قراءة في كتاب

كتاب: فلسفة البدائل الثقافية من تأليف ميثم الجنابي

671 ميثم الجنابيصدر حديثا عن دار ميزوبوتاميا كتابي (فلسفة البدائل الثقافية) وهو القسم الأول من مشروعي الفلسفي التأسيسي. والكتاب بأربعمائة صفحة من القطع الوزيري (الكبير). كما إن له لواحق بأربعة كتب سوف تصدر عن الدار قريبا.

والكتاب صيغة "تجريبية" أولية ومختصرة عن النص الأصلي الذي لم يكتمل بعد، والذي عملت وأعمل عليه في مجرى العقود الثلاثة الأخيرة. وهو من حيث الحجم فيما يبدو سيتجاوز سبعة أو ثمانية أضعاف هذا الكتاب. 

ويحتوي الكتاب على مقدمة وخاتمة وعشرة ابواب بثمانية وعشرين فصلا. وعنوانه خاص، بوصفه القسم الاول من الكتاب هو (البحث عن مرجعية الفكرة العربية)

الباب الأول ـ عقل الذات العربية في أطوار الملة والأدلة

الفصل الأول- الخروج الصعب للذهنية العربية من دهاليز الصعاليك والمماليك

الفصل الثاني - التصوف الفاعل والتشخص التاريخي للرمز الثقافي

الباب الثاني: عقلانية الضمير - الوحدة الحية لطلاقة اللسان وتحصين الأركان وإنعتاق الوجدان

الفصل الأول : ضمير اللغة ولغة الضمير الثقافي.

الفصل الثاني: طلاقة اللسان – الإفشاء الأخرس للعقل الناطق

الفصل الثالث: "تحصين الأركان" وانعتاق الوجدان – المناعة الثقافية لوعي الذات العربي

الباب الثالث: الإصلاحية الإسلامية ومصيرها التاريخي

الفصل الأول: صيرورة الفكرة النقدية والـتأسيسية العملية للإصلاح

الفصل الثاني: الإصلاح الثقافي والقومي

الفصل الثالث: المآثر التاريخية للإصلاحية الإسلامية

الباب الرابع: لغة الحرية ووجدان الذات الثقافية

الفصل الأول: لسان الأدب الذاتي والوجدان التاريخي

الفصل الثاني: لغة الوجدان الذاتي

الفصل الثالث: الشعر ولغة الشعور الذاتي العربي

الباب الخامس: الفكرة العربية وفلسفة الوعي القومي الذاتي

الفصل الأول: بزوغ الفكرة العربية الجديدة

الفصل الثاني: الفكرة العربية الصاعدة وفلسفة الوعي القومي الذاتي

الفصل الثالث: الفكرة العربية والوعي القومي الذاتي

الباب السادس: العقلانيات المبتورة والأيديولوجيات الراديكالية

الفصل الأول: عقلانيات بلا عقل ذاتي

الفصل الثاني: عصر الأيديولوجيات الراديكالية

الفصل الثالث: الأيديولوجية القومية العربية

الباب السابع: الموجة الأخيرة للأيديولوجيات الإسلامية الحديثة

الفصل الأول: المركزية الإسلامية - قوانين التاريخ ومنطق الثقافة

الفصل الثاني: التقاليد الإسلامية السياسية ووعي الذات السياسي الحديث

الفصل الثالث: الموجة الأخيرة للفكرة السياسية والحضارية الإسلامية

الباب الثامن: نهاية الأيديولوجية وأزمة البدائل

الفصل الأول: معضلة القومي والثقافي في وعي الذات العربي

الفصل الثاني: فلسفة الأزمة – من تراث الأزمة إلى أزمة التراث

الفصل الثالث: الموقف من التراث

الباب التاسع:  أزمة الهوية الثقافية وانتكاس "العقل العربي"

الفصل الأول: من الدعوة للعقل إلى نقد العقل

الفصل الثاني: حصيلة العقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث

الفصل الثالث: العقلانية العربية الحديثة وآفاقها

الباب العاشر: البحث عن البدائل . 

الفصل الأول: حكمة العقل التاريخي ونقمة الاستلاب الثقافي

الفصل الثاني: تأصيل العقل والعقلانية وتلقائية الإبداع التاريخي

671 ميثم الجنابي

إن مهمة هذا الكتاب لا تقوم في وضع تاريخ شامل لفلسفة الحضارة الإنسانية، رغم وجودها الدائم والذائب فيما أضعه هنا، بل مهمة تأسيس الرؤية الفلسفية الثقافية للتاريخ والفكرة المستقبلية من اجل تأسيس الفكرة العربية وتحديد مهماتها الواقعية للانتقال من المرحلة الدينية السياسية، التي مازال العالم العربي مقيدا في شرنقتها لخمسة قرون متوالية بعد سقوط الأندلس غرناطة عام 1492، إلى المرحلة السياسية الاقتصادية.

وبالتالي فان المقصود "بفلسفة البدائل الثقافية" هو تفسير التاريخ الذاتي للأمم ورؤية آفاقه من خلال تحديد المسار الفعلي في مراحله الثقافية ووعيها الذاتي. أنها تحتوي بقدر واحد على البحث عن قوانين التاريخ ومنطق الثقافة بالشكل الذي يجعل من إدراكهما المتوحد أسلوب وعي الذات الاجتماعي والقومي. وبالتالي يجعل من التفسير أداة لتوسيع وتعميق وعي الذات في مختلف الميادين والمستويات بالشكل الذي يعيد على الدوام تأسيس منظومة الرؤية وتحقيقها الفعلي في الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة. ذلك يعني، أنها فلسفة تاريخية ثقافية قومية بالمعنى المجرد، وسياسية بمعناها العملي. وفي كلتا الحالتين لا تحتوي على استعداد للتأويل المفتعل والمتحزب، على العكس، أنها تنفيهما بمعايير الرؤية العقلانية والنزعة الإنسانية وفكرة الاحتمال الدائم، بوصفها الأضلاع الثلاثة القائمة في تاريخ المسار الطبيعي للأمم ومنطق ارتقائها الثقافي. وفي هذا تكمن منهجيتها الخاصة.

إن المنهج الخاص "لفلسفة البدائل الثقافية" ينطلق من وحدة الماضي والحاضر والمستقبل في مراحل التاريخ الثقافي للأمم، بوصفها عملية تتوحد فيها الإرادة العقلية الحرة وأثرها الفاعل في كيفية حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة، وبالتالي إبداع المركزية الثقافية ومرجعياتها الذاتية المتسامية. ذلك يعني أنها فلسفة تتمثل تاريخ الأمم وليس الأقوام والشعوب، لكنها تستطيع تفسير سرّ الوقوف التاريخي للأقوام والشعوب بوصفها تجارب عابرة أو جزئية في مراحل الانتقال الثقافي، دون أن يلغي ذلك أو ينفي قيمتها أو حتى أصالتها.

لكن الجوهري في التاريخ العالمي (العام والمجرد) يبقى مع ذلك هو تاريخ الأمم الكبرى، أي الأمم الثقافية وليست الأقوام والشعوب العرقية. ففي وجود وإبداع الأمم الكبرى يتوحد مسار القانون التاريخي ومنطق الثقافة، بوصفها القوة الضرورية للتكامل الإنساني على المدى البعيد، والقادر على تجاوز حالة الوجود الطبيعي إلى الماوراطبيعي، بوصفه تاريخ المستقبل. وحالما تبلغ الأمم تاريخ المستقبل، عندها يكف الماضي عن أن يكون صنما، بينما يتحول الحاضر إلى مستقبل، أي إلى احتمال عقلاني وإنساني دائم لا يخلو من المغامرة لكنه مجرد عن المقامرة أيا كان شكلها ونوعها.

فالقانون القائم في تاريخ الأمم هو الارتقاء من الوجود الطبيعي إلى الوجود الماوراطبيعي. أما مضمونه التاريخي فهو منطق الارتقاء الثقافي. وتجارب الأمم الكبرى في كيفية إرساء أسس مركزياتها الثقافية مرتبط بكيفية تأسيس العلاقة بين الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة والدولة والثقافة، أي في منظومة الوجود المادي والمعنوي وكيفية ربطهما في مرجعيات ثقافية متسامية – ما فوق تاريخية. وكلما ترتقي الأمم في ميدان صنع المرجعيات المتسامية، أي الخروج على قانون التاريخ الطبيعي العادي كلما تقترب أكثر من تاريخ الطبيعة و"منطقها" ولكن بمعايير الرؤية الثقافية والكونية، أي رؤية أبعاد الوحدة الفعلية للوجود بوصفه سر الوجود والمعنى الكامن فيه. ولكل مرحلة ثقافية كبرى أنماطها الخاصة بهذا الصدد بوصفها تجارب تاريخية.

وقد شكل العرب في مجرى المسار التاريخي لارتقائهم الذاتي امة كبرى، أبدعت مركزيتها الثقافية ومنظومة مرجعياتها المتسامية التي أدت في نهاية المطاف إلى إنتاج حضارتها الكونية الخاصة (العربية الإسلامية). من هنا فان المهمة الأساسية لهذا العمل تقوم في تأسيس فلسفة للبديل العربي (القومي)، الذي يستند بقدر واحد على إدراك قانون التاريخ، ومنطق الثقافة، وفكرة الاحتمال (في البدائل). بمعنى تأسيس منطق التاريخ المستقبلي بوصفه احتمالا، وفكرة الاحتمال بوصفها تاريخا، أي جعل التاريخ احتمالا دائما (اجتهادا) والاحتمال تاريخا فعليا (جهادا). وتستند هذه الفكرة بدورها إلى أن التاريخ هو صيرورة دائمة من الاحتمال. وللاحتمال منطقه الذاتي المتراكم في كيفية تجاوز الوجود الطبيعي إلى الوجود الماوراطبيعي. وهذا بدوره ليس إلا حلقات أو مراحل الارتقاء التاريخي الثقافي، أو ما أسميته بقوانين التاريخ ومنطق الثقافة.

إن إرساء أسس المركزية الثقافية الكبرى وتكاملها في منظومة حضارية بالنسبة للعرب، والتي رافقت عملية الانتقال من القومية العرقية إلى الأمة الثقافية بفضل الإسلام، قد وضعت المقدمة التأسيسية الكامنة في الوعي العربي وكينونته الثقافية. وإذا كان الانقطاع التاريخي الذي تبع سقوط مراكزه الثقافية السياسية الكبرى (دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة) قد أدى إلى جموده وسباته الطويل، ومن ثم تحلل واندثار وحدته العملية بأثر اندثار مركزية الدولة السياسية (الخلافة)، فان بقاء كينونته الثقافية الكامنة هو جزء من تاريخ المنطق الثقافي، أي ذاك الذي يمكنه السبات والاختباء تحت مختلف أنواع الغبار والدمار، لكنه يبقى محافظا على نوعيته المجردة بوصفه منطقا ثقافيا. فالدولة تتحلل بأثر سقوط مركزيتها السياسية، لكن الثقافة التاريخية الكبرى ونمطها الحضاري لن تتحلل، بل تبقى عائمة في برزخ الوجود التاريخي للأمة، بوصفه الحلقة المنفية في تطورها الذاتي.

والوجود العربي الحالي يكشف عن اندثار مركزيته السياسية القديمة، ومن ثم تحلل وحدته القومية السياسية، لكنه متوحد في تاريخه الثقافي وجغرافيته الثقافية. وهي المكونات الأكثر جوهرية بالنسبة للكينونة العربية، بوصفها صيرورة ثقافية. فالعرب امة ثقافية وليست عرقية، وتاريخهم هو توليف للتاريخ الثقافي والفكرة الكونية (الإسلام) وليس زمن القومية والعرقية. من هنا بقاء وجوهرية الكينونة الثقافية وفعلها الدائم في الحس والعقل والحدس. وسبب ذلك يقوم في أن وحدة التاريخ والجغرافيا الثقافية هو ميدان ظهور وتحقيق ثنائيات الصيرورة التاريخية للكينونة العربية الثقافية. ففيهما ومن خلالها تراكمت تجارب الحلول الكبرى لإشكاليات الوجود والطبيعي والماوراطبيعي، التي أنتجت مركزيتهم الثقافية الكونية الكبرى (الحضارة العربية الإسلامية).

ذلك يعني أن المركزية الباقية بالنسبة للعرب المعاصرين تقوم في وحدة التاريخ الثقافي والجغرافيا الثقافية. والمهمة الأساسية الحالية لا تقوم في كيفية استعادتها أو إعادة بنائها، بل في تأسيسها المعاصر. بمعنى أن المهمة لا تقوم في تنظيم مختلف أشكال وأنماط النماذج المثلى، لأنه لا يؤدي إلا إلى فوضى التجهيل والتقليد وتخريب العقل النقدي ورؤية الاحتمال العقلاني وواقعية البدائل. فواقعية البدائل هي تاريخ المستقبل وليس زمن الأسلاف أو تجارب الآخرين. وبالتالي، فان المهمة تقوم في استكمال المسار التاريخي صوب تذليل الهوة والفجوة المنقطعة في تاريخنا الذاتي.فقد بلغ العرب في مسارهم التاريخي مرحلة الانتقال من الوعي الديني اللاهوتي صوب الوعي الثقافي السياسي.

إن للتاريخ ألعابه الماكرة مع الأمم. كما أن للأمم مآثرها ومهازلها في تاريخها الذاتي. وحالما تصطدم هذه المكونات المتعارضة فيما بينها، عندها تصبح فكرة التاريخ والوعي الذاتي القومي طرفين لتأمل الماضي ونقد الحاضر والحلم بالمستقبل.

ووضعت هذه المقدمة، أو تتبعت ما تسعى إليه من أفكار أساسية في التقديم الموسع، أو المقدمة النظرية التي حاولت من خلالها تبيان المنهج الفلسفي الجديد في تناول اشكاليات الوجود التاريخي والمستقبلي للأمم. وهو بدوره تقديم مختصر (بحدود سبعين صفحة). ان منهجي الفلسفي الجديد يذل خلافات واختلافات المناهج الفلسفية السابقة سواء منها ما ينظر إلى التاريخ بمعايير جزئية (اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو ذهنية أو صناعية او غيرها). وينطبق هذا على من يؤسس لها بوصفها عملية تاريخية صاعدة محكومة بقوانين صارمة، أو من ينظر إليها باعتبارها نتاج مصادفات محيرة للعقل أو من يعتبرها نتاج قوى ميتافيزيقية (مادية أو روحية أو دينية). والشيئ نفسه يقال عمن ينظر إلى التاريخ الإنساني باعتباره وحدات متقطعة وتشكيلات حضارية مختلفة ومستقلة بذاتها ولا علاقة لها بالآخرين. اما امتداد هذه المنهج ورؤيته النظرية والعلمية فيجري تطبقها على مختلف جوانب الحياة الإنسانية، التي يجري انتزاع او ابعاد كل ما له علاقة بالآلهة والأساطير أيا كان شكلها ومحتواها.

ان مهمة الفلسفة التي أضع اسسها النظرية والعلمية ذات صلة بالإشكاليات الكبرى لوجود الامة (العربية). ومن خلالها الخروج إلى فضاءها الثقافي التاريخي (الإسلامي) ومنم ثم العالمي. فالامر الجلي بالنسبة للفكرة العربي وحالته الحديثة والمعاصرة أو نقصه الجوهري بهذا الصدد يقوم في افتقاده إلى منظومات فلسفية خاصة به. وهو نقص يرتبط بانقطاعه وانفصاله وانفصامه عن تراثه الفلسفي المنظومي الهائل من جهة، وبسبب استلابه أمام الإبداع النظري الفلسفي الأوربي الذي افقده سلامة الحس ونقد البصيرة وحدس المكاشفة الملازم لكل إبداع أصيل، من جهة أخرى. مما أدى إلى أن يكون الفكر النظري والعملي اجترارا لتجارب الآخرين ودوران في فراغ ثقافي. وهي مفارقة لا يمكنها أن تؤدي إلى نتيجة غير استمرار الاستلاب والضياع وضعف المناعة والفقر المادي والمعنوي. وهذه جميعها نتاج افتقاد العالم العربي لمركزيته السياسية الثقافية الذاتية. 

وبالتالي، فان المهمة الأساسية لكتابي هذا تقوم في التأسيس العقلاني للفكرة العربية، أي فلسفة بناء الوعي الذاتي للعالم العربي وكيانه الخاص. أنها فلسفة جديدة للبدائل الثقافية تحصر توجهها المباشر بالعالم العربي ومن خلاله بالعالم الاسلامي والعالم ككل. أنها لا تسعى لبناء أيديولوجية شاملة، بل لتأسيس منظومة فلسفية – ثقافية للمرجعيات العلمية والعملية، التي توحد في ذاتها ملك وملكوت وجبروت العالم العربي في مستوياته التاريخية والثقافية والسياسية والقومية.

وهي مهمة اعمل على انجازها في ثلاثة أقسام مترابطة، الأول وهو بعنوان "البحث عن مرجعية الفكرة العربية" (الكتاب الحالي) وأتناول فيه تجارب الفكر العربي وحصيلته النظرية التي رافقت مساعيه الحثيثة للاستقلال والتمركز الذاتي بعد قرون طويلة من تحلل واندثار مركزية الثقافية السياسية. والسبب يقوم في انه لا يمكن للفكر أن يساهم بصورة جدية في تغيير الواقع دون إعادة النظر النقدية والفاحصة للكلّ الفكري وحصيلته النظرية لكي يكون بالإمكان لضم مختلف إبداعاته العميقة في استمرار الفكرة، وبالتالي توسيع وتعميق وحدة الانتماء والهموم المشتركة، التي لا يمكن بدونهما صنع البدائل المناسبة.

 بعبارة أخرى، إنني ادرس تاريخ الفكرة من أجل رؤية مسارها المجرد، بوصفه مقياسا لقياس حرارة الوعي الذاتي (العربي)، ومن ثم معرفة ما إذا كانت هذه الحرارة تعبير عن صداع عقلي أم عن طاقة حيوية للخيال المبدع والرؤية المستقبلية.

 ثم الانطلاق من هذه المقدمة لتأسيس منظومة فكرية شاملة لها أسسها الفلسفية الخاصة في القسم الثاني منه. والسبب يقوم في انه لا يمكن صياغة نظرية عملية (سياسية) دون فلسفة للتاريخ، لهذا سوف أضع خطوطها العامة في التقديم العام للكتاب، وصيغتها التاريخية بالنسبة للعالم العربية في القسم الثاني، الذي يحمل عنوان "فلسفة المرجعيات الثقافية للفكرة العربية". ومهمتها الأساسية تقوم في تأسيس منظومة فلسفية ثقافية للتاريخ العربي تشكل الأساس العلمي للعمل السياسي، أي الصيغة النظرية المجردة للفكرة السياسية.

أما القسم الثالث والأخير فهو بعنوان "الفكرة العربية ومرجعيات السياسة العملية". ومهمته تأسيس الفكرة السياسية أو التطبيق العملي لفلسفة المرجعيات الثقافية، التي ادعوها بمرجعيات السياسة العملية، باعتبارها أداة الجبروت العربي المعاصر والمستقبلي، أو إرادته السياسية في التعامل مع الإشكاليات الجوهرية لوجوده التاريخي المعاصر وآفاق تطوره اللاحق.

إن تأسيس وعي الذات العقلاني ومن ثم قدرة التفكير والفكر على امتلاك ناصية الحقيقة الثقافية تفترض تذليل الارتباط العاطفي بالتاريخ ونفيه بالوجدان الواعي تجاه النفس والآخرين، بوصفه انتماءا عضويا ووعيا ذاتيا خالصا. ولا يمكن بلوغ ذلك بالنسبة للفكر العربي المعاصر دون الخروج من كل الثنائيات والمعارضات السياسية والثقافية والأيديولوجية والجغرافية، والبقاء ضمن المسار العام للتاريخ الذاتي وتطوير حصيلته الواقعية في مختلف الميادين.

فالتاريخ الذاتي هو جزء من الماضي الذاتي، بالقدر الذي يشكل الماضي النواة غير المرئية للآفاق الفعلية. إذ لا قانون يحكم المستقبل غير الماضي ومستوى تأثيره وكيفية فعله في الحاضر. وهو حكم لا يغير منه إمكانية انتقال الحاضر إلى المستقبل، أو تجاوز الهوة الزمنية بين "الحاضر" و"المستقبل". وفي هذا "الغلوّ" الواقعي تكمن مفارقة المصير المعاصر للعالم العربي وآفاق وجوده الذاتي والعالمي. وهو مصير يتحدد بمستوى إدراكه لهويته الثقافية وكيفية تذويبها في فلسفة البدائل العلمية والعملية.

إن كل مظاهر العصر الحديث والحداثة، والمقامرة والمغامرة، والمؤامرات والانقلابات، والثورات والثورات المضادة، لم يفلح بعد في إقامة نظام اجتماعي سياسي ثقافي يستند إلى قواه الذاتية، سواء في مسار الاكتفاء الذاتي أو التحديات الممكنة.

فالأزمة التي تولدت عن ضعف المناعة الحضارية، التي واجهها العالم العربي في بداية القرن العشرين مازالت سارية المفعول بقوة تبدو الآن أضعاف ما كانت عليه حينذاك. حيث نقف أمام حالة أشبه بالانهيار التام للكينونة العربية.

وإذا كان لكل انهيار مقدماته، فانه أيضا ميدان البحث عن البدائل ومثار التفاؤل المغري بالنسبة للعقل والضمير في بحثهما وتأسيسهما لحقائق النفس وآفاق تطورها. فالحياة ليست تجربة خالصة. لكنها تحتوي في "تجريبيتها" على عناصر اليقين المتراكمة في تاريخ الانتصارات والهزائم والصعود والهبوط.

ومن العبث البحث عن عناصر اليقين التاريخية في الكيان العربي دون تأمل وحدته العميقة، التي تحتوي على العناصر الجوهرية للتاريخ الواقعي والمثالي بوصفها مكونات فعالة في وجودنا الحالي. ولا يعني ذلك النظر إلى "وجودنا الحالي" كما لو أنها مقدمة مادية تبرهن على عناصر اليقين المذكورة أعلاه. فالجميع أقواما وأمما تتمتع بهذا القدر أو ذاك من هذا "الإثبات الوجودي". وبالتالي، لا يشكل هذا الوجود بحد ذاته دليل على الوجود الثقافي الحي.

يفترض الوجود الثقافي الحي ديمومة مقوماته الذاتية، المتبلورة بهيئة مرجعيات ثقافية جامعة ترتقي إلى مصاف المنظومة المتسامية. ولا يلزم البحث عن يقين لهذه المرجعيات في السياسة أو في الاقتصاد أو في العلم كل على إنفراد، وإلا لأدى ذلك إلى الإقرار بالافتراض الهش القائل، بأن يقين السياسة في السياسة ويقين الاقتصاد في الاقتصاد ويقين العلم في العلم.

إن عين اليقين، القادرة على صنع شعور الانتماء الفعلي للأمة، هو أصالة روحها الثقافي، باعتباره الكيان الأعلى والأعمق والأكثر ديمومة للروح القومي. وهو "روح" لا يمكن فرضه على "شعوب" العالم العربي ودوله القطرية المعاصرة، بقدر ما يفترض على العكس من ذلك، إشراكها الفعال في معاناة إعادة إنتاجه وتأسيسه كل بمعايير تجاربه الفردية. فهو الأسلوب الوحيد الواقعي والضروري لبلوغ ما أسميته بالمرجعيات الثقافية الجامعة، أي عين اليقين القائم وراء مختلف الاعتقادات والفرضيات والقيم الكبرى والعادات، وحدود الشك والحدس الدائم لحقائق الانتماء الروحي الموحد، والفعل الدائم من اجل جلاء مكوناته. ولا يمكن فصل هذه المكونات بالنسبة للعالم العربي عما يمكن دعوته بالإسلام الثقافي، بوصفه الكيان الذي يتمثل حصيلة العناصر الجوهرية للوحدة الاجتماعية والسياسية والثقافية والروحية القومية.

وتكشف التجربة التاريخية للأمم عن أن الصعود الحضاري الأصيل والعمران الشامل يستند بالضرورة إلى نواة داخلية تشكل مصدر الإمداد الذاتي والنفي الحر للأفعال الاجتماعية والسياسية والثقافية والقومية. غير أن ذلك لا يعني وضع أو صياغة عقلانية ثابتة المبادئ والقواعد، بقدر ما يعني التأسيس لمنظومة البحث عن علاقة مرنة بالتاريخ تستند إلى قواها الذاتية. وهي منظومة لا يمكن تأسيسها بالنسبة للعالم العربي إلا عبر وحدته العميقة بتراثه الخاص، أي بتجاربه الذاتية المتنوعة والمختلفة ونتائجها العملية. ففي هذه الوحدة تتكشف حقائق التاريخ العربي، بوصفها الحلقات الضرورية لبناء وعيه الذاتي.

ويفترض بناء الوعي الذاتي بالضرورة تجاوز ربط التاريخ الحضاري للعالم العربي وآفاق تطوره بزمن غير زمنه الذاتي. فهو الزمن الوحيد القادر على التحرر من ثقل وأوهام المقارنات الشرطية بزمن الآخرين. وذلك لأن الزمن الثقافي زمن تاريخي مقترن بمنطق الحق والحقيقة لا بمنطق الضعف والقوة. فالأول هو مصدر التصيّر والاستمرار، بينما الثاني عرضة للتغير والزوال.

وإذا كان التاريخ العربي يستمد كينونته الشاملة والمتوحدة في عوالم الملك والملكوت (مستواها الطبيعي والماوراطبيعي) إلى جبروت الإسلام وتوحيديته الثقافية فيما مضى، فان تصّيره الجديد واستمراره الواجب يتوقف على كيفية بناء منظومة الانتماء السياسي والاجتماعي والقومي بمرجعياته الثقافية. فهي المقدمة النظرية لإعادة ترتيب وعيه الذاتي على أسس الإصلاحية العقلانية، ومن ثم بناء الذات العربية وإحياء وجودها المستقل وتنشيطها الشامل في العالم المعاصر.

فالعالم المعاصر يصنع مقدمات جديدة ويضعنا أمام حوافز إضافية تجاه القضايا والإشكاليات الفلسفية الكبرى في التاريخ والثقافة والعقائد والسياسة، مثل قضايا وإشكاليات التطور والتقدم، والتاريخ والغائية، والقانون والصدفة، والتاريخ العالمي والقومي. كما استثارت هذه الظاهرة بقوة أكثر مما سبق إشكاليات البدائل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية، وقضايا الوحدة والتنوع الحضاري الإنساني.

فالعالم المعاصر لا يقف أمام مفترقات طرق لابد منها، رغم أن المسار العام يبدوا أحديا فيما هو متعارف عليه "بطريق العولمة". أما في الواقع فان العولمة المعاصرة مازالت بلا هوية ذاتية، وذلك لأنها حصيلة تطور ثقافي واحد واقتصاد معولم. بينما المسار التاريخي المستقبلي هو أولا وقبل كل شيء مسار الوعي الثقافي. الأمر الذي يستلزم بالضرورة تكامل مختلف مركزياته الثقافية العالمية. وعند اكتمال مساره "الطبيعي" أو "نهاية التاريخ" الطبيعي عندها يصبح من الممكن الحديث عن عولمة محكومة بمنظومة مرجعيات جديدة تمثل تجارب الكلّ الإنساني بمختلف ثقافاته الكبرى. وما قبل ذلك، أي مما يجري الآن هو مجرد صراع مستمر ومواجهات لن تنتهي ما لم تنته المواجهات الداخلية للمراكز الثقافية أو الحضارية الكبرى في وحدات متناغمة. ولا يمكن بلوغ ذلك خارج إطار الصيغة الفعلية لثنائيات المنطق الثقافي في كيفية حله لإشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي في مراحل التاريخ الذاتي، أي كل ما يستجيب لقانون التاريخ ومنطق الثقافة. والمقصود بالقانون هنا هو  مسار التاريخ الطبيعي الذي يمر ويتحقق بمراحل سبع أساسية، الثلاثة الأولى منها "طبيعية" صرف، والرابعة والخامسة بينية (انتقالية)، بينما البقية (السادسة والسابعة) "ماوراطبيعية". وهي كما يلي:

- المرحلة العرقية – الثقافية،

- المرحلة الثقافية – الدينية،

- المرحلة الدينية – السياسية،

- المرحلة السياسية – الاقتصادية،

- المرحلة الاقتصادية- الحقوقية،

- المرحلة الحقوقية – الأخلاقية،

- المرحلة الأخلاقية -  العلمية

والمراحل الثلاث الأولى هي مسار "التاريخ الطبيعي". والرابعة هي مرحلة الانتقال الثقافية الكبرى، أو العقبة الكبرى أمام الانتقال إلى المرحلة الاقتصادية الحقوقية التي تذلل بصورة نهائية بقايا ومخلفات "التاريخ الطبيعي" للانتقال المنظم إلى التاريخ الماوراطبيعي، الذي تتمثله وتجسده وتحققه المرحلتان الأخيرتان، اللتان تؤسسان لبداية التاريخ الإنساني المحكوم بمرجعية التنسيق الأمثل بين الطبيعي والماوراطبيعي. وما بعدها يبدأ تاريخ المستقبل بوصفه احتمالا عقلانيا إنسانيا.

بعبارة أخرى، إن "تاريخ الحق" أو "الماوراطبيعي" يبدأ بالتشكل الفعلي في المرحلة الثقافية، أي تلك التي تفترض في ذاتها نفي المراحل الخمس السابقة جميعا. فالمرحلة الثقافية الخالصة للأمم هي مرحلة "التاريخ الحق" ونهاية "التاريخ القومي" للأمم. إذ التاريخ الحق هو تاريخ الثقافة (أو النفس العاقلة). وما غيره هو تاريخ القوة الغضبية. أما المكونات الضيقة والمحدودة للتجارب القومية في مستوياتها العرقية والدينية فهي بقايا متحجرة. من هنا فان استعادتها المعاصرة هو نكوص إلى الوراء. بينما المهمة تقوم في لحم الكينونة التاريخية لثقافة الأمة بإشكاليات المرحلة السياسية – الاقتصادية بما يخدم عقد الخلاف الثقافي بين الحضارات والأمم والإبقاء عليها بوصفها خميرة التنوع الدائم في البدائل الثقافية – السياسية. عندها تنفتح بداية المرحلة الحقوقية – الأخلاقية، والمرحلة الأخلاقية - العلمية بوصفهما المرحلتين الأخيرتين لبداية التاريخ الإنساني المحكوم بمرجعية التنسيق الأمثل بين الطبيعي والماوراطبيعي في تجارب المركزيات الثقافية المتكاملة.

أما قانون الثقافة فيجري من خلال فعل ونتائج أربع ثنائيات كبرى هي كل من

- التشاؤم والتفاؤل.

- والفعل والخمول.

- والنفي والإيجاب.

- والعقل والوجدان.

إن تحقيق الانتقال من مرحلة إلى أخرى يجري بأثر فعل هذه الثنائيات وكيفية حلها لإشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي على مستوى الفرد والجماعة والأمة والدولة. ومن خلال هذه المكونات تجري رؤية الماضي والمستقبل. وبأثرها تتبلور معالم الرؤية النظرية والعملية عن الحاضر. ومن هذه المعالم تتولد بدايات الثقافة والحضارة المدركة بمعايير البدائل، أي كل ما يساهم في تكامل واكتمال التاريخ الذاتي. وذلك لأن الرؤية المستندة إلى فكرة البديل، تفترض في تناقض التفاؤل والتشاؤم، والفعالية والخمول، والنفي والإيجاب، والعقل والوجدان، وحدتها بوصفها منظومة متكاملة للبدائل. ومن تعامل هذه المكونات (الثنائيات) النظرية والعملية مع الماضي والمستقبل يتبلور أسلوب وجود الحضارات وثقافاتها. وعادة ما يجري ذلك من خلال تحديد وتفاعل

- اتجاه التفاؤل

- وفاعلية الإرادة

- وكيفية النفي

- ومضمون العقل

إن جميع هذه المراحل انتقالية، بمعنى أن التاريخ عملية مستمرة تحتوي على احتمالات متنوعة من الصعود والهبوط، لكنها لا تنفي مضمون القانون الطبيعي للتاريخ، بل تؤكده بوصفه احتمالا عقليا وإرادة حرة.

ان هذه الصيغة العامة هي بدورها مجرد مقدمة عامة ومكثفة للغاية ستجد طريقها للشرح والبيان والتأسيس بعدد كبير من المجلدات التي تشكل صيغة ومحتوى عملي الفلسفي الاساسي والتأسيس والذي سيظهر تحت عنوان (فلسفة البدائل المسقبلية).

***   ***  ***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم