قراءة في كتاب

رافع الناصري.. رسّام المَشاهِد الكونيّة

عدنان حسين احمدتكمن أهمية كتاب "رافع الناصري رسّام المَشاهِد الكونيّة" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت للشاعرة والناقدة الفنيّة مي مظفّر في جَمْعِه بين النقد التشكيلي وشذرات متفرقة من السيرة الذاتية لها ولشريك حياتها الفنان التأملي الكبير رافع الناصري الذي يشكِّل علامة فارقة في المشهد التشكيلي الستيني على وجه التحديد من دون إغفال مكانته العربية والعالمية. يتألف الكتاب من مقدمة مكثّفة، وسبع مقالات نقدية كتبتها مي بروح الناقدة الموضوعية التي وقفت على الحياد وعبّرت عن رؤيتها النقدية بالمنجزات الفنية المرسومة والمطبوعة لأقرب الناس إليها ذهنيًا وروحيًا. ولعل أجمل ما في هذه المقدمة الشاملة والمركّزة هو تواضع مي مظفّر وصدقها حيث تعترف بالفم الملآن بأنها وقفتْ "شبه خرساء" أمام أعمال المعرض الأول لفناني جماعة "الرؤية الجديدة"، أو أنها كانت "تتهيّب" من الكتابة عن أعمال رافع الناصري، كما أنها تسعى لمحاورة أي فنان مهم قبل أن تخوض مغامرة الكتابة النقدية عن تجربته الفنية مع أنّ الأدباء والفنانين القريبين منها يعرفون جيدًا أنها شاعرة من نسيج وحدها، وقاصة متمكنة من أدواتها السردية، ومترجمة لعدد من الكتب النقدية والفنية المرموقة، فهي لم تأتِ من خارج الوسط الفني وإنما قدِمت من أقرب الدوائر المحيطة بالفن التشكيلي. ومن دواعي التواضع الأخرى أنها استشهدت بآراء أدباء كبار، ونقّاد معروفين، ومؤرخين أجانب للفن التشكيلي قبل أن تدلو بدلوها، فقد قال الراحل جبرا ابراهيم جبرا عن الناصري:"فنّان مُدهش"، فيما انتبه الناقد نجيب المانع إلى الطريقة الواثقة التي يرسم بها رافع "بيدٍ لا تتردّد ولا ترتجف"، أما  البروفيسور بيرنار دوريفال، مؤرخ الفن في السوربون فقال بعد تأملٍ طويل للوحات الناصري:"إنه يمتلك موهبة كبيرة". وفي هذا السياق لم يخِب حدْس أدونيس حين كلّفها بالكتابة عن المعرض الأول لجماعة "الرؤية الجديدة" لمجلة "مواقف" ذائعة الصيت، فهو يُدرك أنّ لهذه الشاعرة المُرهفة، والساردة الذكيّة ما يُعينها على الولوج في عالم اللوحة الفنية التي لا تفتح بابها لكل الطارقين لذلك لجأت إلى بعض "الحِيَل المشروعة" التي تتمثل بمحاورة الفنان قبل الكتابة عن تجربته الفنية علّها تفتح بعض الأبواب المُستغلَقة، وتستغور المناطق العصيّة على التأويل. وكان لها ما أرادت في أول حوار لها مع الفنان ضياء العزاوي الذي أوضحَ لها بعض المناطق الغامضة في عالم التشكيل الذي بدأت تتعمّق فيه رويدًا رويدا. لم تُخْفِ مي دهشتها وحيرتها أمام "الألوان الصريحة الأخّاذة" للسطوح التصويرية للوحات الناصري المُرصّعة بالحروف العربية التي سوف تُصبح علامة مميزة تقترن به مثلما اقترنت من قبل بمديحة عمر، وجميل حمّودي، وعصام السعيد ، وجواد سليم. وتعترف مي أيضًا بأنّ الناصري لم يعلّمها بطريقة منهجية لكن خبرتها البصرية كانت تنمو وتتطور بهدوء وعفوية حيث تقول:"أخذتُ منه الكثير، وتمرستُ على طبيعة تعامله مع المرئيات".

تتمحور مقالة "تجليات الأفق" على التقنيات والأساليب التي اتبّعها الناصري في أثناء دراسته الجامعية الأولية بمعهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1959 حيث تتلمذ على أيدي الفنانَين فائق حسن وجواد سليم ثم اختار بمحض إرادته إكمال دراسته في بكين حيث درس الرسم لكنه آثر أن يتخصص بالغرافيك "فن الحفر والطباعة" الذي لم يكن موجودًا في العراق. تُجمِل مي تجربة الناصري بثلاثة أساليب وهي الأكاديمية، والواقعية المبسّطة، ثم التجريد المطلق ويجب ألا نغفل اللمسات التعبيرية والرمزية التي تتخلل متون أعماله الفنية فهو ينهمك بفكرة اللوحة لمدة طويلة قبل أن يشرع بتنفيذها على الورق أو الخشب أو الكانفاس. وكما هو معروف فإن الناصري يميل إلى تبسيط الأشكال واختزال التيمة إلى حد بعيد. تورد مي في هذا المقال عدة معارض شخصية من بينها معرض هونغ كونغ الذي نُظم عام 1963 بتوصية من أستاذه خوان يو يي، وتُشير إلى أنّ موضوعاته قد اقتصرت على مَشاهد صينية وعراقية نفّذها بتقنية الحفر على الخشب، وقد رأت فيها "دقّة في الأداء والتعبير معًا". كما توقفت الناقدة عند معرضين آخرين كرّس فيهما الاختزال وتقديم الأشكال المؤسلبة مُعتمدًا على الضربات السريعة والرشيقة التي ستلازمه طوال حياته.

لا تقلّ السنتان اللتان أمضاهما الناصري في لشبونة أهمية عن السنوات الدراسية الأربع التي قضاها في بكين حيث تدرّب على الغرافيك مرة أخرى وتغيّرت مسيرته الفنية جذريًا فإذا به يحطّم الشكل، وينتهك التقاليد المتوارثة، ويواجه نفسه بأسئلة عسيرة مِن قبيل:"مَنْ أنا، ماذا أريد، وكيف ألمسُ جوهر نفسي؟" كان هاجسه الأول أن يطوّع أدواته ليؤسس فنًا شرقيًا عربيًا، وهكذا وجد ضالته المنشودة في الحرف العربي الذي ينطوي على طاقات جمالية وتعبيرية بمعزل عن أي معنى أدبي أو لفظي. وبعد عودته من البرتغال نظّمت جمعية الفنانين العراقيين عام 1969 معرضًا شخصيًا أثار استغراب معارفه ومُشاهديه وذلك لاختلافه عما دأبَ عليه في الأعوام السابقة حتى أن مي نفسها عدّت هذه السنة البداية الحقيقية لمسيرته الفنية، وهي السنة نفسها التي ظهرت فيها جماعة "الرؤية الجديدة" التي كان الناصري أحد مؤسسيها، كما استعمل أول مرة في العراق مادة الأكليرك على الخشب كبديل للزيت وهي مادة طيّعة لكنها تحتاج إلى سرعة خاطفة في تنفيذ العمل.  وينبغي ألاّ ننسى أن الناصري هو أول منْ كسر الأطر التقليدية للوحة واستعمل الشكل المَعيني الذي لفت الانتباه إلى أعماله المختلفة شكلاً ومضمونًا. تحدثت الناقدة غير مرة عن تقسيم لوحة الناصري إلى قسمين: أرضي وسماوي، وثمة خط أفقي يفصل بين الاثنين وهي بداية تقارب بين أعماله التصويرية والأخرى المحفورة بالزنك. لابد من الأخذ بعين الاعتبار أنّ الناصري عاش في تكريت، وقد أمدّته هذه المدينة الواقعة على مشارف البادية بخزين وافر من المصادر البصرية. لا يرسم الناصري الطبيعة كما يراها، بل كما يتذكّرها بعد أن تختمر في مخيلته المتوهجة أبدًا.

لا تبتغي مقالة "رمّانة صغيرة تالفة" أكثر من القول بأنّ الجمال مبثوث في البيئة المحيطة بنا وما على الفنان سوى التقاطه. فالطبيعة مصدر إلهام لا ينضب شرط أن ننتبه إلى الأشياء الصغيرة المألوفة والمهملة في آنٍ واحد. تركّز المقالة الرابعة على إلغاء خط الأفق، وتتحول فيها ثنائية الأرض والسماء إلى ثنائية حركة وسكون. تؤشر مي في المقالة الخامسة بأن اللون يشكّل عنصرًا حاسمًا في تحديد مناخ العمل الفني فيما يمتلك الضوء قيمة استثنائية في أعماله الفنية التي غادرت حالتي الصفاء والحوار الهادئ إلى شيء من العتمة وكثير من الاحتدام الداخلي الذي يعكس شعور الفنان بالوحدة، وإحساسه العميق بالفجيعة.

يصوّر الناصري في تحيّته إلى المتنبي الأجواء النفسية والتاريخة والجغرافية التي عاشها مالئ الدنيا وشاغل الناس بلغة فنية مستخلصة من تقنيات الماضي والحاضر وقد جاءت على شكل منمنمات صغيرة مدورة ثم انفجرت إلى لوحات تصويرية كبيرة تستنطق القصائد ولا تصوّرها. أما المقابلة الطويلة التي أجرتها المؤلفة مع الفنان رافع الناصري فهي استعادة مركزة لمضمون المقدمة والمقالات الست آنفة الذكر لكنها تُلقي مزيدًا من الضوء على مراحلة الدراسية، وحياته الشخصية، والمعارض الفنية التي نظّمها طوال خمسين عامًا في عدد كبير من بلدان العالم.

 

عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم