قراءة في كتاب

محمد رسول الإرادة (1-2).. كتاب جديد من تألبف ميثم الجنابي

548 ميثم الجنابيالمقدمة: صدر هذا الكتاب عن (دار العارف) 2018. وعدد صفحاته 238. وهو كتاب يستكمل سلسلة من الكتب صدرت عن الدار مثل كتاب (الزمن والتاريخ- نقد الراديكالية والأوهام "المقدسة")، وكتاب (تأملات فكرية حول الحضارة الإسلامية).

ينقسم هذا اكتاب الى قسمين، الأول وتحت عنوان (أرادة الروح)، والثاني (روح الإرادة).

ويتضمن القسم الأول ستة محاور وهي على التوالي: 

- الصيرورة الروحية للإسلام،

-  الإسلام - مجاز الحكمة الخالدة،

-  الصيرورة الروحية للنبي محمد،

-  النبوة- إرادة الحق،

- الجهاد والاجتهاد النبوي،

-  القرآن- قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني

اما القسم الثاني فيحتوي على أربعة محاور وهي على التوالي: 

- الإسلام وفكرة التحدي التاريخي،

-  أرادة البديل الشامل،

-  النفي والبدائل،

-  العقل الإسلامي الجديد).

تقديم عام للكتاب

يحتوي كتاب (محمد رسول الإرادة) على قسمين الأول ويحمل عنوان (إرادة الروح)، بينما الثاني يحمل عنوان (روح الإرادة). وبمجموعهما كل واحد. مهمة الأول تتبع الصيرورة الروحية لمحمد بمختلف مستوياته واتجاهاتها، بوصفها صيرورة الإرادة النبوية، أما مهمة القسم الثاني فتقوم في تتبع فعل الارادة النبوية لمحمد في تحقيق المبادئ الاسلامية في نواحي الحياة بمستوى الطبيعي والماوراطبيعي من اجل نقل العرب (ولاحقا المسلمين) الى المرحلة التاريخية الثقافية الجديدة (الدينية السياسية). وكلاهما كلّ واحد بمعايير التاريخ والحقيقة. فقد سبق وإن قمت قبل حوالي ثلاثة عقود بهذا العمل وانجازه في كتابين، الاول تحت عنوان (حياة محمد)، والثاني (تاريخ القرآن). وكلاهما كانا بالنسبة لي عمل واحد، أو على الأقل إن كل منهما يكمل الآخر. والأكثر مشقة بالنسبة للبحث ارتبط بكتاب (تاريخ القرآن)، بالأخص ما يتعلق منه بترتيب آيات النزول حسب زمنها. وليس مصادفة أن تقول الثقافة الإسلامية لاحقا، بأن ترتيب نزول آيات القرآن ليست اقل مشقة من إبداعه! وقد أنجزت هذا البحث لنفسي أولا وقبل كل شيء من اجل دراسة شخصية وحياة النبي محمد. وإذا كان كتاب (حياة محمد) قد ضاع تماما، فإن كتاب (تاريخ القرآن) لحسن الحظ قد بقيت منه ثلاثة دفاتر بحدود ألف صفحة. وفيما لو توفر الوقت لاحقا فسوف أعود إليه. وبمجموعهما كان الكتابان يحتويان على ست مجلدات كبيرة. وبالتالي، فإن كتاب (محمد رسول الإرادة) الذي اقدمه للقارئ بقسميه يمثلان اختصارا مكثفا جدا لما وضعته في (حياة محمد) و(تاريخ القرآن). لكنه يتمثل ما فيهما بمعايير وغايات أخرى مرتبطة بفلسفتي التي وضعتها في كتابي (فلسفة المستقبل) الذي سأقدمه للطباعة والنشر حالما انتهي من وضع اللمسات الاخيرة على كل ما فيه.

من المقدمة

إن الفكرة الجوهرية لهذا الكتاب تقوم في تبيان أثر الشخصية المحمدية في وضع أسس اللحظة التأسيسية للمرجعيات الثقافية المتسامية التي أدت إلى نقل العرب من المرحلة الثقافية الدينية إلى المرحلة الدينية السياسية، وما استتبعها من تأسيس لاحق للثقافة الإسلامية وحضارتها. وبالتالي الكشف عن انه كلما جرى الغوص في حقيقتها التاريخية كلما تعمّق البحث في حقيقتها الما فوق التاريخية. ومن ثم البرهنة على أثرها الجوهري في تحدي الوجود التاريخي بإرادة البدائل الكبرى. من هنا بقاءها الحي وقدرتها على الإلهام العقلي والروحي بوصفها شخصية تاريخية وما فوق تاريخية، أي كل ما جرى وضعه في مفهوم النبي محمد والنبوة المحمدية، والرسول والرسالة الإسلامية.

ذلك يعني إن الكتاب، يختلف اختلافا جوهريا عما هو سائد في اصناف الكتابة المتنوعة عن "السيرة النبوية". اذ ليس للكتاب علاقة بهذا الصنف من التأليف، بمعنى انه ليس كتابا عن "السيرة النبوية" و"حياة النبي محمد" بالمعنى المنتشر والسائد من الكتب التأريخية والعقائدية والوظيفية (التعليمية والتربوية والادبية والسياسية وما شابه ذلك).

انه كتاب فلسفي صرف يستند من حيث الأسس النظرية لفهم حقيقة الشخصية النبوية والرسالية لمحمد ودورها وأثرها التاريخي العربي والإسلامي والعالمي إلى فلسفتي التاريخية والثقافية. وبالتالي، فهو كتاب تفتقده المكتبة العربية والإسلامية، إذ فكلاهما لم يتمرسا بعد في فهم حقيقة الشخصية المحمدية بمعايير الفكرة النظرية بشكل عام والفلسفية بشكل خاص. لاسيما وانه الأسلوب الأدق من أجل ارساء أسس النظرة المجردة والمتسامية والواقعية في الوقت نفسه عن الشخصية المحمدية والنبي محمد نفسه. ومن ثم ازالة الصيغ المبتذلة والظاهرية عن "توظيف" المعلومات عنها وعنه، او "توظيفهما" هو من اجل "البرهنة" على رؤيتها العقائدية والعملية.

ان حقيقة الشخصية المحمدية بالنسبة لي تتطابق مع المعنى القائم في عبارة "عين الحقيقة". وهذه بدورها لا تحاج الى توظيف جزئي او مجتزأ، لأن الحقيقة لا تتقبل التوظيف. انها كافية بذاتها من اجل تنوير العقل والضمير الفردي والاجتماعي والانساني.

اما في الثقافة الاوربية التي تميزت لحد الآن أكثر من غيرها في ميادين وعلوم دراسة الدين والأديان وفلسفة الدين واللاهوت، فإنها لم تنتج من وجهة نظري سوى ثلاثة كتب هي تعبير عن ثلاثة نماذج نظرية فكرية كبيرة في دراسة (حياة يسوع)، وضعها كل من هيغل ودافيد شتراوس وارنست رينان. فقد وضع هيغل الصيغة الأولية والصورة الاولى للنظرة الفلسفية ضمن سياق فلسفته عن التاريخ والفكر، كان الهدف منه "عقلنة" يسوع وتقديمه على انه تجل اسمى لتطور الروح. اما كتاب دافيد شتراوس فهو الصيغة النظرية الكبرى الاولية للرؤية النقدية التاريخية الدقيقة واظهار تناقض وخرافات التصورات السائدة، واللاهوتية منها بالأخص، عن شخصية وحقيقة يسوع المسيح. اما كتاب ارنست رينان فيسير ضمن سياق الأسلوب النقدي والمتفحص والعام لدافيد شتراوس، ولكن من اجل بناء الصيغة والصورة الأخلاقية المتسامية لشخصية يسوع المسيح.

الرمز والمثال والأنموذج

ليس هناك من شخصية في تاريخ الإسلام جرى تصوير ورسم وتتبع كل دقائق حياتها وأفعالها وأقوالها، بل وحتى خلجات نفسها إضافة إلى أصلها ونسبها وحيثيات وجودها من المهد إلى اللحد أكثر من محمد. ومع ذلك بقي لغزا بمعايير الفكرة اللاهوتية والعقلية أيضا، وذلك لأنهما كلاهما لم يكن بمقدورهما التعامل معه بمعايير الفكرة التاريخية الواقعية والعقلانية الفلسفية. بحيث جرى تغليف شخصيته بغشاء اللاهوت بدأ من الاسم وانتهاء بمعجزاته، التي لم يكن يقر بها، وذلك لأنه تعامل مع نفسه بوصفه إنسانا طبيعيا وبشرا بين البشر. فقد ابتدعت الروايات اللاهوتية الحوار الذي دار بين أبوه وبين بعض من قريش، حالما أطلق على وليده اسم محمد. فعندما سألوه ما هذا الاسم؟ ما هذا من أسماء آباءك! أجابهم: أردت أن يُحمَدَ في السموات والأرض! وهي محاورة ملفقة، لأنها تحتوي على "علم" مسبق بما سيكون عليه محمد. بينما كانت صيرورته الشخصية نتاج عملية معقدة، شأنها شأن حالات العظام في التاريخ الإنساني. إضافة لذلك أن اسم محمد متأتي من كثرة الخصال المحمودة في الرجل. وبالتالي، فإن لاسمه اشتقاقه الخاص من تقاليد العرب في اشتقاق الأسماء. فللعرب مذاهب عديدة بهذا الصدد كما تكلم عنها ابن دريد (223-321 للهجرة) في الرد على الشعوبية بصدد اشتقاق الأسماء العربية. حيث كشف وبرهن على البعد الواقعي والطبيعي في اختيار الأسماء عند العرب قبل الإسلام. فالأسماء العربية دوما ذات معنى، وليس اعتباطا أن تتبلور عبارة "اسم على مسمى". فقد اختاروا الأسماء بما يستجيب لظواهر الحياة ومتطلباتها. واسم محمد يدخل ضمن فكرة التفاؤل. فهناك تفاؤل على الأعداء يبرز في أسماء غالب ومقاتل، وهناك التفاؤل للأبناء كما في الأسماء مدرك وسالم وعامر، وهناك أسماء للترهيب مثل أسد وليث، وهناك أسماء للغلظ والخشونة مثل اسم حجر وصخر وهراوة. واسم محمد يدخل ضمن التفاؤل. فقد عرفت العرب اسم محمد. لكن الإسلام اللاهوتي حاول أن يعطي لاسم محمد معنى لاهوتيا صرف. بينما نرى قريش في مرحلة صراعها ضده تذم اسمه، بحيث تستعيض عن اسم محمد باسم مذمّم، كما في شعر أم جميل "حمالة الحطب":

مذمما عصينا

وأمره أبينا

ودينه قلينا!

شخصية النبي محمد في الكتب الإسلامية

بلورت الثقافة الإسلامية مختلف الصيغ النموذجية عن النبي محمد. بحيث ارتقى فيها إلى مصاف النبوة المتسامية، أو نبوة التشريع وخاتمة الشرائع والأديان. الأمر الذي جعل من التعامل معه بمعايير النبوة، كما بلورتها الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها، ميدانا للاختلاف والاجتهاد، لكن المشترك فيها وبينها هو جعله نموذجا، ومثالا، ومرجعية مطلقة، وميزانا توزن به الأقوال والأعمال. بحيث لم تتورع الثقافة هذه نفسها، على الأقل في بعض تياراتها، من أن تبتدع أحاديث مزورة من حيث الصياغة لكنها معقولة من حيث المعنى كما نراه، على سبيل المثال، فيما ينسب إليه من قول: "إذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تُعرَض عليّ أعمالكم"، و"إني أوشك أن ادعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي".

ففيهما نعثر على تضاد ولكنه معقول. فالصيغة الأولى تبرز شخصيته في أقواله وأفعاله التي تحولت لاحقا إلى "سنّة" متبعة، كما أنها تحتوي على أثره بوصفه فيصلا ومرجعا للأمة في كل ما تفعله وتنوي فعله. بينما الثانية تضع آل البيت والقرآن في مصاف واحد، وهو أمر يتعارض مع الفكرة الجوهرية لمحمد ألا وهي خلاصة التوحيد المجسّدة في القرآن. وقد كانت اجابة سفيان الثوري على سؤال متعلق بمقصود "آل بيتي" بعبارة: "أمة محمد" أو "أمة الاسلام"، يستجيب لحقيقة الفكرة المحمدية. مع ان الادق هو الرجوع الى آيات القرآن وخطبة الوداع. وينطبق هذا على ما يسمى بالسنّة النبوية. ففي حياته كان الصراع والخلاف ومختلف المواقف تقف وراء "نزول" الآيات. ذلك يعني، إن الجماعة والأمة لم تفكر بالسنّة. إنها كانت تنتظر على الدوام "نزول" الآيات القرآنية.

لكن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في أن كتب "السيرة النبوية" بدأ من عروة بن الزبير (ت-93 للهجرة) مرورا بإبان بن عثمان (ت- 101 للهجرة)، وشرحبيل بن سعد (ت-121 للهجرة)، وابن شهاب الزهري (ت-124 للهجرة)، وانتهاءً بمحمد بن إسحاق (ت-151 للهجرة)، وبعدها أخذ منه وعنه ابن هشام (ت-213 للهجرة) في كتابه المشهور (السيرة النبوية) ولاحقا يضيف لها أو يتوسع في بعض جوانبها محمد بن سعد (ت-230 للهجرة) في (كتاب الطبقات)، هي تجميع كمي للمعلومات فقط.

إذ تحتوي هذه الكتب جميعا على خلط الواقع بالخيال. كما يجري رسم صورة واقعية وخشنة لحد ما عنه، على الأقل فيما يتعلق بالأحداث التي واجهها وتحداها وعمل من أجل تغييرها. وهي أعمال تخلو من اللاهوت والأسطورة، ومن ثم أقرب إلى الواقع، باستثناء بعض الحالات الملازمة والمترتبة على وعي المرحلة ونمط تفكيرها. ولا تشذ الكتب اللاحقة واختلاف مراحلها الزمنية والتاريخية عن الخروج على هذا النط السائد. وقد تكون الاضافة الوحيدة هنا هي بروز صنف الوظيفة العقائدية والعملية في بعض منها. ومن بين اكثرها سمعة وتوسعا بهذا المجال و"نموذجية"، هي كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، للقاضي عياض(ت- 544 للهجرة)، وكتاب "الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام، لأبي القاسم السهلي(ت- 581 لهجرة)، وكتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن قيم الجوزية (ت-751 للهجرة)، وكتاب "الفصول في اختصار سيرة الرسول"، لابن كثير (ت- 774 للهجرة)، وكتاب "عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير" لأبن سيد الناس (ت-734 للهجرة)، وكتاب "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد" لمحمح بن يوسف الدمشقي الشامي (ت-942 للهجرة)، ومن بين اواخرها بهذا النوع من التصنيف تجدر الاشارة الى كتاب "إنسان العيون في سيرة النبي الأمين المأمون" أو ما يسمى بالسيرة الحلبية، لمؤلفها علي بن إبراهيم بن احمد الحلبي (ت1044 للهجرة، الذي اعتمد بدوره على مؤلفات سقته بهذا الصدد مثل كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض المشار اليه اعلا وغيره. اما الكتابات الحديثة العربية والاسلامية فهي الاخرى تصب في هذا المسلك العام. بمعنى انه لا جديد فيها،، وجميعا ينتمي من حيث الاسلوب والغاية والمنهج الى النماذج التقليدية المشار اليها اعلاه.

تقييم شخصية محمد عند الأغراب (الغربيين)

اما بالنسبة لدراسات والابحاث التي كتبت عنه في الثقافات غير الإسلامية، وبالأخص عند الأوربيين فقد اختلفت فيه الآراء والمواقف والأحكام. وفي اختلافاتها وتنوعها تعكس اولا وقبل كل شيء اختلاف مراحل الأحكام، ومستوى تطور المعرفة وتدقيق العلوم، ونوعية المناهج، إضافة إلى مختلف الصيغ الظاهرية والمستترة لانتماء الباحثين الديني والقومي والثقافي. وسوف اكتفي بالإشارة الى بعض الكتب "النموذجية" بهذا الصدد.

فقد اعتقد الفرنسي هنري ماسه(1886-1969) بأن انتصار الإسلام وظهور العرب على المسرح التاريخي كان بفضل محمد. وذلك لأنه اخرج بالإسلام العرب من حالة الجهل والتشتت إلى العلم والوحدة. وبالتالي، فإن محمد هو عبقرية دينية سياسية. بينما اعتقد المستشرق الروسي فاسيلي فلاديميروفتش بارتولد(1869-1930)، أن محمدا عبقري ليس لأفكاره الدينية، بل لوجدانه الديني. وذلك لأن أفكاره هي خليط من اليهودية والنصرانية، لكنه اقرب للأولى فيما يتعلق بالموقف من المسيح وفكرة الثالوث. بينما مثال المسلم الحق هو مثال المسيحي الحق. وهي أحكام مبنية على الفكرة المنتشرة آنذاك من أن الإسلام هو نسخة غير مباشرة لليهودية. ومن ثم تحتوي على مغالطات جوهرية. فالبديل الاسلامي الشامل والهائل الذي غير مجرى المسار التاريخي العالمي آنذاك كان نتاج منظومة نوعية جديدة. انه نفي لليهودية العنصرية وتاريخها اللاهوتي والأسطوري بوصفه زمن الغرائب. أما الفيلسوف الروسي الكبير فلاديمير سيرغييفتش سولافيوف فقد وجد في محمد عبقرية دينية. بينما اعتقد الهولندي رينهارت دوزي (1820-1883)، بأن محمد إنسان عملي وحالم، بوصفها حالة نادرة عند العرب. وهو حكم يحتوي على ما كان منتشرا بين المستشرقين والمستعربين الأوربيين عن وجود شخصيتين في محمد احدهما روحية والأخرى سياسية، ولاحقا مكية ومدنية. وهي فكرة مسطحة وتصنيفية بمعايير العلم التاريخي السائدة آنذاك. في حين اعتبر برنارد لويس محمدا شخصية استجابت للحاجات الاجتماعية والسياسية لعصره. بينما اعتبره البعض شخصية مظلمة لا يختلف عن مسيلمة الكذاب. أما الهنغاري اغناطيوس جولدتسيهر(1850-1921) فاعتبره أول مصلح في الجزيرة. في حين قال ارثور جون آربري(1905-1969)، بان الإسلام هو محمد. واعتقد بأن من الضروري دراسة الحالة الاجتماعية والثقافية والنفسية والأيديولوجية للعرب آنذاك، وكذلك دراسة القرآن والشعر الجاهلي لكي يمكن على أساسه تقييم شخصية محمد. وعموما، إن الإسلام قطع مسار التطور الطبيعي للعرب وقدّم نموذج جدي، وبالتالي، فإن الإسلام هو مرحلة ضرورية في تطور الوعي الديني في الجزيرة.

وقد شكلت تراجم القرآن احد المصادر المهمة لدراسة شخصية النبي محمد. وقد بدأت هذه الدراسات منذ وقت مبكر نسبيا في أوربا. فقط ظهرت أولى الطبعات إلى اللاتينية في سويسرا عام1543، ثم تلتها إلى الايطالية عام1547 (اندريه ارفابينه)، ثم للفرنسية عام 1633 (اندريه دي رير) وكذلك ترجمة اندريه دو بيه. ثم أخرى للاتينية عام 1649 وأخرى 1698 والتي قام بترجمته مراجي. وتعبر من الترجمات الجيدة نسبيا، وعنها قام بترجمته للألمانية نيريتيرا عام 1703. ثم ترجم للإنجليزية مرتان متتاليان الأولى ظهرت عام 1649 والثانية عام 1688. وللهولندية عام 1658 . وترجم للروسية مرات عديدة. ومن بين أوائل التراجم ما قام به بوستينكوف عن الفرنسية عام 1716 ثم فيريوفكن 1791 وبعده نيكولايف 1842 ثم كاظم بيك 1859 (عن العربية) وتبعها ترجمات عديدة حتى يومنا هذا.

وعلى اساس هذه التراجم وغيرها ظهر الاهتمام بما يسمى بالدراسات القرآنية، التي سلطت الأضواء على مختلف الجوانب المتعلق بالقرآن، من دراسة الكلمات وأصولها والعبارة وتركيبها، والصيغة المأثورة للغة العرب ما قبل الاسلام، وأثر البيئة والشعر والعرافة والكهانة وغيرها في بلورة الصيغة المعروفة عن لغة القرآن. ثم دراسة القرآن من الناحية التاريخية، بما في ذلك ترتيب سور وآيات القرآن بما يتناسب مع "نزولها" الزمني. وتباينت هذه الدراسات من حيث قيمتها بالنسبة لدراسة شخصية محمد، إلا ان هناك من بينها من اتسم بقدر كبير من المنهجية العلمية والبحث الأكاديمي الرصين، كما هو الحال بالنسبة لكتاب المستشرق والمستعرب الالماني الكبير تيودور نولدكه(1836-1930)(تاريخ القرآن) بستة أجزاء (1909-1938، بالألمانية)، وكتاب المؤرخ واللغوي الانجليزي كلير تيسدال (1859-1928) (المصادر الأصلية للقرآن) (1911، بالإنجليزية)، وكتاب ادوارد سيل (التطور التاريخي للقرآن) (1909، بالإنجليزية)، وكتاب ستانتون (تعاليم القرآن او بيان القرآن) (1919، بالإنجليزية)، وكتاب اغناطيوس جولدتسيهر (صحيح الدراسات الإسلامية القرآنية) (1920 بالألمانية)، وكتاب ريتشارد بيل (مقدمة لدراسة القرآن) (1952 بالإنجليزية).

أما الدراسات التي تناولت شخصية محمد بصورة محترفة، فإنها كثيرة ومتنوعة الأحجام والمستويات، لكنها لعبت دورا كبيرا في إرساء الأنماط الشكلية السيئة عن شخصية النبي محمد. غير أنه جرى تهذيبها مع مرور الزمن في مجرى دراسة حياة محمد وأفكار. واكتفي هنا بالإشارة إلى المهم من بينها والتي ترتقي إلى مصاف "النخبة المكتبية".

فمن الناحية التاريخية يمكن الإشارة إلى احد المؤلفات القديمة التي كتبها بيوتر الموّقر (ولد عام 1594)، الذي ألف كتابان، الأول تحت عنوان (سيرة النبي وحياته) والثاني (جدل بين مسلم ونصراني). وكلاهما مليئان بالتشويه والكذب. وقد كتب لهما مقدمة في وقت لاحق مارتن لوثر! وقد تأثر فولتير بهذا النمط من الكتابات الضعيفة بحيث نعثر على صداها في فكرته عن مطابقة الاسلام مع النزعة الجبرية والتعصب إضافة إلى كمية كبيرة من الاتهام الجاهل بحقه. لكنه غيّر رأيه بصورة معاكسة تماما وأصبح من المدافعين عن محمد تحت تأثير  كتاب غافييه (الفرنسي البروتستانتي الطريد) الذي وضعه عن حياة محمد استنادا إلى ترجمته الخاصة لتاريخ أبو الفدا (التاريخ) عام 1732. وضمن هذا السياق سار المستشرق الالماني يوهان ياكوب رايسكه (1716-1774) بعد ترجمته لكتاب أبي الفدا المشار إليه أعلاه. واستمر بهذا التقاليد شبه العلمية المستشرق الفرنسي الشهير انطوان ايزاك سلفستر دي ساسي(1758-1838).

أما في العصر الحديث فتجدر الإشارة إلى عدد من الكتب التي لعبت دورا كبيرا، ضمن سياق الدراسات الاستشراقية، عن رسم ملامح الشخصية المحمدية. فقد ظهر كتاب كوسين دي بيرسيفال(1795-1817) عام 1846-1848 عن (تاريخ الاسلام وحياة محمد) بثلاثة أجزاء. وتبعه أو تزامن معه كتاب ميولر عام 1858 بأربعة مجلدات ضخمة عن حياة محمد هي من بين أفضل الأعمال المكتوبة آنذاك بالإنجليزية وصدرت تحت عنوان (حياة محمد وتاريخ الاسلام منذ الهجرة، مع مقدمة خاصة بالمصادر الأصلية المتعلقة بسيرة محمد). وقد أعار ميولر اهتماما خاصا في كتبه للأبعاد السياسية في حياة محمد. ولحقه كتاب كويل س. (محمد والمحمدية) (بالألمانية 1889)، ثم كتاب مرجيليوث د.س. (محمد وظهور الاسلام) (بالإنجليزية) عام 1905.

كما تجدر الإشارة إلى كتابات ارنست رينان(1823-1892) وتحليله النقدي والتاريخي تجاه الاسلام ومحمد والتي سيقوم لاحقا بتحليلها والبرهنة على ما فيه من جانب عدد كبير من المستشرقين والمستعربين مثل النمساوي ألويس شبرنجر والالماني ثيودور نولدكه.

فقد اظهر ألويس شبرنجر (1813-1893) فيما وضعه بهذا الصدد عن احترام كبير للإسلام، لكنه يلتقي مع ميولر بنظرته إلى النبي محمد، باعتباره شخصية ليست مثالية. إضافة إلى البحث عن الجوانب "المظلمة" في حياة وشخصية محمد. ولم ير شبرنجر في محمد شخصية موهوبة، وبالتالي فإن انتصاره كان بفعل مصادفات وظروف حالفه الحظ فيها. بينما نراه يجد في عمر بن الخطاب الشخصية الفعلية والمؤسسة للإسلام. وعلى العكس من هذه المفاهيم تناول المؤرخ الاسكتلندي توماس كارليل(1795-1881) شخصية النبي محمد في كتابه الشهير عن العظماء والأبطال في التاريخ. وضمن سياق الدراسات النقدية التاريخية الدقيقة التي تناول في الكثير منها شخصية النبي محمد تجدر الإشارة إلى المؤرخ الالماني الكبير يوليوس فلهوزن (1844-1918)، الذي حاول تنقية التاريخ الاسلامي مما لصق فيه من انطباعات وأحكام ليست دقيقة. كما كتب كل من المستشرقين الألمان غوستاف فييل ((1808-1889) ونولدكه عن محمد بصورة عرضية ضمن سياق دراساتهم عن القرآن. واتسمت أبحاثهما بالتدقيق التاريخي الرصين والموثق، وبالأخص عند تيودور نولدكه الذي جرب هذا المنهج للمرة الأولى في أطروحته عن تركيب الآيات القرآنية، والتي طورها وعمقها وتوسع فيها لاحقا في احد اكبر وأعظم المؤلفات الأوربية عن تاريخ القرآن في كتاب الموسوعي الذي صدر تحت عنوان (تاريخ القرآن).

كما تجدر الإشارة إلى كتاب تور أندريه (محمد الإنسان في ورسالته وعقيدته) الذي ظهر للمرة الأولى عام 1918 بالألمانية ثم بالطبعة الإنجليزية عام 1936، وكذلك كتاب بيل، ر. (أصل الإسلام في بيئته النصرانية) عام 1928 بالإنجليزية، وكتاب سويتمان ج. (الاسلام واللاهوت النصراني) بثلاثة أجزاء (1945-1955) بالإنجليزية، وكتاب المؤلفان فيول ف.، وشنايدر (حياة محمد) بالألمانية 1955، وأخيرا كتابات واط مونتغومري واط (محمد في مكة) (1953) و(محمد في المدينة) (1956) وكلاهما بالإنجليزية. والأخير من بين أكثر الكتب موضوعية ودقة وتتبعا لحياة محمد العملية.

حقيقة النبوة المحمدية

النبوة ليست تكهنا بالمستقبل، بل استدراكا له بمعايير المطلق. كما أنها ليست نبوءة بالمستقبل، بل إدراكا له بمعايير الماضي. وهي ليست فعلا عابرا ولا كيانا طارئا، بل إرادة متحررة من رق الماضي والمستقبل، لأن أولها حق وآخرها حق. الأمر الذي يميزها عن النبوة الكاذبة والأنبياء الكذبة. تماما كما نقول فيلسوف حقيقي وآخر مزيف، ومفكر حقيقي وآخر مقلد ومبتذل، وشاعر فحل وشويعر وشعرور وما إلى ذلك.

وفي هذا تكمن حقيقة النبوة باعتبارها إرادة متسامية. لأن النبوة هي معاناة الحق. وليس مصادفة أن تظهر على خلفية الانحطاط المادي والمعنوي للشعوب والأمم، باعتبارها تحد ملهم للحياة. من هنا وحدة الحياة والموت في بدايتها، والانبعاث والقيامة في نهايتها كما لو أنها تستعيد في مظهرها معنى الحركة المطلقة للحياة، باعتباره صيرورة حرة تحددها جبرية الالتزام الفردي والجماعي تجاه النفس والآخرين.

الأمر الذي يجعل من النبوة معاناة الحق. مما يفترض رؤية المجاز فقط في أحكامها. بمعنى رؤية المعاني الروحية الخالدة لا العقائد الثابتة. إذ لا أمر جازم في النبوة غير دعوتها لتمثل الحق. وهو كيان متغير في الصور ثابت بالمعنى. الأمر الذي يستلزم النظر إلى القرآن، باعتباره كتاب الوحي النبوي، على انه نموذج وتجسيد وتحقيق لمعنى النبوة بوصفها معاناة من اجل الحق، والرسالة بوصفها تحقيقا لها في المواقف والقيم والأحكام. وبالتالي ليس القرآن بهذا المعنى سوى قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني، والتي شكّل التوحيد نموذجها الأرقى.

فحقيقة التوحيد تقوم في كونه نظام الوجود الحق، أي نظام النسب المثلى، الذي يفترض بدوره إبداع التجانس التاريخي الدائم بين عوالم الملك والملكوت في جبروت الإرادة الإنسانية الفاعلة باسم الحق. وهي ذات النسب التي تكشف عن تجليها الفعلي في شخصية النبي محمد وجهاده التاريخي باعتباره اجتهادا وتحقيقا مرنا لنسب الملك (الإنساني - الطبيعي) والملكوت (الإلهي - المطلق) في الفعل الإنساني بوصفة إرادة دائمة للخير. الأمر الذي جعل من النبي محمد احد النماذج المثلى التي جسدت وحققت في ذاتها وأفعالها وإرادتها وغاياتها النسبة الحية لما ادعوه بالطبيعي والماوراطبيعي في الموقف من إشكاليات الوجود الكبرى.

ومع ذلك لا تخلو الأنبياء من أساطير في معتقداتها، لكنها أساطير رمزية، وذلك لأن جوهرها معاناة فردية، وغاياتها قيمة معنوية. لكن الامر يختلف حالما تنتقل إلى ميدان العوام. حينذاك تصبح شعوذة تقليدية، بحيث تتوحد في جوهرها وغايتها على تخدير العقل واستباحة الضمير. وقد كانت تلك على الدوام النتيجة الحتمية الملازمة لبلوغ المرحلة الدينية السياسية في الوجود والوعي حدودها القصوى، أي حالة الانحطاط المغلقة. ولكل حالة تاريخية ثقافية نموذجها الخاص في تجسيد وبلوغ المبادئ والغايات، كما أن لكل منها نهايته الحتمية ونموذج الخروج منها عليها ببدائل مستقبلية. وفي الحالة المعنية يفترض ذلك تحرير الأنبياء من النبوة اللاهوتية عير إرجاعهما إلى ميدان التاريخ الفعلي، بوصفهما محاولة من محاولات الإصغاء لصوت الحقيقة والاستماع إليها عبر معاناة الباطن الفردية.

وضمن هذا السياق أيضا يمكن فهم المعنى الحقيقي الكامن فيما أسميته بمحمد رسول الإرادة، أي حياة وفناء الشخصية المحمدية في الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية للعرب (والمسلمين)، التي لا تشكل النبوة فيها سوى أسلوبها العملي ونموذجها التاريخي. وقد كان الجاحظ على حق عندما قال بأن حقيقة الإنسان إرادة. والنبي محمد هو أولا وقبل كل شيء إنسان، وبالتالي فإن حقيقته إرادة، لكنها إرادة البدائل الكبرى. ومن ثم ينبغي قراءة وفهم ما في الكتاب ضمن هذه الرؤية المنهجية وهذا السياق التاريخي والثقافي لصيرورته وكينونته وديمومته أيضا.

ومن ثم يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده، إن الكينونة التاريخية للأمة هي كينونة إرادتها. والإرادة هي ليست فقط ما تريده، بل وما تعيه بمقاييس الواجب التاريخي للوجود والمثال. فاقتران كينونتها التاريخية بصيرورة إرادتها المثلى يكشف عن ضرورة جهادها واجتهادها بمعايير وعيها الذاتي، أي بمعايير الكلّ الثقافي المتراكم في مجرى تجاربه المتنوعة من أجل تذليل الحدود الذاتية في تجاربها التاريخية. وفي الحالة المعنية تذليل الكينونة العربية لصيرورتها التاريخية الثقافية في المرحلة الدينية السياسية عبر نقلها إلى المرحلة السياسية الاقتصادية من خلال تذليل فكرة وحالة الهيمنة الظاهرية والباطنية لفكرة الأصول الدينية (اللاهوتية) في كافة مجالات الحياة ومستوياتها النظرية والعملية. 

شخصية محمد ودورها التاريخي

لكل مرحلة تاريخية تصوراتها وأحكامها عن الماضي. وللماضي هنا وقعه الخاص. فهو زمن عند الأغيار، وتاريخ عند النفس. والفرق بينهما كالفرق بين المسلم وغير المسلم حالما يقولان أن محمدا عبقري. ففي الحالة الأولى هو تمثل لحقائق الروح وتاريخ المعاناة الذاتية، بينما في الثانية هو حكم وتقييم مجرد. وينطبق هذا على كل مقولات ومفاهيم الوجود التاريخي للأمم. وذلك لأنها تبقى في نهاية المطاف مقولات ومفاهيم ثقافية صرف. واستخلاص الصرف منها يمكنه الاندماج في الفكرة المجردة للرؤية الإنسانية العامة وتجاربها حالما يرتقي الجميع إلى مصاف الفكرة الميتافيزيقية أو فكرة ما وراء الوجود الطبيعي المباشر.

شخصية محمد الفعلية

إن الشخصية الواقعية هي شخصية تاريخية. ومحمد واقعي فهو تاريخي. والصورة الأكثر صدقا هي القادرة على رؤية الصيرورة التاريخية والواقعية للشخصية، ومن ثم رؤية أفكارها ومواقفها وعقيدتها ضمن هذا السياق. فهو الأساس الضروري لبناء الصرح الفعلي لعالمها الذاتي. حينذاك فقط يمكن الكشف عما فيه من دهاليز وطرق قادرة على إيصال البحث فيها عما كان محمد نفسه يدعو إليه: الخروج من الظلمات إلى النور! بمعنى كيفية تراكم وتحديد مهمات وغاية التحدي للواقع التاريخي وشحذ الإرادة وعقلها الذاتي من اجل رسم ملامح وحدود البديل التاريخي.

لم يفكر النبي محمد ولم يضع أمام ناظريه ما ندعوه الآن بمهمات الحاضر والمستقبل، وذلك لأن المرجعيات الممكنة والمحتملة بالنسبة لنقل الأقوام والأمم إلى المرحلة الدينية السياسية تظل دوما محكومة بفكرة الواحد المتسامي والوحدة الخالصة لروح الجماعة النقية والتقية. وهي مرجعية قادرة على إبداع مختلف النماذج العملية الضرورية لحل المشاكل والقضايا التي تواجه الأمة والدولة. بمعنى أنها تمتلك الصيغة النظرية المجردة للاجتهاد النظري والعملي. الأمر الذي يجعل من تحرير الرؤية العلمية من غشاء العقائد الدينية واللاهوتية أسلوبا لإرجاع محمد الحقيقي وحقيقة محمد إلى أصل وجذر واحد، ألا وهو كفاحه الذاتي وبناء شخصيته في مجراه. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن المصدر الأكثر دقة لإدراك شخصية محمد وحقيقتها هو القرآن. وبالتالي، فإن إعادة ترتيب آياته بما يتوافق مع زمن "نزولها"، أي بما يتوافق مع ما أطلقت عليه الثقافة الإسلامية عبارة "أسباب النزول" سوف يساهم في رؤية شخصيته التاريخية والواقعية كما هي، ومن خلالها تتبين ملامحها ومعالمها الفعلية. وذلك لأن الرؤية الواقعية والعلمية الدقيقة هي أكثر "قدسية" من تقديس اللاهوت الأجوف.

 فالقرآن واحد من حيث آياته بوصفها استجلاء لمعاناته الفعلية في مجرى كفاحه من اجل التوحيد، وبالتالي لا يوجد قرآنا مكيا وآخر مدنيا. والترتيب الدقيق يصنع رؤية دقيقة، بينما عادة ما يؤدي الترتيب كيفما كان إلى إمكانية تصوير محمد كيفما كان. طبعا، إن هذه المهمة معقدة للغاية ولكنها ممكنة، على الأقل بالشكل الذي يجعلها أكثر قربا من الواقع، لكن المشكلة تقوم في أنها مهمة "محرّمة" بحيث تجعل من كل محاولة بهذا الصدد كفرا وإلحادا، مع أن جميع المعطيات والوثائق التاريخية وما هو مجمع عليه بين المسلمين يؤكد ويحقق الفكرة القائلة، بأن جمع القرآن وإخراجه بصيغته الحالية هو من عمل واجتهاد المسلمين الأوائل. 

محمد الإنسان والنبي

لقد جمع محمد بين الإنسان والنبوة، أو أن النبوة امتداد للإنسان فيه واستكمال له وتحقيق ما فيه من خصال وتجارب. إذ لم يتحول محمد إلى نبي بل صار إياه. والنبوة، شأنها شأن كل حالة نوعية في الاحتراف الإنساني لها مقدماتها وخصوصيتها. فالأنبياء كالعلماء والشعراء والفلاسفة والأدباء وقادة الحروب وأهل السياسة والدولة، لكل منهم خصوصيته وموقعه فيما ينتمي إليه وصار جزءا منه، وأثره في تقاليد احترافه وخارجها.

فالتاريخ الإنساني يعرف أنبياء قد يصعب حصر أعدادهم. فمنهم من مات واندثر بلا أثر، ومنهم من بقي ذكرى في العقول والأوهام، ومنهم من تشظى في أساطير وحكايات، ومنهم من يتلألأ في الماضي وذكرياته من أقوال وأفعال مأثورة، ومنهم من عمّر واستمر في رحيق الثقافة الروحية والفكرة الدينية، ومنهم من بقي فاعلا في عقول وضمائر الأمم، ومنهم من ارتقى إلى مصاف المرجعية المطلقة لإتباعه.

حقق النبي محمد بذاته صيغة ما أسميته بلوغ مصاف المرجعية المطلقة لاتباعه (المسلمين) مما أدى الى أن تقتطف هذه الصيغة من كل الأنواع الأخرى ما يمكّنها من تعزيز قيمتها المرجعية الروحية والفكرية الدائمة. لاسيما وأنها تغلغلت جميعا في مسام المعركة التاريخية الكبرى التي قادها في نقل العرب من الطور الثقافي الديني إلى الطور الديني السياسي، أي إرساء أسس الانتقال الأكبر والأعقد في تاريخ العرب ولاحقا المسلمين بمختلف أقوامهم وشعوبهم وأممهم. وهي العملية الثقافية الكبرى التي أسست للطابع الثقافي للقومية العربية والأمة الإسلامية ككل. (يتبع....)

*** 

 

في المثقف اليوم