قراءة في كتاب

المختار: تاريخ الأسطورة وأسطورة التاريخ

ميثم الجنابيصدر حديثا عن دار المركز الاكاديمي للأبحاث (العراق - كندا) في طبعته البيروتية (2019) كتابي تحت عنوان (المختار: أسطورة التاريخ وتاريخ الأسطورة). وتتميز الطبعة بمستواها الفني الرفيع واستجابتها للذوق الجمالي والصحة (نوعية الورق وبنط الحروف ومسافة الاسطر). وعدد صفحات الكتاب 140 صفحة من القطع المتوسط.

تقديم عام

لقد كنت اخطط قبل عقود من الزمن بكتابة سلسلة من عشرة كتيبات تتناول نماذج للشخصيات الإسلامية الكبرى التي لعبت دورا مهما في تأسيس فكرة الحرية والصراع من أجلها. على أن تكون هذه النماذج شاملة للفروع الثقافية الأساسية للحضارة الإسلامية. بمعنى تناولها شخصيات من علوم وفنون الثقافة بحيث تشمل التاريخ والأدب والشعر وعلم الكلام واللغة والفقه والفلسفة والتصوف والموسوعات والسياسة. غير ان الحياة العلمية والشخصية عادة ما تفعل فعلها في تغيير أو تحوير الاهتمام المحدد دون أن تلغيه. ومع إنني لم استطع التفرغ بشكل تام لهذه المهمة كما اضعها هنا في هذا الكتاب، إلا انني تناولتها في عدد من كتبي، وبالأخص كتابي الذي صدر قي هذا العام من الدار نفسها تحت عنوان (الاشباح والأرواح) والذي تناولت فيها إشكالية المثقف والسلطة. وتناولت فيه أيضا شخصية المختار الثقفي ولكن بصورة مكثفة جدا، كما هو الحال بالنسبة لعدد كبير من الشخصيات الأخرى.

لقد احتل المختار موقعه الخاص في ابحاثي عن اشكاليات الحق والإمامة والحرية في الثقافة الإسلامية الأولية أو مرحلتها التأسيسية. وذلك لما له من أثر شبه مجهول في الوعي الثقافي العربي والإسلامي بهذا الصدد. ولم يكن ذلك معزولا عن الصراع المذهبي حول شخصيته من جهة، ولتقاليد السلطة الاستبدادية من جهة أخرى. لاسيما وأن السلطة السياسية في الإسلام هي استبدادية مطلقة بعد خلافة الإمام علي بن ابي طالب، والاستثناء الخاص لخلافة عمر بن عبد العزيز، والذي ينبغي أن يدرج، من وجهة نظري، في سلسلة "خلافة الراشدين" بعد إزالة عثمان بن عفان منها.

1150 المختار تاريخ الأسطورة وأسطورة التاريخ

لقد تضافرت هذه الأسباب، وبالأخص أثر السلطة في محاولات طمس مأثرته التاريخية السياسية والفكرية والثقافية الكبرى في تأسيس معنى وقيم الحرية والإرادة الفاعلة بالنسبة لتناول إشكاليات الوجود الإنساني. وليس مصادفة أن يجري وضع الكثير من الأحاديث "النبوية" الكاذبة عنه(!) بهيئة تنبؤات مستقبلية، هدفها تشويه سمعته وشخصيته. وهي تقاليد ما يسمى "بأهل السنّة والجماعة" المتميزة بغريزتها الكارهة لكل ما يتعلق بفكرة الحرية والنزعة الإنسانية والعقل السياسي الفعال. وينطبق هذا بصورة مبطنة على تقاليد التشيع (الإمامية خصوصا) أيضا، وذلك لأنه الشخصية التي احتلت من الناحية العملية موقع القائد الفعال في الصراع ضد الاستبداد الأموي. وذلك لأنه من خارج ما يسمى "بالعائلة المقدسة" والقبيلة القرشية.

إن المختار الثقفي من حيث شخصيته وكفاحه وموته هو فكرة وشخصية بقدر واحد. وإذا كان الشعار الذي رفعه "يا لثارات الحسين" ما زال يحتفظ بوهجه الداعي للقتال من أجل الحق، على جباه الشيعة أيام عاشوراء، فإن مضمونه لا علاقة له بالتمايز المذهبي والطائفي. لقد كان هذا الشعار يتضمن من حيث بواعثه وأسلوبه وغاياته في فكر المختار وسلوكه السياسي معنى الثأر من قتلة الحق. بحيث جعله شعارا لتأديب الخونة، أي أولئك الذي ساهموا بغدر الحسين واشتركوا في قتله ومأساة كربلاء بشكل عام.

لقد رفع المختار الثقفي هذا الشعار إلى مصاف الدعوة لفكرة الحرية الاجتماعية والسياسية، وتحرير المرء بوصفه التزاما شخصيا عمليا. فقد رفع شعار تحرير العبيد والموالي في حال اشتراكهم في الصراع ضد السلطة الأموية. وبهذا يكون هو الأول في التاريخ السياسي الإسلامي الذي اعتبر الحرية ليست هبة تعطى بل حق ينتزع. وهي حالة لم تكن معزولة عن طبيعة التحولات الاجتماعية البنيوية والأخلاقية في النظام الاجتماعي السياسي للخلافة. فقد انتجت ثقيف عدد من الشخصيات التاريخية المهمة. وأكثرها شهرة الحجاج الثقفي والمختار الثقفي. وأحدهما نقيض تام للآخر. انهما يمثلان طرفي الصراع الدائم بين الخير والشر، والحق وسلبه، والحرية والاستبداد. بمعنى ضمور النفسية القبلية وبروز وهيمنة الفكرة المجردة ونماذجها الواقعية وأساليب تجسيدها العملية. بمعنى وقوفنا أمام تحلل البنية القبلية التي وجدت تجسيدها في مختار للتاريخ ومحتار أمام السلطة المستبدة.

إن مأثرة المختار الثقفي التاريخية تقوم في تمثيله وتحقيقه للفكرة القائلة، بأن الأحداث الكبرى وتأسيها الواقعي في الفكر والمثال هي على الدوام نتاج عمل القوى الاجتماعية الحية. وهذه بدورها هي القوة الفاعلة في التاريخ وليس هيبة "العائلة المقدسة".

لقد كانت فكرة الثأر التي رفعها المختار الثقفي موجهة أولا وقبل كل شيئ تجاه النفس. ومن الناحية التاريخية السياسية والعملية كانت استمرارا وتكملة لحركة "التوابين"، أي تلك الحركة التي دعت للتوبة مما اقترفه أهل العراق من خطيئة في عدم نصرتهم للحسين بن علي وخيانته أيضا. أما المختار الثقفي فحاول الجمع بينهما ولكن بطريقة ومضمون آخر. وبالتالي، فإن تياره هو تكملة للتوبة الذاتية وتذويبها في شعار الثأر أيضا. بمعنى الجمع بينهما من أجل شعار الحق والعدل والحرية. وقد كان ذلك بالفعل احد أعظم وأعمق الشعارات السياسية والفكرية آنذاك بالنسبة للتحرر الاجتماعي وبناء الدولة والثقافة.

 انه التيار الاجتماعي السياسي المنظم الذي نفى واستكمل تمرد الخوارج، من خلال تمثله للمضمون الحقيقي للإسلام المحمدي: إسلام الجماعة المؤمنة بالحق والأمة العاملة بمعاييره. ومن خلالها التأسيس لمفهوم سلطة الأمة بنفسها لنفسها وليس للعائلة "المقدسة" والقبيلة القرشية أموية وعباسية وهاشمية محتملة وما شابه ذلك. وفي هذا تكمن قيمتها بالنسبة للمعاصرة.

إن الجوهري في الإسلام الفاعل الذي قدمه المختار والحركة المختارية هو ليس الشريعة وعقائد المذاهب والفرق، بل فكرة الحق والعدل والحرية بوصفها التزاما فرديا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا. وفيه ومن خلاله يتلألأ فيصل الحكم الصادق بصدد طبيعة وحجم الالتزام الفعلي تجاه هذه القيم والمفاهيم العملية. كما انه يضع في الظروف العراق طبيعة وحجم الالتزام الفعلي للأحزاب الشيعية الحالية فيه. وهو حكم ومقارنة يشيران إلى أنه لا شيء عند هذه الأحزاب التي تتغنى وتطرب وتبكي وتتحمس وتأكل وتشرب وتنام باسم الحسين. بل نرى فيها تجسيدا لنقيضه. الأمر الذي يطرح مهمة الثأر منها.

إن الأحزاب الشيعية الحالية هي أموية جديدة. وهي استكمال للتيارات السنيّة الغالية والهمجية. ومن حيث المضمون يصعب التفريق بينهما بالمعنى الاجتماعي والأخلاقي. حقيقة إن التشيع السياسي العراقي لم يهبط بعد إلى مستوى الهمجية لكنه يقف على جرف هاويتها! 

ومن دون الخوض في مضمون الكتاب الذي يتناول مختلف جوانب هذه الشخصية الملهمة بالنسبة للعقل الحر والضمير الحي المهموم بفكرة الحرية، اكتفي بمقدمته فقط. ففيها استعرض بصورة مكثفة كل ما أريد قوله في الكتاب. وما وراءه من أبعاد اللغز التاريخي والثقافي الحي للمختار.

***

إن الرجال العظام تولد وتموت. وفي مجراها تعاني من أحوال مختلفة، تحب وتكره، وتتذكر وتنسى، وتصبر وتجزع، وتشتهي وتنفر، وتتحدى وتهرب. لكن هذه الأحوال تبقى في نهاية المطاف جزء من حياتها الخاصة. مما يجعل منها مادة للتأمل التاريخي، ونموذجا للمحاكاة السياسية، وذكرى للأساطير والحكايات، ولغزا للاهوت والأهواء، وعبرة للتعقل، واختبارا للمنطق. لكنها حالة تشير بدورها إلى أن أي من الصيغ المذكورة أعلاه لا يمكنها رؤية حقيقة الشخصية الكبرى بوصفها "مأثرة".

إن رؤية الشخصية الكبرى بوصفها مأثرة يفترض الانغماس في أعماقها الحرة والبحث فيها عن الأثر التاريخي فيما تقوم به وتفعل. لاسيما وأنها الحالة الواقعية لوجودها، والأسلوب الفعلي لإدراك حقيقة تأثيرها في التطور اللاحق للأمم والدول والثقافات.

إن حقيقة الشخصيات الكبرى هي أثر فعلي في وعي الذات القومي والثقافي. وما عداها مجرد ذكرى قابلة للنسيان أو الاستحداث بوصفها "بقايا حجرية" قابلة للتأمل. فكل شخصية غير قادرة على العيش والحياة بوصفها روحا في الأجيال المعاصرة وبمعاييرها، هي من متحجرات الماضي مهما كانت سمعتها وشهرتها. وهو السبب الذي يجعلنا نقرأ ونسمع مرات كثيرة عن خلفاء وسلاطين وقواد، دون أن يثير أي منهم قدرا ضئيلا من معاناة وعي الذات التاريخي أو الثقافي أو القومي أو الوجداني. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين رجال التاريخ وأزلام الزمن، بين مأثرة وأثر بلا مآثر. وذلك لأن رجل التاريخ هو مأثرة حية في وعي الذات القومي والثقافي، ومن ثم قابلة للتجدد والتوّسع والتعّمق والتفاعل مع إشكاليات المعاصرة.

وقد ميزت هذه الصفة شخصية المختار بن أبي عبيدة الثقفي، بحيث جعلت منه مأثرة عميقة أقرب ما تكون إلى منظومة حية في وعي الذات الروحي والأخلاقي والسياسي. مما جعل من آثارها حوادث ومواقف ونتائج يمكن تأملها في مجرى الصراع الاجتماعي والسياسي الحالي في العالم العربي والعراق خصوصا.

إننا نعثر في تاريخ المختار على تاريخ المفاهيم والقيم والمواقف بوصفها أحداثا حية معاصرة. كما يشير هذا العثور إلى أن ما عانى من أجله وقام به، وما أتخذه من مواقف، وما تعرض له من انكسار، ما زال يسري في تيار الزمن الحالي، لكي يتحول مع مروره إلى جزء من تاريخ وعي الذات. بمعنى انه مازال يعيش بكامل كينونته القديمة في مسار الأحداث الحالية. الأمر الذي يجعل من حيويته الفعلية طاقة مثيرة بالنسبة للمشاعر والأذواق والإدراك والمفاهيم والقيم والمواقف التي تتجاذب القوى الاجتماعية والسياسية في صراعها الحالي.

فقد كان المختار شخصية عراقية عربية إسلامية تتماهى في التاريخ مع آثاره ومآثره الكبرى. بحيث جعل ذلك منه قوة سارية في أعمق أعماق الفكرة الحرة، كما جعل منه أحد أجمل المساعي الجليلة من اجل الحق والعدالة، وأحد أصدق نماذج العمل من أجلها في ميدان الصراع الاجتماعي والسياسي. وقد يكون من الصعب بالنسبة للإنسان المعاصر أن يتحسس بصورة مباشرة طبيعة وحجم المعاناة التي كان يواجهها في ثنايا الوحدة والعزلة، وفي أوساط الحشود حالما تنظر إليه مسترقة السمع لكل كلمة ومتأملة معنى الإيماء والحركة في اليدين والعينين، لكنه يجبر العقل والضمير على رؤية ما فيه من نموذج مدهش لما ادعوه بالمثقف المجاهد. وهو مثقف سوف لن يفقد قيمته مع مرور الزمن لأنه جزء من تاريخ حي، هو تاريخ وعي الذات الثقافي.

فقد جسّد المختار في حياته وموته، أفعاله ومآثرها، أقواله وآثارها، ذاكرته وذكراه، حقائق الروح الأبدي ومرجعياته القائلة، بأن البقاء في التاريخ يفترض الذوبان في مجراه الحي. لكنه ذوبان جعل منه على الدوام قطرة منعشة وسيلا عارما، وهواء عليلا وعاصفة هوجاء، ودفئا لذيذا ونار محرقة، وترابا للقصور والقبور، أي مكونا حيا ومعاصرا، شأن كل الشخصيات الفاعلة في تاريخ وعي الذات. ويكفي المرء النظر إلى أحداث العراق الحالية لكي يحس ويدرك ويفهم قيمة المختار بالنسبة للعقل والضمير الحي.

 

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم