قراءة في كتاب

محمد السيد سعيد لايزال بيننا

دراسة أكاديمية تعيد قراءة منهجه الفكري وأطروحته السياسية وآثاره الفلسفية

يصعد اسم المفكر المصري الراحل محمد السيد سعيد مثل حلم شفاف يظهر من بين ضباب كثيف يغطي سماء وطننا العربي ، حلم لمفكر مصري وعربي يؤمن إيمانا واضحا بأن الأمة العربية حبلي بجنين ثوري .. ولكن محمد السيد سعيد ترجل راحلا في العام 2009 ،أي قبيل هبوب رياح ثورات الربيع العربي، تاركا ثروة فكرية وعلمية فذة ، ومكانا شاغرا لم يستطع غيره أن يملئه ..هذا هو الدكتور محمد السيد سعيد الذي اجتهد تلميذه النبيل والنبيه أحمد منيسي الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتجية في إلقاء الضوء علي نتاجه ومشروعه السياسي والفكري وذلك في رسالته لنيل درجة الدكتوراه من معهد البحوث العربية بالقاهرة حول المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد والذي يراه منيسي ينتظم في مجالين أساسيين: أولهما، خاص بمنهاجيته في التحليل التي تركز على دراسة الأفكار والمبادئ والرؤى الخاصة بالنهضة والإصلاح. وثانيهما، ينصرف إلى المجالات التي يقع فيها هذا المشروع، والتي تنوعت لتشمل قضايا كثيرة عملية وفلسفية. وثمة جانب شديد الأهمية في هذا المشروع، يتمثل في أن صاحبه لم يقتصر على تقديم اجتهادات ورؤى فكرية ونهضوية بخصوص القضايا التي عاصرها، بل إنه توجه مباشرة إلى الواقع محاولاً تطبيق ما ينادي به من إصلاح، لينضم بذلك إلى كوكبة من كبار المفكرين الإصلاحيين الذين أقاموا علاقة وثيقة بين الفكر من ناحية والعمل المجسد له من ناحية أخرى.

تناول أحمد منيسي في رسالته هذه طبيعة المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، وذلك من حيث سماته الرئيسية ومراحل تطوره، بهدف بيان هوية هذا المشروع وما لحق به من تحولات أو تطورات وما قدمه من أفكار عميقة وحيوية للإصلاح والتطوير في مجالات ثلاثة: أولها، الأوضاع في مصر، وثانيها، النظام العربي والقضايا العربية، وثالثها، النظام الدولي والعلاقات الدولية. كما سعت الدراسة إلى بلورة وتحليل الإسهامات النظرية التي قدمها الدكتور محمد السيد سعيد، كواحد من المفكرين، الذين كانت لهم أفكارهم وأطروحاتهم وتصوراتهم الفلسفية العميقة في الكثير من القضايا النظرية.

وقدمت هذه الدراسة الإجابة عن عدة تساؤلات رئيسية، أبرزها العوامل الأساسية التي أثرت في التكوين الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، والتي تركت تأثيراتها العميقة على مشروعه الفكري، وطبيعة هذا المشروع والركائز الأساسية له ومعالمه الرئيسية، والإسهامات الرئيسية له في ما يتعلق بمجال حقوق الإنسان، الذي كان ركيزة مهمة في هذا المشروع، والإسهامات النظرية والفلسفية الرئيسية التي قدمها في ما يخص قضايا ومفاهيم أساسية، مثل السياسة والقوة والديمقراطية وغيرها، وكذلك ما هي الإسهامات الرئيسية التي قدمها في مجال الإصلاح والتطوير في مصر، وفي ما يخص تطوير النظام العربي والقضايا العربية الرئيسية، وتطوير النظام الدولي والقضايا والمشكلات الدولية الأساسية؟.

تناول الفصل الأول من هذه الدراسة التعريف بالدكتور محمد السيد سعيد والعوامل التي أحاطت بمشروعه الفكري، حيث تناول المبحث الأول السيرة الذاتية والمسيرة العملية، فيما ناقش الثاني العوامل التي أحاطت بهذا المشروع الفكري، حيث خلصت الدراسة إلى أن هناك ثلاثة مسارات أساسية في المسيرة المهنية للدكتور محمد السيد سعيد: أولها، عمله من خلال مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام الذي امتد على مدار نحو أربعة عقود، حيث كان مركز الثقل الفكري وصاحب المقام الرفيع في هذه المؤسسة البحثية التي ضمت قامات فكرية معتبرة في مراحل تطورها المختلفة. وثانيها، عمله في مجال حقوق الإنسان ميدانياً وفكرياً، وهو المسار الذي بدأه مع عودته من الولايات المتحدة في نهاية الثمانينيات، وعلى الرغم من أنه كان من رواد الحركة الحقوقية في مصر، فإن ذلك لم يمنعه من تقويمها موضوعياً، بما لها وما عليها. وأخرها، تأسيسه لجريدة "البديل"، كمنبر صحفي يعبر عن فكر التوجه اليساري وأولوياته. وقد كان الهدف أن تكون الجريدة الصوت المطالب بالعدالة الاجتماعية، والناطق باسم من لا منبر لهم، وأن تكون منبراً للأصوات الجديدة والناشئة التي تناضل من أجل الفقراء وتطالب بالشفافية والمحاسبة وأن تكون أداة لحشد الطاقات وتعبئة الجهود من خلال صوت مخلص ونزيه.

وخلال هذا الفصل تعرض الباحث أحمد منيسي إلى انخراط الدكتور محمد السيد سعيد كفاعل في الحياة السياسية، حيث امتدت المشاركة السياسية له لأكثر من أربعين عاماً، وبدأت بدوره في الحركة الطلابية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، وكانت نهايتها بدوره في تأسيس الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" ومشاركته الفاعلة في الحراك السياسي الذي شهدته مصر في العقد الأخير من حياته، والذي انتهى إلى تفجير ثورة 25 يناير 2011. وفي هذا السياق تم استنتاج أن تجربة الدكتور محمد السيد سعيد في مجال العمل العام، تكشف عن بحثه الدائم عن الجديد الذي يستطيع من خلاله توسيع رقعة النضال وإخراجه من صيغه التقليدية، فكانت له البصمة الواضحة في قضايا المجتمع المدني، بالتحريض والعمل على إنشاء مراكز حقوق الإنسان.

وفي سياق تحليل العوامل المتعددة التي أحاطت بالمشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، حللت الدراسة تلك العوامل الخاصة بالنشأة الاجتماعية والتكوين العلمي والمهني، ومنها ما يتعلق بتأثير الأسرة وبانتمائه الجيلي إلى واحد من أهم الأجيال في تاريخ المجتمع المصري؛ وهو جيل السبعينيات، الذي فجر الحركة الطلابية في العامين الأخيرين من الستينيات والسنوات الثلاث الأولى من عقد السبعينيات من القرن العشرين، مطالباً بالحرب لتحرير الأرض المحتلة منذ 1967، وبالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما ناقشت الدراسة، العوامل الخاصة بالتحولات المجتمعية التي عاشها الدكتور محمد السيد سعيد منذ تفتح وعيه السياسي والفكري، وأبرزها نكسة هزيمة 1967، وما تلاها من انتصار أكتوبر 1973، والتغيرات التي حدثت في مصر على الصعيدين السياسي والاقتصادي بعد تبنى سياسة الانفتاح السياسي والاقتصادي في النصف الثاني من عقد السبعينيات، فضلاً عن التحولات الكبيرة التي شهدتها مصر في ظل عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك والذي امتد لأكثر من ثلاثة عقود، حتى انتهى على يد ثورة 25 يناير 2011، ومنها استشراء الفساد وتجذره على نحو غير مسبوق، والحراك السياسي الذي عاشته مصر مع بداية العقد الماضي، وقاد إلى خلع مبارك من السلطة.

وأكدت الدراسة أنه ومثلما تأثر الدكتور محمد السيد سعيد بالخصوصية الحضارية للمجتمع الذي نشأ فيه، وبالتحولات الكبرى التي مر بها هذا المجتمع، ومن ثم جاء مشروعه الفكري ذي طابع أصيل ومتفاعل بشدة مع قضايا الواقع. فقد تأثر وفي الوقت نفسه، بالتحولات الكبرى التي حدثت على الصعيدين الإقليمي والدولي، ومن ثم جاء مشروعه الفكري منفتحاً وشاملاً ومتجدداً. ومن أبرز هذه التحولات، ظاهرة المد القومي العربي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وتفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط المعسكر الشيوعي وظهور النظام العالمي الجديد، وتنامي ظاهرة العولمة، والغزو العراقي للكويت (1990) والاحتلال الأمريكي للعراق (2003). وقد تركت كل هذه العوامل تأثيراتها الواضحة على مشروعه الفكري، وكان لكل منها تداعياته الخاصة على هذا المشروع، الذي لم يكن بتأثير هذه العوامل مشروعاً مغلقاً، بل منفتحاً ومتطوراً ومتفاعلاً مع حركة تطور المجتمع المصري والقضايا العربية المختلفة، وكذلك الأفكار الكبرى على الصعيد الدولي، وتطور حركة التفاعلات الدولية. 

وانصب اهتمام الفصل الثاني من هذه الدراسة للتعريف بالمشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، حيث تناول المبحث الأول المعالم الأساسية لهذا المشروع، وتناول المبحث الثاني الإسهامات النظرية له، فيما ناقش المبحث الثالث حقوق الإنسان في ذلك المشروع، وقد خلصت الدراسة إلى القول بأن المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد اشتمل على أولويات متعددة، مثلت ركائز أساسية له، واستناداً إلى هذه الأولويات تنوعت القضايا التي شملها، حيث تضمن في شقيه: النظري والتطبيقي مواقفه وآراءه من قضايا مجتمعية عديدة؛ مثل الديمقراطية والحرية والحداثة وما بعدها والعلمانية، والمدارس الفكرية الغربية، وغيرها. وفي كل القضايا التي عالجها الدكتور محمد السيد سعيد، كانت لديه قدرات خارقة على الوصف والتحليل والتفسير والتركيب. وتشكل الحرية البؤرة الضوئية في هذا المشروع، وهي بؤرة تقربه من الفكر السياسي الغربي‏،‏ ولكنه كان يتعاطى مع الحرية باعتبارها الفكرة التي تنبثق منها كل المعاني الحقيقية والملموسة اللصيقة بالوطن.

وليس خافيا علي أحد أن قضية حقوق الإنسان قد شغلت قسماً كبيراً في المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، بل إنها كانت القضية المركزية في هذا المشروع، ومما لا شك فيه أن الاهتمام الشديد الذي حظيت به تلك القضية لدى الدكتور محمد السيد سعيد، مرده إلى إيمانه المطلق بحرية الإنسان وكرامته. وتشكل إسهامات هذا المفكر الكبير  في مجال حقوق الإنسان على الصعيدين الفكري والميداني أهم المساهمات الفكرية في العالم العربي في هذا المجال خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد كان للجانب الإسلامي لحقوق الإنسان مكانته المهمة في الخطاب الحقوقي للدكتور محمد السيد سعيد، حيث شدد على نبذ الإسلام للعنف، على نحو ما استقر من شروح فقهية لمبادئه وتعاليمه، مستعيناً بالتراث الإنساني للفقه الإسلامي أيضا في دعوته لسلمية النضال من أجل حقوق الإنسان، دون أن ينفي حضور عدد من الإشكاليات في الفقه الإسلامي من منظور حقوق الإنسان، أبرزها تلك المتعلقة بحقوق المرأة وقوانين الحقوق الشخصية ووضع الأقليات الدينية غير المسلمة.

أما في الفصل الثالث من الدراسة، فقد تم تناول الباحث أحمد منيسي قضايا النهوض الوطني المصري في المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، حيث عرض المبحث الأول لإشكالية الإصلاح السياسي وقضاياه الرئيسية، وتناول المبحث الثاني أزمات الوضع الاقتصادي، وناقش المبحث الثالث إشكاليات الوضع الثقافي، فيما تناول المبحث الرابع قضايا الإصلاح الاجتماعي، أما المبحث الخامس، فعرض لمشكلات السياسة الخارجية المصرية. 

المهم أن دراسة أحمد منيسي انتهت في تحليلها لرؤية الدكتور محمد السيد سعيد لأزمة عملية الإصلاح السياسي في مصر وأبعادها وآلياتها المطلوبة، إلى القول بأنه يرى أن هذه الأزمة لها جذورها التاريخية، التي تتمثل في أن الدولة الحديثة في مصر نشأت استبدادية وشخصانية على يد محمد علي واحتفظت بجانب من هذا الطابع حتى في العصر الليبرالي. والمشكلة الأساسية التي أعاقت عملية التطور الديمقراطي تمثلت في غياب التوازن بين الدولة والمجتمع، وبين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبين الحاجة لاستنفار وتعبئة كل قدرات المجتمع وتوحيده من أجل تحقيق النهضة. وفي رأيه أن الحل السليم لإقامة نظام ديمقراطي في مصر، يتمثل في الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية، أو ما يسمي بدولة العدل والقانون، وهذا الحل الديمقراطي لا يعالج مشكلة تقادم وتشوه النظام السياسي فقط، بل يعالج إشكالية السياسة في المجتمعات العربية الإسلامية، وهي إشكالية تاريخية، حيث إن الفكرة الديمقراطية تقوم على ضرورة استكمال بناء الأمة، فالديمقراطية هي تنظيم لدولة تنتمي لأمة. لكن ما يجب التأكيد عليه في هذا السياق، أنه ورغم أن الديمقراطية هي الحل الوحيد الممكن لإشكالية تقادم النظام السياسي وما أدى إليه من دمار المجتمع، فسوف تبقى ناقصة لسبب جوهري، فالديمقراطية نظام رائع عندما يعمل بصورة جيدة، ويعني ذلك أن يقوم المجتمع بصياغة مشروعه الاقتصادي والاجتماعي، وأن يبلور هذا المشروع في ميادين كثيرة ومتنوعة للغاية بداية من التربية والتعليم وصولاً إلى نظام وطني للابتكار، ولكي يتمكن المجتمع المصري من الوصول إلى عتبات هذه المرحلة أو هذه القدرة لا بد أن يستأنف مشروع نهضته.

أما فيما يخص رؤيته لعملية الإصلاح الاقتصادي في مصر، فيذهب الدكتور محمد السيد سعيد إلى القول بأن تحقيق النهوض الاقتصادي يتطلب توفر أربعة شروط جوهرية، هي: تراكم رأسمالي سريع جداً خلال فترة متصلة من الزمن لا تقل عن عقد كامل، وقد تصل إلى عقدين كاملين دون توقف، وبناء قدرة تكنولوجية وطنية كافية في الحد الأدنى لأقلمة وتوظيف المنجزات التكنولوجية التي أبدعت في بلاد أخرى، إن لم يكن الإضافة إليها، وتحقيق مستويات عالية من التنمية البشرية، والتمدد في السوق العالمي إن لم تكن البلد تملك بذاتها سوقاً واسعة للغاية. وعادة ما يحدث هذا التمدد عبر نشاط تصديري يتنامى بسرعة خارقة. ويشدد الدكتور محمد السيد سعيد، على أن تطوير الوضع الاقتصادي في مصر، يحتاج عمليات إصلاحية كثيرة، تشمل ضرورة الاهتمام بتحسين القدرات الوطنية على التطوير والابتكار المحلي، وتحسين نظم الإدارة الصناعية والإنتاجية، وهذه الجوانب كلها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتحقيق تطوير عميق في التكوين الثقافي والتعليمي في مصر. فمما لا شك فيه أن إنجاز ثورة صناعية وتكنولوجية، يعتمد على الثقافة أكثر مما يعتمد على المال.

وفيما يخص أزمة الوضع الثقافي الراهن في مصر، يقول الدكتور محمد السيد سعيد إن غياب الديمقراطية عن الواقع المصري قد أدى إلى تصدع مشروع التنوير الوطني وتدهوره، وبصفة خاصة حرية الرأي والتعبير والإبداع، التي تقع في قلب الاستنارة كمشروع فكري. وتمثل هيمنة الخطاب التحريضي- الغوغائي على العقل العام، كما يؤكد الدكتور محمد السيد سعيد، أبرز معالم الأزمة الثقافية، وأسباب هذه الأزمة في الوقت نفسه. ومن الأسباب الرئيسية لهذا الوضع، التدهور الحاد في التكوين الثقافي للطبقة الوسطى العليا المصرية. ويبدو هذا التدهور واضحاً في مساهمات عدد هائل من كبار المهنيين الذين يعملون في مختلف المهن العصرية بدءاً من الجامعات ومروراً بالقضاء والمحاماة والطب والهندسة، ذهاباً إلى السياسة والثقافة. أما عن كيفية النهوض بالأوضاع الثقافية، فيقول الدكتور محمد السيد سعيد إن استنهاض الواقع الثقافي لا يمكن أن يتم إلا بحدوث نهضة وطنية شاملة، ذلك أن هذه النهضة الثقافية، لا يمكن تحقيقها بشكل منعزل عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعد المعرفة أولوية جوهرية لعملية التطوير الثقافي المنشود، حيث يقول إن الشق المعرفي هو جوهر المبادرة الحضارية في التاريخ العالمي: أي الحضارة المصرية القديمة.

وفيما يتعلق بأزمة الأوضاع الاجتماعية في مصر، يقول الدكتور محمد السيد سعيد إن المجتمع المصري يعاني حزمة من الاختلالات الأساسية تتمثل، في خمسة مظاهر أساسية، وهي: الخلل بين المجالين السياسي والمعرفي، والخلل بين المجالين الديني والدنيوي، والخلل في العلاقة بين الوحدة والتنوع، والاختلال بين الداخل والخارج، واختلال نظام الحكومة في لحظات حاسمة. ومن وجهة نظر الدكتور محمد السيد سعيد فإن النهوض بالأوضاع الاجتماعية، يستلزم مشروعاً نهضوياً شاملاً، ويركز الدكتور محمد السيد سعيد في أطروحاته الخاصة بإصلاح الأوضاع الاجتماعية في مصر على ضرورة تفعيل دور الطبقة الوسطى، ويؤكد أن النهوض بالأوضاع الاجتماعية، يستلزم إصلاح أحوال الطبقي الوسطى، لأن هذه الطبقة هي التي تفرز المعطيات الأساسية للتلاحم الاجتماعي، والتطور السلمي الاعتدالي للمجتمع. وبهذا المعنى، فهي تشكل الأساس الصلب للمجتمع المدني بشكل أكثر بكثير مما تمثل الأساس الاجتماعي لسلطة الحكم. وإذا تمتعت الطبقة الوسطى بالعافية نستطيع أن نطمئن إلى عافية وحيوية المجتمع ككل.

وفيما يتعلق بآليات تفعيل السياسة الخارجية لمصر، يؤكد الدكتور محمد السيد سعيد إن الديمقراطية الحقة صارت هي مفتاح المكانة الخاصة والمميزة لمصر في المجال الدولي عموماً وفي المستوي العربي بصورة خاصة‏، وهذا ما يعلمه ويعرفه بالممارسة العاملون في الدبلوماسية المصرية‏، فليس لدي مصر أوراق ذات بال في المجال المالي والاقتصادي، وهي لم تعد قوة إستراتيجية كبري‏، وما منح مصر مكانة ودوراً دولياً يتجاوز ما تحظي به قوي اقتصادية وعسكرية أكبر منها بكثير هو قيمتها الثقافية والأخلاقية‏، فمصر تستطيع أن تناقش وتؤثر بما تحظي به من احترام وليس بما تمتلكه من أوراق واقعية أو إستراتيجية‏، ومفتاح الاحترام الآن هو بناء نظام ديمقراطي ملهم لا يفرط في المبادئ الكبرى الملهمة لكل الشعوب الصغيرة والكبيرة علي السواء.

وفي الفصل الرابع ناقشت الدراسة القضايا العربية في المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، حيث تناول المبحث الأول أزمة الإصلاح السياسي في الدول العربية، فيما تناول المبحث الثاني القومية العربية والعمل العربي المشترك، وتناول المبحثان الثالث والرابع أزمة الأوضاع الثقافية العربية، وقضايا الإصلاح الاجتماعي، أما المبحث الخامس فتناول القضية الفلسطينية، وأما المبحث السادس، فعرض لقضية العرب ودول الجوار.

وقد أكدت الدراسة من خلال تحليلها لأفكار الدكتور محمد السيد سعيد أن الإصلاح السياسي المطلوب عنده يتمحور حول تحقيق الكرامة الإنسانية كهدف جوهري ومبدئي، حيث يقول إنه لا أمل مطلقاً في نجاح أي مشروع للنهضة أو الإصلاح بدون إنعاش الكرامة الإنسانية لدي جميع الناس بدون تفريق أو تمييز‏‏. ويذهب الدكتور محمد السيد سعيد إلى القول بأن الديمقراطية ستكون ممكنة في الواقع السياسي العربي عندما تتحقق معادلة من ثلاثة معطيات أساسية: الأول هو تعددية سياسية فعلية وجوهرية، والثاني هو تطور توازن حرج بين القوى، والثالث هو التعلم الذي يتيح إمكانية التوصل إلى حل سلمى للصراع السياسي في بيئة تعددية يقوم على مبدأ "تحكيم" الأغلبية. ويعنى ذلك أنه ليست هناك إمكانية للتحول الديمقراطي طالما ظل المجتمع السياسي "واحديا" بمعنى أنه يتكون حول مركز سياسي وحيد. بل لا بد أن "ينقسم" المجتمع السياسي بين عدة مراكز أو إلى قوى متعينة في الواقع السياسي لا يمكن قسرها على الانتظام في رؤية واحدة للسياسة أو السياسات.

أما فيما يتعلق بكيفة النهوض بالأوضاع الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، فقد خلصت الدراسة إلى أن رؤية الدكتور محمد السيد سعيد في هذا السياق تتمحور حول القول بأنه لا أمل في إحياء الثقافة بدون إحياء الاهتمام بالسياسة، ولا أمل في إحياء الاهتمام بالسياسة بدون إنتاج مفهوم جديد لعلاقة الناس بالسلطة يجعلها في متناول كل المجتمع، وهذا ما تسميه الأمم المتحدة بالتمكين باعتباره جوهر فلسفة التنمية المناسبة للقرن الحادي والعشرين، والتمكين يعني قدرة الناس على السيطرة على شروط حياتهم والحق في توجيهها ولو في المحيط المباشر للحياة الاجتماعية مثل القرية والحي ومواقع العمل، والناس عند هذه المستويات هم الأكثر ذكاءاً بما لا يقاس بأي عقل فردي أو بيروقراطي، فإن لم يتم إحياء السياسة عند هذا المستوى يخسر الجميع وتركد الثقافة، بل ومن المحتمل أن يتفكك المجتمع نفسه. ويقول الدكتور محمد السيد سعيد إن النهوض بأوضاع المجتمعات العربية مرتبط بطرح مشروع كبير للتغيير، أول أهدافه استعادة وإطلاق الحيوية الحضارية في العالم العربي على اتساعه، وهو ما يضمن بذاته الانتصار ضد خصومه وأعدائه على المدى الطويل، أما على المدى المباشر فلا بد من وقف الصراعات الإبادية والاستئصالية ووضع أسس للوحدة الوطنية لا تصادر على الخلاف والاختلاف، بل تفيد منه في تأكيد التنوع والتعدد والاجتهاد الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.

وفيما يخص القومية العربية والعمل العربي المشترك، يقول الدكتور محمد السيد سعيد إن فشل الجامعة العربية في تحقيق الوحدة لا يعود مطلقاً إلى فشل الفلسفة القومية بذاتها بقدر ما يعود إلى فشل الدول العربية حتي داخل أقاليمها. ولا يعني ذلك بالمرة أن هذه الدول محكوم عليها بالفشل. ولكنه يعني أنه من المستبعد أن تتوافر إرادة سياسية أكبر لمواجهة المشكلات الكبيرة التي تعيق العمل العربي المشترك، إذا لم تكن متوافرة لحل المشكلات المستفحلة داخل هذه الدول. ويرفض الدكتور محمد السيد سعيد القول بأن محنة الجامعة العربية هي نتيجة الخلافات العربية كما يشيع الاعتقاد، فهذه المحنة كامنة في احتجاز تطور الدولة العربية بمختلف أشكالها. فحتى أكثر الدول العربية تطوراً مازالت تدار بصورة جزافية لا تقوم علي توازنات اجتماعية واقتصادية مقبولة أو نظام مؤسساتي راسخ وحديث. ومن ثم فهي لا تفضل الالتزامات التعاقدية الخارجية طويلة المدى وخاصة علي المستوي العربي. بل ترغب في إدارة علاقاتها العربية بالطريقة نفسها التي تدير بها حياتها السياسية والاقتصادية الداخلية أي بطريقة يوم بيوم. وفيما يخص القومية العربية، يقول الدكتور محمد السيد سعيد إن القومية العربية مثل أي فكرة كبري وقعت لها هزيمة بسبب سوء الصياغة أو سوء الاستعمال أو الأمرين معاً، والأجدر بها هو أن يعترف معتنقوها بالواقع ليعيدوا تنظيم فكرهم وأطروحتهم الكبرى بما يضمن الخروج السريع من تيه أو متاهة قاسية علي النفس والوجدان أو العقل والخطاب‏. ‏‏ويؤكد أن النظم العربية التي استعملت الفكرة القومية العربية لإضفاء الشرعية علي سياساتها وتوجهاتها كانت بالفعل أكثر فشلاً من غيرها علي الصعيدين الداخلي والخارجي. فقد اتسم أداؤها بالقسوة المفرطة والتعسف والاستبداد السياسي المطلق والحرمان الشديد من أبسط مقتضيات الحق العام بل وأحيانا من أبسط مقتضيات المنطق والعقل. كما أن أداء هذه النظم اتفق في الميل الطاغي للمغامرات الخارجية غير المحسوبة.

وقد خلصت الدراسة في هذا الفصل إلى القول بأن القضية الفلسطينية قد حظيت باهتمام مركزي في المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، وناقشت الدراسة رؤية الدكتور محمد السيد سعيد لكيفة حل القضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين كمرحلة لتأسيس دولة ديمقراطية واحدة على كافة أرض فلسطين التاريخية، والاستراتيجية التي يدعو إليها تنظر إلى شعار الدولة الوطنية الديمقراطية في الأرض المحتلة عام 1967 ليس كبديل إنما كخطوة نحو بناء دولة ديمقراطية علمانية لكل مواطنيها على كل أرض فلسطين التاريخية، وهذا التحرك هو جوهر النصر لأنه يضمن انحسار العقيدة الصهيونية وتراجعها. ويؤكد الدكتور محمد السيد سعيد في هذا السياق أنه يبدو أن ثمة تناقضاً بين الحل النهائي، أي الدولة الفلسطينية الواحدة في كل فلسطين تحت الانتداب، وطريقة الوصول إلى هذا الحل، أي تأسيس دولة فلسطينية وفقاً لحدود الرابع من يونيو 1967، ولكن التناقض مرفوع لأسباب كثيرة. منها أن المروق الفوري لدولة واحدة مرفوض إسرائيلياً أكثر بكثير حتى من التسليم بإعادة كل الأراضي المحتلة في يونيو 1967. ومنها أيضا أنه حتى لو وافقت إسرائيل فلن تكون هذه الدولة سوى اتحاد مظهري أو قانوني صرف بين مجتمع يهودي بالغ التقدم من النواحي السياسية والتكنولوجية والاقتصادية ومجتمع فلسطيني لا يزال يحبو في طريقة لتلمس أبجديات بناء دولة حديثة ومؤسسات هذه الدولة. ويؤكد الدكتور محمد السيد سعيد أن بناء تجربة فلسطينية سياسية وطنية أصيلة يقلل كثيرا المسافات بين «القوميتين» الفلسطينية واليهودية ويمهد لعلاقات متكافئة لا تماثل الاستعمار الداخلي. بل قد تمهد لإذابة المجتمع اليهودي في فلسطين في المحيط العربي والشرق أوسطي الأوسع.

وفما يخص العلاقات العربية مع دول الجوار، دعا الدكتور محمد السيد سعيد إلى إعادة بناء هذه العلاقات من خلال إستراتيجية جديدة لعلاقات العرب مع العالم ككل، تضمن تحقيق المصالح القومية العربية، من خلال التفاعل بشكل إيجابي و"سياسي" مع العالم الخارجي، ذلك أن ممارسة السياسة علي المستوي الدولي من قبل الدول العربية، مازالت في الجوهر مغلفة تماماً بخطاب الحق والكرامة. وكأن السياسة ليس لها مشروعية بذاتها. وهو ما يكرس غياب مفهوم ومنطلقات ومهارات السياسة عن الوعي العام. ويقول الدكتور محمد السيد سعيد، إن هناك ضرورة قصوى لتطوير الخطاب الثقافي العربي تجاه العالم الخارجي، لتخليص هذا الخطاب من التشوهات الكثيرة التي لحقت به في هذا الصدد.

أما في الفصل الخامس من هذه الدراسة، فقد تم تناول القضايا الدولية في المشروع الفكري للدكتور محمد السيد سعيد، والتي تمثلت في ثلاث قضايا أساسية، وهي: النظام الدولي والعلاقات الدولية، والإسلام والغرب، والسياسة الخارجية الأمريكية، حيث انتهت الدراسة إلى التأكيد على أن الحل الذي يراه الدكتور محمد السيد سعيد للمشكلات الدولية، يتمثل في الضرورة الحاسمة لتأسيس نظام عالمي جديد يقوم على التطبيق الحاسم لقانون دولي يعكس آمال الإنسانية كلها في التقدم والتنمية والسلام. ولكنه لا سبيل لإنشاء مثل هذا النظام الذي يقوم بالضرورة على المشاركة إلا بإنهاء أوضاع الاستبداد على الصعيد العالمي، وهو ما يتطلب ضرورة أن يكون القانون الدولي، وليس القوة، هو الحاكم للعلاقات الدولية.

وقد خلصت الدراسة إلى التأكيد على أن تصحيح العلاقة بين الإسلام والغرب من وجهة نظر الدكتور محمد السيد سعيد يتطلب من الناحية السياسية مبادرة قوية لتفكيك الطوق الذي قد ينشأ حول العالم الإسلامي، كما أن هناك حاجة ماسة لتأسيس مشروع سلام إسلامي عالمي، تبادر به الدول العربية والإسلامية، بحيث لا يكتفي العرب والمسلمون برد الفعل على ما يوجه للإسلام من اتهامات بالتطرف، بل يكونوا مبادرين بالفعل. وتعني مبادرة "مشروع سلام إسلامي" أطروحة لبناء السلام على المستويين (الإقليمي والعالمي)، أما فيما يخص العلاقات العربية الأمريكية، فيخلص الدكتور محمد السيد سعيد من تحليله لهذه العلاقات إلى التأكيد على أنها تعكس كل أمراض التبعية، وهو يخلص إلى القول بأن تصحيح الخلل القائم في تلك العلاقات يتطلب وجود استراتيجية واضحة وكاملة للتأثير على الشعب الأمريكي ودفعه لتأييد الحقوق العربية المشروعة، ولكن ذلك بالطبع يعني خوض معركة جبارة مع القوى الصهيونية التي تحتكر النفوذ على عملية صنع السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

 

عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم