قراءة في كتاب

ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي (5)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا في مقالنا الخامس والأخير عن ابن أبي الربيع رائد الفكر السياسي الإسلامي؛ حيث يكون حديثنا عن نظرية التفويض وتقسيم الاختصاصات، وذلك علي النحو التالي :

1- وزير عالم: ويصفه بالشريك في الحكم ويعادل في عصرنا الراهن رئيس الوزراء:

يعطي ابن أبي الربيع أهمية كبيرة للوزير، فالوزير برأيه، هو الشريك في الملك، المدبر فيه يحفظ أركانه، المدبر بالقول والفعل، وأنه لا بد لمن تقلد الخلافة والملك من وزير منظم للأمور، ومعين على حوادث الدهور، ويكشف له صواب التدابير، ويستدل على أهمية الوزير أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رغم ما خصه الله تعالى  به من الإكرام، اتخذ على ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وزيراً، حيث قال له أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وأن الله تعالى  قال: " ولقد آتينا موسي الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً "، فلو استغنى أحد عن المؤازرة والمعاضدة، لاستغنى نبينا محمد وموسى صلوات الله عليهما، ومن صفات الوزير أن يكون عالمًا بالأمور، حسن العقل، شديد الحلم، حلو اللسان، حميد الأخلاق،  قليل اللهو، بطيء الغضب، كتوم السر، صحيح الجسم، جيد الفكر.

ومما يجب للوزير على الملك أن يقربه الملك ويدنيه، وألا يتشاور مع أحد دونه، وألا يقدم أحدا عليه، وأن يستمع إلى نصائحه، وألا يكاتمه شيئاً مما يستعان به عليه، وألا ينشط أحدًا للسعاية به، وأن يتعهده بإنعامه وإكرامه، وليظهر صواب تدابيره وينشرح صدره لما يريد تدبيره .

أما ما يجب على الوزير تجاه الملك، فيجب أن يكون خبيرًا بأدب التدبير والسنن والفرائض والأحكام، وأن يكون ذا نصح، وأمانة، وصدق للملك، وأن يدمن النظر في سير الملوك، وأن يجعل نهاره للنظر في أمور العامة وليله للنظر في أمور الخاصة، وأن يوكل بنفسه من يرفع أخباره إليه، فيمضي فيما وافق الصواب، ويتلافى ما يمكن تلافيه، وأن يكثر عيونه، ليتعرف على أحوال الرعية، وأن يحسن اختيار من يستعمله في أعمال الملك .

2 - الكاتب: ويعادل في عصرنا الراهن الوزير أو المدير العام

والكاتب عند ابن أبي الربيع هو لسان الملك عند الخاص والعام،  والكُتاب أربعة، كاتب حضرة ويجب أن يكون ذكيًا فطنًا جيد العبارة عالمًا بالنحو، والبلاغة، عذب الكلام، وأن يعرف مراتب الملوك والمكاتبين، فيعطي كل منهم حقه. وكاتب الجيش يكون خبيرًا في السلاح عارفا بلغات جنده. وأن يجري على جنده الجرايات كل شهر وأن يخبر الوزير ما يحتاج إليه من النفقات والجرايات، وينبغي أن يكون له دربة بترتيب العساكر ليقدم من يجب تقديمه. وكاتب الأحكام يجب أن يكون عارفًا بعلوم الشريعة وحدودها، عارفًا أحكام الدعاوي والبينات، وأن يعرف ما يجب فيه الجلد، والقطع، والقتل، وأن يكون بصيرًا بالشهود وطبقاتهم وشهاداتهم. وكاتب الخراج ينبغي أن يكون خبيرًا بحفر الأنهار ومجاري المياه، وأن يكون عارفًا بالمساحات وتخزين الغلات، عالمًا بفصول السنة، بصيرًا بالحساب، وله خبرة بأوقات الزرع ومقدار محصوله، وأن يكون خبيراً عالماً بحقوق بيت المال وما يجب له.

إنه باختصار إذا أردنا أن نشبه الكُتاب في زمن ابن أبي الربيع بالمناصب التي تقلد في زماننا، حسب الخبرة التي يشترطها ابن أبي الربيع، نستطيع القول إن كاتب الحضرة أشبه بالمستشار الثقافي، وكاتب الجيش أشبه ما يكون برئيس أركان الجيش، وكاتب الأحكام أشبه بحاكم قدير له خبرة وممارسة طويلة في المحاكم. وكاتب الخراج يجمع في المعرفة بين خبير زراعي واقتصادي وما إلى في زماننا هذا.

3 - الحاجب: ويعادل في عصرنا رئيس ديوان الرئاسة

والحاجب هو الواسطة بين الملك وبين من يريد لقاءه، ليرتب الناس بين يدي الملك كما يليق بمجلسه. فهو أقرب ما يكون برئيس تشريفات في وقتنا الحاضر، ومن صفاته – بحسب رأي ابن أبي الربيع – أن يكون فهما ذا خلق واسع ومنطق بارع، مهيب الطلعة، ذا عقل وحكمة، ولا يكون مكفرًا ولا سهلا، يعرف مراتب الداخلين على الملك فينزلهم منازلهم، وعليه أن يعرف سير الملوك وقواعدهم وخاصة الملك وعامته، ويعرف الأوقات التي يجلس فيها الملك، والأوقات التي يكون في خلوته، وأن يراعي خواص الملك ويكرمهم، ويعرف مواضعهم، ولا يفسح لأحد منهم في الدخول على الملك إلا بإذنه ولو كان ولداً.

4 - قاض: ويمثل الجهاز القضائي

القاضي عند ابن أبي الربيع هو ميزان الملك من رعيته، وصفته أن يكون ذا وقار، وورع، ذكيًا، فطنًا، عالمًا، عاقًلا، عارفًا بأدب القضاء، وألا يتعجل الحكم قبل ثبوته، وأن يكون فقيهًا عفيفًا، ممارسًا للأمور، صادعًا للحق، لا يقبل هدية، يعامل الخصمين بالسواء، قليل التبسم، طويل الصمت، شديد الاحتمال، وأن يبالغ في التفتيش على الشهود والوكلاء، ويعرف أحوالهم.

5 - قائد الشرطة: رمز السلطة التنفيذية

صاحب الشرطة عند ابن أبي الربيع ينبغي أن يكون حليمًا مهيبًا، غليظًا مع أهل الريب، ظاهر النزاهة، غير عجول، يهتم بحراسة وأمن المدينة وتفقد سورها وأبوابها، يقيم الحدود كما وردت في القرآن الكريم، وعليه أن يمنع المظلوم من الانتصار لنفسه بيده، وينبغي أن تكون عقوبته الخاص والعام واحدة كما أمرت الشريعة.

6 - الجند: الجيش

أما الجند وحملة السلاح عند ابن أبي الربيع فبهم تدفع الأعداء وتؤخذ المدن، ولذا يجب أن يكون الجند ذوي بأس ولا يقبل من كان معتادًا للرقة والراحة والتنعم، وليكن قوادهم أبرهم قدرًا وأعرفهم بالوقائع والحروب، ومن العارفين بمكايد الحروب، وليؤمر رؤوسهم وقوادهم بعرضهم في كل شهر مرة، وأن يجعل على كل عشرة قائد وعلى كل عشرة من القواد رئيسًا حتى ينتهي إلى رب الجيش.

7 - العامل: المحافظ

والعامل عند ابن أبي الربيع هو جامع الأموال، ولذا يجب أن يكون عالمًا بأمور السواد، ناضجًا في جميع الأحوال، عامًلا بالعدل، وأن يكون فيه إنصاف وانتصاف ونزاهة، ليكن قصده إدرار أموال الرعية وتوفير مال السلطان، لأن المال قوة وعليه الاعتماد في رخاء الرعية وسد الثغور وصد الأعداء.

8- الحكيم:

والحكيم عند ابن أبي الربيع – ويقصد به الطبيب – يجب أن يكون عالمًا بمجرى علم الطب، كثير الدرس في الكتب، حاذقًا، لطيفًا، رقيقًا، كثير العلاج والتجارب مأمون السيرة، عارفًا بالعقاقير، والأدوية، والأغذية.

9- الجليس:

أما الجليس عند ابن أبي الربيع فالملك يحتاجه كحاجته إلى الوزير والحاكم، فينبغي أن يكون عاقًلا دينًا حرًا عفيفًا، حسن الأخلاق، نقي الثوب، ذا معرفة بالنحو، واللغة، والبلاغة، والفصاحة، حافظًا لصواب الشعر ومجونه ونوادره، وأن يكون كتومًا للأسرار، بعيدًا عن النميمة، حسن المحضر للناس، وأن يكون خبيرًا بخصائص الملوك وعاداتهم.

10- صاحب الطعام والشراب:

وصاحب الطعام والشراب عند ابن أبي الربيع يجب أن يكون ثقة مؤتمنًا، يتلطف في منع الملك عن بعض المطاعم التي لا توافقه ويعرفه وجه المصلحة في تركها، وألا يكون بخيلًا ولا مضيعًا، وليتفقد الطعام والشراب في كل ساعة، وأن يكون عارفًا بما يجلب من البلاد من المطاعم والمشارب؛ ويجب أن يكون عالمًا بما يهوى الملك من الأطعمة والأشربة فيبالغ في اتخاذه وتجويده.

ويضع ابن أبي الربيع تصورًا مهمًا للتخطيط الاقتصادي وتقدير موارد الدولة (الدخل القومي) وتحديد مصادرها من مصدرين رئيسين:

1 - الأموال الشرعية، وهي معروفة وثابتة.

2- الأموال التي تفرضها الدولة لأحكام الضرورة والاجتهاد.

ثم إنه يتقدم باقتراح صائب، هو أن يتكافئ الإنفاق، أي أنه يسعى لأن لا تصاب ميزانية الدولة بالعجز.

ويختتم ابن أبي الربيع كتابه بمجموعة من والوصايا، حيث يدرج ابن أبي الربيع ستة عشر نصيحة لمن يريد أن يصلح أخلاقه ولمن يجب الوصول إلى للكمال، وذلك بأن يكون متفقدًا لجميع أخلاقه محترزًا من دخول أي نقص عليه، وأن يكون أبدًا عاشقًا لصور الكمال، وألا يقف في العلم عند حد، وأن يأتمر بأوامر الله ورسوله، وأن يعتدل في كل شيء، ويجتنب الإسراف، وأن تكون قوة العقل دائمًا، مسيطرة على قوتيه الغضبية والشهوانية، وأن يبتعد عن السفهاء، إلى غير ذلك من النصائح.

ثم يذكر ابن أبي الربيع بعض الحكم والأمثلة على لسان الحكماء والعلماء والملوك؛ فمثلًا  يذكر وصايا لحكيم منها:"لا تحقر عدوك"، ثم يفسرها ابن أبي الربيع أن معناها: لا تستصغر اليسير من الهوى، أو أن بعض العلماء يذكر أن الكذب قبيح من الحكماء، والبخل قبيح من الأغنياء أو أن بعض الملوك ينصح وزيره: " لا تحمل على بدنك مالا تطيق "، ثم يكتب جدولاً في صفحتين، يذكر فيه عشرين وصية لعلماء وحكماء لم يذكر أسماءهم، ثم إن الوصية أخلاقية لا تفوت أي مفكر أخلاقي من ذكرها عندما يريد أن يكتب كتابًا أو مقالاً فمثلاً الوصية الأولى قال حكيم: " لا يجب أن تحث  غيرك على فضيلة ما لم تكن كاملة فيك فإن فعلك يخبر عن قبول كلامك". وهكذا باقي الوصايا والنصائح.

وهكذا ينصح في باقي الصفحات بالتحرز من الآفات. فمثلاً يذكر أن أرسطو أوصي الإسكندر عدة وصايا منها: إذا بلغت غاية الأمل فاذكر الموت. ووصايا ملك لولده مثل:لا تهتم بالدنيا فإنه لا يكون إلا ما قدر الله.

مما سبق وبعد عرض ما جاء في كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، اتضح لنا أنه لم يهدف من وراء هذا الكتاب تأسيس نظرية في السياسة، بقدر ما يُريد شرح ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم، وكيف يتعامل مع رعيته وأعوانه في الحكم. فيخال لنا أن كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك، قد كتبه ابن أبي الربيع، وهو جالس مغمض عينيه، يحلم بما ينبغي أن يكون عليه الحاكم.

يقدم ابن أبي الربيع نصائح للملوك، ويقدم للرعية مثلها، حتى لا يحدث شقاق بين الحاكم والمحكوم، فتكون السياسة عنده قائمة على نظرية الحقوق بين الحاكم والمحكومين، ومن تلك النظرية تبرز لنا نظرية السيادة، دون أن يذكرها ابن أبي الربيع صراحًة. وتكون السيادة هي سيادة الحاكم الذي يهدف إلى صيانة مصالح الرعية والدولة التي وليَّ عليها حاكمًا.

على الرغم من أن السلطة صاحبة السيادة عند ابن أبي الربيع تتمثل في الحاكم الفرد، إلا أنه لم يغفل نظرية التفويض، فالحاكم لا يستطيع تسيير مصالح الدولة والرعية بمفرده، ولهذا قال بتفويض الوزارة، وعلى الحاكم مراقبة الوزراء، والوزراء يفوضون من هم أقل منهم، ويقومون بمراقبتهم، وهكذا حتى يصل إلى العامل الذي لا يفوض أحدًا غيره.

كان الهدف من كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك، بيان الأركان التي تقوم عليها الدولة، وهي أربعة؛ الملك، والرعية، والعدل، والتدبير. وتقوم العلاقة بين الركنين الأول والثاني، ويكون الركن الثالث وهو العدل غاية الاجتماع وقيام الدولة، ويكون الركن الرابع وهو السياسة أو التدبير بمثابة الوسيلة الموصلة إلى الغاية.... وللحديث بقية!.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم