قراءة في كتاب

كلام النَص

429 كلام النصكتب من قبل نصر حامد أبو زيد كتابيه: "مفهوم النَص، دراسة في علوم القرآن" و "النَص، السلطة، الحقيقة"، وقد كان كتابه الأول مُختصاً في دراسة النص القرآني وطُرق تأويله، ولكنه أشار لعلاقة الاتصال اللغوي بين مُرسل ومُستقبِل، بل إن "حركة الفهم وفك شفرة الرسالة تتزامن مع عملية البث من جانب المُرسِل" (ص89) ليؤكد أن عملية فهم النصوص لا تبدأ من قراءة النَص، بل تبدأ قبل ذلك من الدوال الربطة بين الثقافة التي تُمثل أفق القارئ وبين النَص.

في كتابه "النَص، السلطة، الحقيقة" يؤكد أبو زيد على ضرورة اكتشاف دلالة النص من خلال تحليل مُستويات السياق" (ص91).

للمجاز والاستعارة في النص دور في تعددية القراءة والفهم، الأمر الذي يؤدي إلى تعددية الدلالة والنزاع حول الحقيقة، بسبب حضور التأويل الذي يُثري النص، ولكنه في الوقت ذاته يفتح أفقاً آخر سواء أكان هذا الأفق أفق رحابة أو أفق إنغلاق في الرؤية والفهم.

حاول علي حرب في كتابيه "نقد النَص" و"نقد الحقيقة"، أن يُغيب النص ليجعله نتاج كتبه مؤلفه وغادر ليضعه بين يدي قراءه، لذا فإن "كينونة" النَص عنده إنما تكمن في نقده وتفكيكه لاستكشافه من جديد، وتلك ميزات النصوص التي تصمد ولا تتهافت عبر الزمن، وقيمة هذا النَص في ما يُضمره لا في ما يقوله عبر قراءة "تُحوله من مُجرد إمكان إلى فعل معرفي مُنتج" (ص20، نقد النص). "فالقراءة نشاط فكري/ لغوي مُولد للتباين، مُنتج للاختلاف" (ص5، نقد الحقيقة)، النص مرآة القارئ، وكل نص جدير بالقراءة إنما هو نص يُثري قارئه، ولا يحمل (في ذاته) دلالة جاهزة ونهائية.

 إن كل فهم ارتكاسي أو نكوصي للنص إنما هو نابع من ثقافة القارئ (المُتلقي) وبيئته، وكذا الحال مع القارئ المُتلقي (التقدمي) وهنا نقصد بهذا المفهوم هو مقدار ما يمتلك القارئ من شغف في القراءة وقبول التنوع والإختلاف الفكري والعقائدي بوصفه إضافة معرفية لما تختزنه الأنا.

يعتقد أبو زيد أن "الأيديولوجي يُمثل عصب الرسالة، إنه يطغي طُغياناً حاداً على المعرفي"، وهذه الرؤية تبدو جلية في النصوص الدينية والدعائية.

لا تتحقق نصية النَص ـ بحسب ما يرى أبو زيد ـ إلَا من خلال فعل القراءة ذاته" (ص110).

في طرحه المُغاير لما ذهب إليه أبو زيد وعلي حرب يُحاول الناقد ياسين النصير في كتابه "كلام النَص" طرح رؤيته المُستمدة من تجربته في قراءة النصوص ونقدها، فتسعد برؤيته هذه وإن كُنت من الذي له القدرة على حفظ الأقوال الجميلة المُكتنزة في المعنى والمبنى، فلك أن تجعل من رؤية النصير وتجربته بمثابة (عتبات) تُمكننا من فهم النَص بوصفه عملاً تتحكم به ثلاث مُستويات، أو "تكوينات" كما أسماها.

يُشبه النصير النَص بالشجرة، "فالشجرة نَص مؤلف من جذر وجذع وأغصان، سيكون الجذر، وهو التكوين غير المرئي، حاضراً الجذع والأغصان، ويكون الجذع هو اليومي والمُباشر للرؤية والحي في حياتنا اليومية، هو النص المرئي المقروء، الذي نُباشره بحواسنا، ويكون استقباله مُتجسداً كصور ذهنية واعية، بينما تكون الأغصان وفروعها وثمارها، التأويلات التي تنتج عن القراءة، الثمار التي تنفتح على القراءات والرؤية والاستثمار".

يشتغل النصير في "كلام النَص" على ثلاث مُفردات أساسية: الكلمة، الجملة، العبارة، بوصفها فضاءات عائمة قبل دخولها النَص، ثم على طرق تشكلاتها ودلالاتها خارج النص، ومن ثم كيفية بنائها داخل النص.

يُحدد النصير ثلاثة أشكال لـ "كلام النَص" هي:

1ـ كلام النَص الذي يسبق الكتابة، أي مرجعيات النص.

2ـ كلام النَص الذي يُمثله الكلام المكتوب، وهو كينونة النَص التي تتشكل عند مُنتجه من قراءة وتأويل وتأمل واستبصار.

3ـ كلام النص الذي تُتجه القراءات، وهو النص حينما يُحلق خارج هيمنة الرؤية التي أراده المؤلف له.

النص فضاء سواء أكان هذا الفضاء واقعياً، أو مُتخيلاً، أو افتراضياً.

لم يهتم النصير بفضاء النص الداخلي بقدر ما كان مُهتماً بتشكيلات النص الإبداعية فضائياً، لأن "اللغة في النَص فضائية بحد ذاتها".

"اللغة كائن مُتحرك، وهي نتاج اجتماعي يؤسس بها الإنسان مُجمل علاقاته الحياتية".

"حائك الكلام" هو "الحائك الكوني"، "راو كوني" مُختص بنسج الحكايات الصغرى لتصبح عند البشرية "حكايات كُبرى" بحسب ليوتار، وكلما كانت الحكاية كُبرى كُلما امتلأ الفضاء بالتأويل، والمؤلف هو من يمتلك اللغة الموجهة كخطاب لهدف ما، فالمؤلف هو من يُعيد انتاج وتنظيم كلام حائك الكلام.

النص بحسب ما يرى النصير "لغة فضائية"، ناقلة للموجود والمُتخفي، ولا شيء غير اللغة تُعيَن وجوده كفضاء، بل أن لغة تأليف النَص هي رسالة مُركبة، غامضة، بحد ذاتها، فهي لا تعني تأليفاً لكلام يفهمه القُرَاء سابقاً، إنما تعني أن التأليف كلام يُساعد القُرَاء على استحضار مخزونهم اللغوي، التأليف حافز والحوافز لا تأتي إلَا بوجود حدث غامض يتطلب حلاً على رأي (بروب).

قيمة الكلمة أو الجملة أو العبارة وانص الذي ألف هذه التكوينات إنما يكمن تحسسها في فضاء القول الذي تآلفت فيه، لذا ينبغي على المؤلف أن يُراعي فضاء الكلمة والجملة والعبارة الداخلي والخارجي، بل والفضاء الذي تتموضع فيه هذه التكوينات.

ما يُميز كتاب النصير هذا "كلام النص" أنه لا يشتغل على المركز بقدر ما يشتغل على الهوامش، أو (المسكوت عنه) في فضاء انتاج النص وتعالقه المحيطي اجتماعياً وثقافياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً، بل وميثولوجياً، فلكل نص في إنتاجه أو في قرائته بعد ميثولوجي يرنو له المؤلف ويُفسره القارئ ويؤوله بحسب منظومته (الفكروية) = (الأيديولوجية)، أو (الأبستيمولوجية) = (المعرفية) للكشف عن معان خفية تكشف عنها الطاقة الإبداعية للقارئ الذي ينفي "لغة النَص" لينتج لغته هو بحسب مقدار ما يمتلكه من ثقافة ووعي جمالي (ليبرالي) مُنفتح، أو (دوغمائي مُنغلق).

لكن النصير يستعين برؤية (نورثروب فراي) في كتابه "تشريح النقد، كي يُخلص النص من سطوة الفهم "الأرثذوكسي" المُنغلق بإيمانه أن "النقد يستطيع أن يتكلم، في حين كل الفنون خرساء".

ومن سمات النقد الواعي للنص أنه يفهم لغة النص وفنونه، لأن "لكل فن جملته ذات التراكيب الخاصة بنوعيته، ولا يُمكن أن تتشابه جُملة القصة القصيرة وجُملة القصيدة أو الرواية وجملة المسرحية أو جُملة اللوحة الفنية، أو المقطوعة الموسيقية...إلخ.

يؤكد النصير أن "النص هو الكتابة المُفكِرة، والكتابة تعني خلقاً جديداً للتفكير، فليس ثمة نص نهائي، كل النصوص (الإبداعية) هي ابتداء، واستهلال، ودائماً ما نضعها نحن القراء موضع النقد والشك ومُسائلتها، بل وفي أحياناً كثيرة مُحاكمتها.

"الكتابة هي نَصية النَص"، وهي "ترياق" بعبارة (جاك دريدا) وليست سُماً. "النص هو حدَ كينونة الفاعلية التأويلية".   

 

د. علي المرهج

 

 

 

في المثقف اليوم