قراءة في كتاب

كتاب: الاستشراق والاستعراب الروسي..

690 الجنابيالمرحلة التأسيسية.. كتاب جديد لميثم الجنابي

صدر حديثا عن دار المركز الاكاديمي للأبحاث (العراق-كندا) في طبعته البيروتية (2019) كتاب (الاستشراق والاستعراب الروسي) (المرحلة التأسيسية). وعدد صفحاته 205 من القطع المتوسط. ويحتوي الكتاب على ثلاثة أبواب بسبعة فصول. وضمن كل فصل مباحث.

والمهمة الأساسية لهذا الكتاب تقوم في تتبع التطور التاريخي والثقافي والمعرفي والمنهجي للاستشراق الروسي بشكل عام والدراسات الإسلامية والاستعراب بشكل خاص. كما إن الاهتمام فيه موجه أساسا لما اسميته بالمرحلة التأسيسية، على أمل استكماله لاحقا بكتاب ثاني هذا العام أتناول فيه تحليل مختلف انجازات الاستشراق والاستعراب في المرحلة السوفيتية وحتى اليوم.

ومحتوياته كما يلي:

الباب الأول: المرحلة التأسيسية في الاستشراق الروسي

الفصل الأول: الاستشراق وإشكالية الهوية الثقافية

الفصل الثاني: المرحلة التأسيسية في الاستشراق الروسي ومدارسه الكبرى

روسيا "الغربية" وبوادر الدراسات الاستشراقية

نشؤ وتطور التقاليد العلمية ـ الأكاديمية

"الاطراف" و"المركز" في تقاليد الاستشراق والاستعراب

مدرسة موسكو وصيرورة المركز السياسي ـ الثقافي

مدرسة قازان- مركز ثقافي ديني

مدرسة بطرسبورغ ـ صيرورة المركز الثقافي السياسي.

الباب الثاني:البحث عن المخطوطات وأثره في تطوير الاستشراق الروسي

الفصل الأول: أثر المخطوطات العربية - الإسلامية في إرساء اسس الاستشراق

الفصل الثاني: أثر المخطوطات العربية - الإسلامية في تطوير الدراسات العلمية

الفصل الثالث: تاريخ التراجم الروسية للقرآن وأثرها على الدراسات العربية والإسلامية

الفصل الرابع: تراجم القرآن المعاصرة الى اللغات القومية للمسلمين

الباب الثالث أعلام الإسلاميات والاستعراب في روسيا

الفصل الأول: أعلام المرحلة التأسيسية

خرستيان فرين  (1772 – 1851)

بوريس ايفانوفيتش دورن ( 1805 – 1881 )

أسيب ايفانوفيتش سنكوفسكي (1800 – 1858)

الفصل الثاني: أعلام المستعربين المسلمين في روسيا

شهاب الدين المرجاني (1818 – 1889)

إسماعيل كسبرينسكي(كسبرالي)(1851-1914)

زكي وليدوف(1890 – 1970)

الفصل الثالث: أعلام النضوج العلمي للإسلاميات والاستعراب الروس

كريمسكي اغافانغل يوخيموفتش (1871- 1921)

بارتولد، فاسيلي فلاديميروفتش (1869-1930)

كراتشكوفسكي، اغناتاي يوليانوفتش (1883-1951)

690 الجنابي

من المقدمة

إن المسار التاريخي للأمم اقرب ما يكون إلى الفتنة واللغز حالما يرتقي إلى مصاف الكونية أو العالمية. وذلك لأنه يضعها أمام إشكاليات لا تحصى، لعل أدناها هو إعادة النظر الدائمة في انجازاتها التاريخية والثقافية، وأعلاها هو اثر هذه الانجازات بالنسبة للتماهي الفعلي مع حقائق الهوية القومية. فالأقوام الصغيرة اقرب ما تكون إلى صيرورة لم تكتمل أو كينونة مرمية على قارعة التاريخ العالمي تتدحرج مع العابرين والنازحين والغزاة والفاتحين. وهي حالة لا تخلو من البؤس والمأساة لكنها تبقى جزء من مسار التاريخ الإنساني في محاولاته للبحث عن كمال.

وتختلف القضية بالنسبة للأمم التي صنعت في مجرى معاناتها الخاصة إمبراطورياتها الثقافية. حينذاك عادة ما يختلط الدم بالمداد، ومنهما تكتب قصائد الشعر ونثر الفكر. وهي عملية تبدع، على قدر ما فيها من إدراك ذاتي للمقدمات والغايات، تصوراتها عن النفس والآخرين. وهي تصورات تتمثل بصورة واعية وتلقائية معاناة الأمم في تأسيس وعيها الذاتي. وهو وعي متنوع المستويات والاتجاهات والميادين، عادة ما يتشكل من خلال رؤية مركزية النفس في التاريخ العالمي أو تأسيس تمايزها أو تميزها أو نمط إبداعها الخاص ضمن تجارب الأمم. وهي حالة يمكن الكشف عن خصوصيتها حالما ندرس أو نتأمل الإبداع الثقافي للأمم الكبرى في التاريخ العالمي. فالإبداع الرافيديني (العراقي – السوري) القديم عادة ما كان ينظر إلى نفسه باعتباره مركز العالم، بحيث تحولت بابل لاحقا إلى "باب الله" الثقافية الكبرى في استجلاب أنظار الأمم وعقولها وأفئدتها. وهكذا بقيت مصر، بما في ذلك في لغة العوام إلى اليوم "أم الدنيا". ولاحقا جعل الإغريق من لغتهم معيار الحكم على "بربرية" الأمم ومدنيتها. والشيء نفسه يمكن قوله عن الرومان. وقد تكون الثقافة العربية الإسلامية هي الوحيدة من بين ثقافات العالم القديم التي أضافت إلى مركزيتها المحكومة بفكرة التوحيد إبداع "الأوائل والأواخر" أي القدماء والمعاصرين في فلك الإبداع الإنساني الحر عبر مقارنة نفسها بهم. لكنها أبقت على مكة مركز وبؤرة الجذب الروحي الكوني، وتركت للجسد والعقل الإسلامي حرية الانتقال والمغامرة المحكومة بقوة المعقول والمقبول في تجارب النوع الإنساني. لهذا نراها تتكلم عن خصوصية العرب اللغوية والبيانية، وخصوصية الفرس في الأدب والسياسة، وخصوصية الإغريق والروم في العلم والفلسفة، وخصوصية الهنود في الشعوذة والإبداع الساحر. وهي مقارنات إنسانية الطبع وثقافية المحتوى، لكنها تشير رغم كل الإمكانيات القائمة في التأويل من اتفاق واختلاف وتعارض وتضاد وتدقيق وتمحيص، إلى قوة التأثير الخفي للمركزية الثقافية في فرض رؤيتها على النفس والآخرين.

إن فعل المركزية الثقافية في فرض تصوراتها على النفس والآخرين ليست إلا الوجه الآخر لتلقائية النمو الذاتي للثقافة. الأمر الذي يجعل من أدق وأعمق التصورات والأحكام والقيم والمقارنات الثقافية محدودة بمعايير التجارب الذاتية للأمم. بمعنى أنها تبقى، رغم كل دقتها الممكنة، جزء من معاناة الأمم في بناء ذاتها، وجزء من عمل الثقافة في تهذيب وتوسيع مدى معاييرها، وليست جزء من المنطق المجرد. لكنها تبقى على خصوصية الثقافة القومية. وهي خصوصية وثيقة الارتباط بكيفية حل إشكاليات الوجود الطبيعي والمارواطبيعي للدولة والمجتمع والفرد والوعي الذاتي. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى "الاستشراق" على انه الصيغة الثقافية التاريخية لبناء الوعي الذاتي للأمم "الغربية". وبالتالي فانه يحمل تصوراتها الذاتية بوصفها معاناة خاصة في إدراك النفس والآخرين. من هنا محدوديته الذاتية وقيمته التاريخية بوصفه إبداعا ثقافيا. وبالتالي فان حدود المنطق فيه هي حدود خصوصية الثقافة القومية. من هنا تنوع وتباين "الاستشراق" بالنسبة لتاريخ الثقافة الأوربية وشعوبها المختلفة، وتمايز روسيا بهذا الصدد.

إن لروسيا تجربة خاصة في "الاستشراق" تستمدها من كونها هي نفسها "شرقية" بمعايير الرؤية الغربية الأوربية التقليدية. و"غربية" بمعايير الرؤية الشرقية التقليدية. وهو الأمر الذي جعل منها "حلقة ثقافية" من طراز خاص طبع موقفها من "الشرق والغرب" بشكل جعلها اقرب إلى "اللغز" منه إلى المنطق. وليس مصادفة أن يقول شاعرها الكبير توتشيف بان روسيا لا يمكن معرفتها بالعقل! بل يفترض العقل الإيمان بها! ولم يقصد هو بذلك خروج روسيا عن حدود الاعتدال والمنطق العقلي، بقدر ما أراد القول، بأن التصورات التقليدية في الغرب والشرق عن روسيا لا يمكنها أن تكون دقيقة، لأنها "غربية" أو "شرقية" بينما روسيا هي "شيء آخر" سيحصل لاحقا على تسمية الاوروآسيوية، أي السبيكة الخاصة لتلاقي أوربا وآسيا. وهي سبيكة لم تكن معزولة عن الجهود الكبرى "للمستشرقين" و"الاستشراق".

فقد ظهر الاستشراق والاستعراب الروسي بالارتباط مع نشوء وتطور الدولة الروسية بشكل عام والإمبراطورية بشكل خاص. وهو أمر طبيعي. فالتوجه الشرقي للدولة الروسية هو الذي جعلها من حيث الأصول الأولية دولة كبرى. بمعنى إن تطورها وتوسعها الجغرافي والبشري أرتبط من حيث الجوهر على حساب الأراضي الآسيوية. وقد اكتملت هذه الصيرورة في مجرى قرنين من الزمن بعد تحرر روسيا من السيطرة التترية والاستيلاء على مدينة قازان عاصمة التتر عام 1552. عندها أخذت روسيا بالتمدد الشرقي بصورة عاصفة. أما تمددها الغربي فقد ظل محدودا. لكن التوسع الغربي الأكبر جرى منذ بداية القرن الثامن عشر بأثر السياسة التي اتبعها بطرس الأول (1672-1725) بفتحه "نافذة" على أوربا، ومن ثم توسيع وتشجيع الانتماء الثقافي الأوربي. عندها أخذ الاهتمام بالشرق يتحول تدريجيا من المهمات العملية وأغراضها السياسية صوب المهمات الثقافية. ولا تخلو هذه المهمات من توجه وأغراض سياسية، إلا أنها عادة ما تنحلّ وتذوب تدريجيا في التجارب التاريخية والثقافي للأمم الكبرى. الأمر الذي نلاحظه على المسار العام لظهور وتطور الاستشراق والاستعراب الروسي.

ومع ذلك يتميز الاستشراق الروسي بخصائص ذاتية تجعله يختلف اختلافا كبيرا عن مثيله الأوربي. ومن بين أهم هذه الخصائص تجدر الإشارة إلى اثنتين منها، الأولى وهي أن روسيا في مجرى توسعها وتطورها تحولت إلى دولة أوربية- آسيوية، والثانية اشتراك الشعوب الآسيوية في علم الاستشراق نفسه. مما أدى إلى صنع سبيكة قوية تتوحد فيها الرؤية الروسية وتقاليدها الثقافية بالتقاليد الثقافية للشعوب الآسيوية. ومن ثم تحول الاستشراق إلى جزء من تاريخ الوعي الذاتي للإمبراطورية الروسية بمختلف شعوبها وأقوامها وأممها. مما طبع اتجاه ومباحث المستشرقين الروس بطابع ثقافي خاص. ونعثر على ذلك بوضوح في الاختصاصات الكبرى للاستشراق الروسي الذي تمحور من حيث الجوهر حول الإسلاميات والاستعراب، أي حول الدراسات الإسلامية والعربية. وبالتالي المساهمة العلمية العميقة في توسيع المدى الثقافي للتأثير المتبادل داخل الامبراطورية الروسية وخارجها. وليس مصادفة أن يكون المؤسسيين الكبار للاستشراق الروسي قد عاشوا وتعايشوا في مرحلتين أو حقبتين كبيرتين في التاريخ الروسي، الحقبة القيصرية والسوفيتية. وفي كليهما نعثر على تواصل متجانس بسبب احتكامه في الأغلب إلى الرؤية العلمية والثقافية الروسية المنفتحة، أي التي تخلو بتاتا من نفسية وذهنية الاستعلاء وما شابه ذلك مما كان يمكن رؤيته في تاريخ وتراث الاستشراق الأوربي. من هنا القيمة العلمية والثقافية للاستشراق الروسي الذي ساهم في بعث التراث الإسلامي والعربي. وقد كانت تلك أيضا الصفة الملازمة للاستشراق في المرحلة السوفيتية. إذ بغض النظر عن هيمنة واستحكام الرؤية الأيديولوجية الصارمة، سار الاستشراق في طريق "معبد" يقوم فحواه في البحث عن "الجوانب التقدمية" و"المستنيرة" و"الإنسانية" التي تناهض الدين والمعتقدات الدينية واللاهوت. من هنا اهتمامه بشخصيات وتيارات دون أخرى. وليس مصادفة أن تحتل الفلسفة الإسلامية والتيارات العقلانية كالمعتزلة والشعراء والأدباء الكبار والمؤرخين الحيز الأكبر من اهتمام البحث العلمي. بينما جرى رمي كل ما لا يدخل ضمن هذا المسار في سلة المهملات المخصصة "للفكر الرجعي" و"المتخلف". مع ذلك ظلت المرحلة السوفيتية في الاستشراق هي الأكبر والأعمق والأوسع في انجازاتها. وهو ما سأتناوله في كتاب لاحق مكمل لهذا الكتاب.

***   ***   ***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم