قراءة في كتاب

وهم الدولة الاسلامية في اذهان الدعاة.. العراق نموذجا

احمد راضي الشمريالمقال تضمنته مقدمة كتاب: "الحقيقة المرة" للدكتور مهدي الحسني، الذي صدر سنة 2017. وقد اشتمل ضمنيا، على حقيقة مرة اهتدى اليها الكاتب بعد عناء طويل في المسير نحو تحقيقي "حلم" الدولة الاسلامية التي يعتقد دعاة الاسلام السياسي بوجوبها.

في ظل تراكم التجارب الدينية في حكم المجتمعات المسلمة، وعدم انبثاق اي نموذج يشار اليه بالبنان باعتباره نموذجا يحاكي عظمة الإسلام وروح القرآن، ستظل الحركات الاسلامية تدور في دوامة الشعارات والتمنيات وامجاد الماضي الفارغةيحدوها بصيص امل،  ولكن تفصل بينهما فجوة تبعدها عن القيم والمبادي القرآنية والاسلامية الحقيقية.

ان الكثير من هذه الحركات الاسلامية تعتقد انها غيورة جدا على دين الله، وهي صادقة كل الصدق في اعتقادها وتسعى جاهدة لتطبيق شريعة الله بكل اخلاص، حتى لو كلفها ذلك احراق الشعوب في أتون الحروب. ولكن شدة غيرتها تفقدها صوابها وتجعلها فاقدة لمدى الرؤية واتجاه البوصلة في آن واحد. اذ انها تعتقد جازمة ان تطبيق شريعة الله هي في تطبيق حدوده وعقوباته؛ فهي لا تلتفت الى ان الإخلاص والحرقة وكل العواطف ليست لا تجدي نفعا وحسب،  بل لا تقل خطرا عن الفوضى إذا تفردت بالحل دون ان تسعى الى خلق او اكتشاف الحواضن والممهدات والاسس التي اشار اليها الكاتب في ثنايا هذا الكتاب. ومن هنا فانها تقع في الخطأ والظلم في آن واحد، فهذه الحركات تخطأ في فهم المغزى الحقيقي للاسلام والرسالات التي تسعى الى تطبيق العدل، على ما في تطبيق العدل من تعقيد. وتظلم حين تسعى الى تطبيق الحدود والعقوبات والفرائض الاخرى، دون الالتفات الى توفير البيئة الحاضنة وسد حاجات الانسان المادية والمعنوية الاساسية.

ان العدل الالهي هو عدل بكل ما تعنيه كلمة عدل، فهو عدل وموازينه ربانية. اذ انه لا يطلب من الانسان طلبا ولا واجبا دون ان يقابله حق على الطرف الاخر. فقطع يد السارق،  لمن يريد تطبيقه، يقابله ضمان كرامة ذلك الرجل وعدم دفعه الى السرقة؛ وتوفير حاجاته وحاجات عياله المادية (الاكل والملجأ والملبس والدواء) والمعنوية (الامن والامان والسلامة والاستقرار الاجتماعي). وهكذا في كل الحدود والعقوبات والواجبات والفرائض. وهذا ما أشار اليه الكاتب متبنى الدولة المدنية، التي تختلف كثيرا عن الدولة الإسلامية؛ ولكنها تحقق ما تحققه الدولة الاسلامية. واترك التفاصيل الى القارئ المحترم ليطلع عليها بنفسه. وقد يكون القصد من قطع يد السارق ليس قطعها بالسكين؛ بل هو البحث عن دوافع السرقة واستئصالها من اخلاق ومتبنيات السارق. قد تكون الأسباب الكامنة وراء السرقة هي شذوذ نفسي او حاجة حقيقية او لأطماع سياسية لتشويه سمة طرف او فئة وحرمان الامة من توجيهاتهم. ولذلك فان طموحات الأحزاب او الحركات الاسلامية التي تريد اعادة المجد المحمدي هي طموحات لا تتوج بالنجاح ولا تتحقق الا بان تضمن تحقيق شيئين:

- على المستوى العملي: تأهيل وتدريب وصقل المهارات؛ وبناء الاستعدادات لخلق الشخصية القيادية والربانية التي تتمتع بالإمكانات القيادية الاساسية كالرؤية البعيدة والصحيحة واستشراف المستقبل والشجاعة الكافية والمرونة في التفاوض ... الخ، وعند غياب هذه المهارات ستتشتت ولاءات المجتمع هنا وهناك ولا يمكن توجيه طاقاته وارادته باتجاه رؤية القائد واهداف حركته.

- على المستوى النفسي: ان الاستعداد النفسي للقائد؛ واخذه الوقت الكافي للتأمل والنظر بعين البصيرة بعيدا عن ضوضاء الحياة وصخبها؛ من شأنه ان يصقل الرؤية ويضمن القدرة على ملاحظة ومراقبة تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها. مثل ما كان يفعله النبي (ص) من خلال مراقبة الحركة حول مكة وشعابها من غار حراء، وان تتشرب قناعاته بالرضا والتسليم؛ اذ ان هذه الفترة، كما نستوحي منها، انها ساعدت النبي (ص) على توفير صورة واضحة صادقة مكتظة بالتفاصيل مفعمة بالأحداث مليئة بالوقائع. هذه الصورة الغنية ساهمت في توضيح حقيقة المجتمع القرشي بعد ان درسه النبي (ص) بكل امعان ودقة.

ان ايا من قادة اليوم لم يتضور ابدا جوعا للمأكل والمشرب،  بل للعلم والمعرفة لأسباب عديدة منها شحة الدراسات الاجتماعية والنفسية ذات البعد التحليلي للمجتمع العراقي؛ وانشغال معظم القيادات الحالية طيلة ايام المعارضة بأمور تبدو جانبية إذا ما قورنت بعدم التفات هذه القيادات لهذه الدراسات اصلا حتى وان وجدت. وقد تتوسع اسباب تعثر تنفيذ هذا "الحلم" لتشمل:

- اختلاف الزمان والمكان: الخطاب الديني المتخشب لا يحفل ولا يهتم بالأبداع في الوسائل؛ ابتكار الاليات الجديدة التي تتلاءم وثقافات وقيم المجتمع المعاصرة. مثلما جاء النبي (ص) الى قريش وهو عالم بمجموعة القيم الاجتماعية التي يريد التخلص منها،  وكذلك بالقيم التي يريد الابقاء عليها. خدمة لمشروعه التغيري. وبهذا فان قراءته الزمكانية آنذاك كانت قراءة ملائمة لعصره وواقعه. ان القراءة الزمكانية تختص بزمكانيتها ولا تمتد عبر الازمان والقارات. (كل يوم هو في شأن).

- لم تأت الحركات الاسلامية الى المسرح السياسي العراقي برغبة الجماهير الخالصة، وانما اتت اليه بمساعدة فرصة ساقتها الاحداث فركبت هذه الاحزاب تلك الموجة. ولهذا فان التفويض الاساسي لتطبيق احكام الشريعة لم يعلن عنه الجمهور بوضوح ولم يدعيه السياسيون بجرأة. علما ان تطبيق احكام الشريعة ليس بمقدور تلك الاحزاب أصلا لأسباب يحتاج سردها الى موسوعات.

وربما يعترض معترض بالقول ان هذه الاحزاب وصلت للحكم عن طريق الانتخابات. وهذا وان صح الا ان الجماهير لم توصل هذه الاحزاب الى السلطة قناعة منها بمشروعها الديني الاسلامي التغييري؛ كما اعطت جماهير يثرب محمدا ذلك التفويض. فقد كانت جماهير يثرب مطلعة وعن كثب بالمشروع النبوي وبتفاصيله؛ وان لم تكن بالدقة المطلوبة. وبهذا فان تطبيق النبي (ص) لشريعته الاسلامية كان مدعوما بالتفويض الشعبي شبه المطلق بعد ان وصل الى دفة الحكم. بينما لم تكن جماهيرنا متصلة ومتعايشة مع هذه الاحزاب وغير مطلعة على مشاريعها السياسية اوالمدنية،  ان وجدت.

كما ان الجماهير العراقية،  على مايبدو،  اعطت اصواتها للأحزاب الدينية الاسلامية ليس ايمانا بمشروع الدولة الاسلامية في الفكر الاسلامي،  بل رغبة منها في ارجاع الحقوق المسلوبة وايقاف الاضطهاد المذهبي وتحقيق العدالة الاجتماعية وانشاء المشاريع التنموية الي قد تعوض خسائر القمع والاضطهاد وتعيد توزيع الثروات والسلطات من جديد... الخ. وكل هذه المنطلقات والتصورات هي اجتماعية بالدرجة الاولى ولم تكن دينية بالضرورة، ولذلك فان عمل هذه الاحزاب على تطبيق احكام الشريعة الاسلامية كان عملا غير موفق بلحاظ الواقع العراقي. 

واليوم،  يبدو ان إخفاق معظم التجارب الدينية في الحكم، اعطى انطباعا شبه حقيقي للمجتمعات والجماهير المسلمة بصعوبة تطبيق المشروع الاسلامي لأسباب عديدة منها: القراءات الناقصة للقرآن،  ولمعظم الحركات الاسلامية، الاضطراب او عدم الاستقرار الذي يصاحب هذه الحكومات، انتشار الفساد الاداري والمالي الاخلاقي في هذه الحكومات مما يسلبها انتمائها الحقيقي للمشروع الاسلامي.

- الانفتاح المعرفي والتواصلي: ان امورا مهمة مثل العولمة وثورة المعلومات جعلت من العالم قرية واحدة سهلت العيش فيه امر مهمة اذ باتت معظم شعوب الارض تعيش ثقافة متقاربة نوعا ما في المظاهر العامة. وهذا بدوره يجعل من الصعب تطبيق الافكار السياسية والدينية في أي مجتمع ولا نستثني مجتمعنا منها. خصوصا إذا كانت افكارنا تتعارض وجوهر الافكار العالمية السائدة، والتي اثبتت صلاحيتها وفاعليتها وتوائمها مع المجتمعات الانسانية. وأعني بذلك حقوق الانسان وحرية التعبير وحرية المعتقد والفكر والحريات الاخرى. وهناك اسباب اخرى لا يتسع لها الحديث ربما نتعرض لها لاحقا.

وفي خضم هذا الارتباك الحركي المتواصل للحركات الاسلامية وضعف قدرتها على انتشال نفسها من وحل التيه الفكري يبقى اصرارها على رفع شعار (الإسلام هو الحل) او تطبيق احكام الشريعة الجريء، تبقى هذه الاشياء كما يقول المثل الإنكليزي: طعنات في ظلام الليل؛ إذا انها طعنات عمياء عشوائية في الهواء بلا هدف كـ (تشريع منع الخمر) الذي شرعه البرلمان العراقي والذي جاء في غير محلهولا اوانه.

ولا حل كما يبدو في الافق القريب ولا حتى المتوسط الا بدراسة الواقع بظروفه المحيطة والعمل على تطبيق الإسلام العملي من خلال سد حاجات المواطن في الأرض، لا من خلال فرض النظريات التي مازالت حبرا على ورق حتى يؤذن لها برؤية النور في تجربة ناصعة لاتحتاج بعدها الى حديث. ذلك النور الذي لا يرى له شعاع في الامد القريب.

ان الأفكار التي وضعت بين دفتي الكتاب انما ولدت من رحم التجارب الفكرية والواقعية المدركة لعقبات وصعوبات الواقع والمنتبهة جيدا لتعقيدات الفرق بين النظرية والتطبيق. انها عصارة افكار منبثقة من الخزين الفكري النظري والعملي الذي اثرته مسيرة الدراسة والهجرة والمعارضة والغربة ومن ثم الحكم. ويبدو، من خلال مايبثه الكاتب من لوعات واهات بين اسطر الكتاب، ان هذه المسيرة الشاقة الطويلة قد كتبت اثارها بالمسامير لا بالأقلام.

والكتاب، وهو لأحد ابناء هذه الحركة، لا يعوزه الدليل على وجود خلل واضح وفجوة كبيرة في فهم هذه الحركات للتوجيهات القرآنية وفي فلسفتها لحركة التغيير والإصلاح. فتجارب اليوم في اغلب المجتمعات التي يتنفذ فيها الحكم الديني قد بررت اشكالاتنا على مسارات الحركات الإسلامية وطريقة تعاطيها مع تجربة الحكم بالاضافة الى اخفاقاتها في تحقيق أدنى مستويات الرفاهية لشعوبها.

وتبقى هذه الاشكالات مستمرة متواصلة تلاحق النخب الاسلامية الحاكمة التي اعتلت منصة الحكم بدون استحقاق مهاراتي او وتفوق علمي يميزها كنخبة مستقلة عن باقي نخب المجتمع. وكيف تستحق الطبقة الحاكمة ان تحكم وهي ورعيتها سواء من ناحية الفكر والمعرفة والعلم او الثقافة او الرؤية في الميدان؟

املنا كبير في ان المرحلة المقبلة هي مرحلة ممازجة الافكار الاسلامية مع الافكار الليبرالية التي تهتم بمنح الحرية الشخصية للفرد. اذ ان بين هذين الفكرين مشتركات في طريقة واسلوب العيش المشترك؛ وقد ينكرها او يستنكرها بعض الاخوة. الا ان املنا كبير أيضا في قدرة المفكرين الاسلاميين على فك الاشتباك بين الدين والعلمانية من خلال ابراز الجانب المدني في الاحكام الإسلامية وفي وتوضيح المنهج القرآني في الاعتراف بحق الانسان في اختيار معتقداته وافكاره ورفض مالا يحلو له من الامور الشخصية. ذلك لان الاسلام نظام حياة أكثر مما هو دين تعبد.

 

احمد راضي - ملبورن/ استراليا

.............................

المقال كتب في 08/02/2017 وعُدّل بشكل طفيف جدا في 03/05/2019

 

في المثقف اليوم