات الانحسار الفكري. لا يصنّف المؤلف كتابه كسيرة ذاتية له وإنما كسيرة للشخصيات الأُخر التي تحرّكت على مدار النـص، وأكثر من ذلك فهو يقدِّم صورة بانورامية لمدينة بيروت التي عاشت عنف الحرب الأهلية لخمس عشرة سنة، وصورة مُوجزة لكنها شديد الدلالة عن عنف التحقيق الأمني الذي شهِدته مدينة عمّان قبل ولوجها إلى الفضاء الديمقراطي المُراعي لحقوق الإنسان.

يتضمن الكتاب شذرات متوهجة من السيرة الذاتية لكاتب النص لكنها لا تأتي في المقام الأول لأنّ همّهُ الأساسي منصبٌّ على تتبّع ظاهرة العنف الذي تَشَكّل في النفوس وصار جزءًا من سلوكهم اليومي خلال سنوات الحرب الأهلية المقيتة التي اشترك فيها كل مكونات الشعب اللبناني لكن المؤلف تفادى التعريف بالشخصيات والجهات التي تنتمي إليها لأنه لم يكن "معنيًا بالخاص بل بالعام، وبالفكرة وليس بالحدث، وبالسلوك وليس بالأشخاص"(ص10).

يتألف الكتاب برمته من مقدمة وفصلين يتناول فيهما الكاتب ظاهرة العنف في بيروت وعمّان وليس من المستغرب أن يستهل كتابه بالعنف الطفولي الذي انتقل من الكبار إلى الصغار فبينما هو يمشي في زقاق ضيق شعر بضربة قوية على رقبته وسقوط خِيارة على الأرض رافقتها شتيمة بذيئة وحينما رفع رأسه شاهد طفلاً متحديًا لم يتجاوز عمره سنّ السادسة في أفضل تقدير وكلاهما لا يعرف الآخر، فمن أين تسربت شحنة العنف إلى هذا الطفل؟

لم يشهد مدانات أحداث أيار عام 1973 حينما اشتبك أنصار اليمين المسيحي مع أتباع التنظيمات اليسارية والقومية ولكنه عاشها من خلال ذكريات الناس وأحاديثهم عنها. وبما أنه ناقد ومُخرج سينمائي فلاغرابة أن يلتقط التناقضات التي تجتمع في شخصيات أصدقائه ومعارفه الجدد. فجورج، الشاب اللبناني الأنيق، الذي يتقن اللغة الفرنسية، ويكتب في مجلة أسبوعية، ويهوى التصوير، ويحب مشاهدة الأفلام، لكنه يتحدث عن الاشتباكات التي كانت تدور بين التنظيمات المتناحرة بحماس متقد، ولذة كبيرة، فكيف جمع هذا الصحفي اليساري الأنيق بين الشخصية المثقفة الأليفة وبين المقاتل العنيف الذي يدرِّب الشباب على استعمال السلاح؟ ينتقي مدانات نموذجًا آخرَ لشخصية مزدوجة وهو الفنان سمير الذي يسكن في بيت جميل تكتظ جدرانه باللوحات التي تنمُّ عن ذوق رفيع لكنه فاجأ الراوي حينما أسمعه تسجيلاً لأصوات الطائرات وهي تقصف مخيمًا قريبًا، فما علاقة التشكيل بالانفجارات ودويّ القنابل؟

يعتقد مدانات أن العنف الفردي أصبح جزءًا واضحًا من مكونات الشخصية اللبنانية، إذ"لم يعد إطلاق الرصاص وحده يكفي لإشباع العواطف المتأججة فانتشرت عادة تفجير القنابل الصوتية وأصابع الديناميت في الأعياد والأعراس والاحتفالات"(ص25) وفي السياق ذاته ثمة معلِّم عاشق فجّر منزل عائلة حبيبته لأنهم رفضوا تزويجها إياه! وهناك ضابط برتبه عقيد شوّه بماء النار وجه عشيقته التي تخلّت عنه. كما بدأت عمليات الاختطاف تأخذ طريقها في المجتمع اللبناني بغية الابتزاز المادي أو الانتقام السياسي. وفي هذه الحقبة تحديدًا انتشرت عبارات جديدة مثل "حواجز مُفاجئة"، "مُظاهرات طيّارة"، "ممرات سالكة" وما إلى ذلك، كما شاعت أفلام الكاراتية التي تحظّ على العنف في الصالات السينمائية. وفي العام 1975 عرض المخرج مارون بغدادي فيلمه الروائي الطويل الأول "بيروت يا بيروت" الذي رصد فيه ظاهرة العنف الطلابي المسلح واستعداد حزب الكتائب لخوض المعركة. ويعتقد مدانات أن هذا الفيلم "كان بمثابة نبوءة عن حرب أهلية حقيقية وشيكة الحدوث"(ص28).

تختلف الآراء كالعادة بشأن بداية الحرب الأهلية، فالمؤلف يعتقد أنها بدأت بسبب حادثة الاعتداء على حافلة كانت تضم فلسطينيين عائدين من حفلة عرس في "عين الرمّانة"، بينما يعتقد آخرون أن سبب اندلاع الحرب هو محاولة اغتيال الزعيم الماروني بيار الجميل. وعلى الرغم من الاختلاف على الأسباب فإن ما يهمنا هو روح العنف التي تغلغلت في نفوس اللبنانيين وخاصة الأطفال الصغار الذين كانوا يشنّون معاركهم ببنادق خشبية أو يتراشقون بالحجارة وكأنهم في ساحة حرب حقيقية.

تعرّض المؤلف وسارد النص السيري إلى مخاطر عديدة فطلقة الذبّاح الذي كان يسكن في الطابق السادس من عمارة "القصر" في حي "أبو شاكر" أزّت بالقرب من أذن الراوي وكادت أن تودي بحياته. كما تعرض للخطف هو وصديقه زيد ولم يُطلق سراحهما إلاّ بعد أن تأكد الخاطفون بأنهم عربًا وليسوا فلسطينيين.

يترجّح مدانات بين الحديث عن سيرته الذاتية وسير الآخرين. فبعد عملية الخطف يتوقف عند حادثة "انفجار الفرن" نتيجة قصف عشوائي فنعرف أنه يقشعر من منظر الدماء، ويخاف من إبرة الطبيب، ويخشى من إجراء عملية جراحية في أي مكان من جسده، وكان ينصح مصوِّره بألا يصور اللقطات الشنيعة التي تسبب الذعر والغثيان للمشاهِد العادي.

يتوقف الراوي عند عدد من الشخصيات التي تُظهر عنفًا في سلوكها وردود أفعالها مثل طاهر الذي يشهر مسدسه الكبير كلما أراد تخويف المتطفلين وإرعابهم. وينتقد ظاهرة "القبضايات" الذين يسخّرون قوتهم لمن هم أقوى منهم في المركز والثروة والجاه مثل التجار والإقطاعيين والسياسيين الكبار، بينما كان "القبضاي" سابقًا رجلاً شهماً، يحارب الباطل، وينتصر للمظلوم.

يرصد المؤلف ظاهرة القنّاصة الذين يستشري العنف في نفوسهم إلى درجة الإجرام. فثمة طبيب يمارس القنص في أوقات فراغه! وهناك طالب جامعي يدرس علم الاجتماع ويقنص ضحاياه بحجة ولعه بالصيد. وقد بلغت هذه الظاهرة ذروتها حينما بدأ بعض الشباب يزاولون القنص بحثًا عن الإثارة والترفيه.

يُعتبر "غرام في زمن العنف" هو الموضوع الترويحي الوحيد الذي يهشّم قساوة النص ليحيلنا إلى عالم الأنوثة والرقة والجمال، فثمة سيدة أنيقة وجميلة تعمل موديلاً للرسامين وترتدي ملابس مثيرة. وحينما تحضر حفلاً وطنيًا يستدعيها أحد المسلحين إلى المكتب ثم يطلب منها أن يفتش بيتها لأنها اعتقدت أنّ التفتيش "ضرورة وطنية" لكنه يتمادى فيطلب منها قُبلة لأنه أحبّها من أول نظرة.

على الرغم من فظاظة شخصية "سبع" وقساوته في التعامل مع الحرس والجنود إلا أنه لا يخلو من حسٍ إنساني مرهف، فهو يعتقد "أن قتل أي إنسان هو أمر بشع حتى لو كان عدوًا"(139). وحينما اقتربت منه الدبابة المعادية لم يتذكر إلاّ اللحظات السعيدة وعندها أدرك أن الحياة جميلة وأن الموت بشعٌ جدًا.

لا ينطوي الفصل الثاني من الكتاب إلاّ على سلسلة تحقيقات مضنية ومهينة لإنسانية الإنسان. فحينما أنهى مدانات دراسته الجامعية في موسكو عاد إلى الوطن كي يعمل مُخرجًا في تلفزيون بلاده لكن الجهات الأمنية نصحت بعدم تعيينه لأنه كان يساريًا، وأذلّته في سلسلة من التحقيقات العدائية المتواصلة التي أسفرت عن سحب جوازه ومنعه من السفر لثماني سنوات فقدَ فيها الكثير من حماسه المتقد، وأحلامه الجميلة، ورغبته الجدية في خدمة بلده لكن المُحققين آثروا أن يقبروا هذه الرغبة في مهدها لأنه لم يستطع تقديم "شهادة حسن السلوك" إلى جانب شهادة الماجستير في السينما التسجيلية والتلفزيون التي حصل عليها من أرقى الجامعات الفنية في موسكو.

 

لندن: عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم