قراءة في كتاب

قراءة في (الديوان الرشيق) لقصي الشيخ عسكر

صالح الرزوقيضم (الديوان الرشيق)* لقصي الشيخ عسكر جملة من الموضوعات والأساليب، وعلى رأسها القصيدة الومضة. ويمكن أن نأخذ هذا البند على أنه شكل ومضمون. فحجم القصيدة المختزل والسريع يقابله أيضا فكرة واحدة أو صورة يتيمة. مثل قصيدة (قبلة) فهي من 9 كلمات وترسم صورة سريعة وخاطفة لنخيل العراق. وربما كانت هذه القصائد رديفا موضوعيا للقصة القصيرة جدا. فالنوعان يعبران عن مسائل حيوية وهامة بأقل ما يمكن من الصور والكلمات. وقد استعمل المتنبي هذا النوع. وفي ديوانه باقة من القصائد القصيرة (مثل: أحسن ما يخضب الحديد به/ 14 كلمة)**، وبها استبدل البنية المعروفة للقصيدة بما بعد البنية، وعمود الشعر بالوحدات الشعرية. وطور هذا الأسلوب في قصيدته الطويلة عن شعب بوان (فهي أنشودة من عدة مستويات، وتتناوب فيها الحركة والسكون بوحدات متتالية ومستقلة. ومن باب العلم بالشيء اكتسب هذا الشكل شهرته بعد انتشار اللغة العربية بين الشعوب غير الناطقة بها أصلا كالفرس. وأذكر في هذا السياق تجربة ابن المقفع في كل من (كليلة ودمنة) كمثال عن الأدب التصويري والترميزي.  و(الأدب الكبير والأدب الصغير) الذي أعتقد أنه كان جسرا يربط المعنى مع الصورة. وأزعم أن هذا الشكل هو أول تمهيد للقصيدة النثرية. فالمعاني لم تكن مكشوفة، وتحمل قيمة تجريدية عامة مثلما فعل جبران في (دمعة وابتسامة) والريحاني في  (هتاف الأودية). إنها كتابات تجريدية يغلب عليها الرمز أو التقتير الأسلوبي. وبهذه الطريقة كسب ابن المقفع  حسنتين.

الأولى لنفسه. فقد احتفظ بمسافة بينه وبين اللغة المباشرة،  وهذا أول شرط لشعرية النص.

والثانية لفترته. فقد كان العصر من أحلك الفترات في تاريخ الدولة، وهكذا حصن نفسه من المسؤولية والمحاسبة.

ولم يبتعد قصي العسكر عن هذه الاستراتيجية. لقد اختبأ من شروط المكان والثقافة، وبتعبير آخر انفصل عن البيئة المضيفة  وعممها. أو  أنه تكلم عن مواضيع مطلقة (ماهيات) وليس عن أحداث (وقائع). وبلاغيا يمكن أن تقول: إنه عرّف المعرّف، ولم يقارب النكرات. لقد اهتم في قصائده القصيرة بالليل (موضوع ظرف). وبالظل (موضوع أحوال). وبأسماء العلم (قصيدة العراق مثلا) ليشير لموضوع مكان. وكان ذلك ضروريا ليلغي الخصام مع غربته، وليتصالح أيضا مع ذاكرته الوطنية. وهذه خدعة نفسية بواسطتها فرغ عناصر العداء والتنابذ بين الأضداد والحضارات.

80 qusai600

أما الموضوعات فقد كانت متنوعة، ويصعب أن  تحصرها في عدة بنود، وكان من أهمها الرثاء. وحتى بهذا الخصوص يوجد على الأقل ثلاثة أشكال.

الأول شعر المناسبات. وغلب عليه أسلوب القصيدة الموزونة (العمود)، أقدم شكل معروف في ذاكرة العرب الثقافية. وتصادف أن يحصر قصي العسكر شعر مناسباته في رثاء الحسين. ولكن للأمانة والحقيقة إن “حسين” قصي العسكر كان رمزا لكل البسطاء والمساكين، وحمل راية قضايا وإشكالات ذات مضمون وهم  وطني كما في قوله:

ضريحك إن أصاب الناس خطب

وجدنا أنه الحصن الحصين (ص 11).

وقوله:

فما الدنيا سوى وهم كبير

يراود من يخاف ومن يخون (ص11).

ولذلك لم أجد أي فرق يذكر بين الحسين وعبدالكريم قاسم الذي خصه أيضا بمرثية لا تخلو من الحماس الوطني. لقد كان كلاهما مغدورا به ورمزا لقضية. 

 مثلا قال عن الحسين:

ليومك هيبة تقف السنين

وتجثو عند مصرعك القرون (ص10).

ويقول عن قاسم:

لن يقتل الشرف الرفيع ولا الكرامة

والسماحة والحجا والسؤدد (ص21).

وبهذا المعنى الملحمي تحول كلاهما أيضا لمرتبة ناموس من نواميس الطبيعة. فهما: نجم، وقمر، ونسر، ونور يشرق، وقلب ينبض وهكذا. ويمكن أن تقول إن كليهما كان رمزا من رموز الشاب الوسيم تموز المغدور به في أساطير بابل وسوريا. ومطلع أول مرثية للحسين جاءت بشكل دورة حياة تأتي في أعقاب دورة للموت، وفيها يقول:

أنت الربيع بكل أرض يورق

يهب الحياة نزيفك المتدفق (ص 13).

لقد أضفى قصي العسكر على صور الحسين وقاسم هوية تعلو على المضمون الشخصي، وأناط بها وظائف رمزية وعامة. وأسقط عليها مجموعة من الرموز المساعدة لتكتمل الفكرة. وترتب على ذلك التنقل بين عدة أغراض أو موضوعات. وبشيء من التساهل أرى أن الشاعر قام بسياحة فنية بين الرثاء والمديح والتباهي.

الشكل الثاني هو شعر الأماكن النوستالجية. (واستعاض بها الشاعر عن الأماكن الدارسة أو الأطلال). وتندرج فيها قصيدة أساسية عن كربلاء. وأي قارئ ذكي ونبيه يمكنه أن يلاحظ أن كربلاء في ذهن الشاعر ليست هي المدينة المقدسة، بل إنها مجرد صورة متحولة أو جزء يحمل معنى كل. لقد استفاد قصي العسكر من مكانة وقوة إيحاءات كربلاء في التراث الإسلامي ليرمز بها لكل مدينة عربية منكوبة (غزة مثلا) أو للحرمان الذي يكتوي بناره كل إنسان مظلوم. وربما لهذا السبب اختار لقصيدته شكلا عضويا. فقد طورها على شكل وحدات. وكان ينتقل في كل وحدة من جزء من المأساة لجزء يليه. وبالنتيجة أتت قصيدته لتبكي على سقوط المدينة العربية، ولتندب جروحها.

الشكل الثالث والأخير هو شعر العائلة. ومنه رثاء أمه وأخيه لؤي. وفي هذا البند تستطيع أن تقول إنه يخص ويحدد. ولكنه وهو يبكي على فراق أمه ورحيل أخيه كان أيضا يتذكر معاناته.

يقول في مفتتح مرثية “لؤي”:

نعيتك بل نعيت إليك نفسي

فما معنى التجلد والتأسي (ص20).

 فالرحيل موت، والعرب يستعملون نفس الكلمة للتعبير عن المعنيين. وأن تقول رحل فلان يعني أنه توفي أو مات. وهكذا كان قصي يحمل موته معه. يقول في قصيدة (لمي الطريق):

لا تنكأي صمتي الغريب فإنني

ما زلت مصلوبا على كلماتي (ص28).

ويضيف في قصيدة (قبوري):

أي سحاب

يعبر أي بلاد يوما ما

سيصيب لنا قبرا (ص62).

وبالنتيجة يمكن اعتبار (الديوان الرشيق) على أنه مفكرة للشاعر، جمع فيها كل خبراته مع الدهر ونوائبه. إنه “كراس أيامه” إن استعرنا مفردات زميله الشاعر والروائي العراقي زيد الشهيد.

 

* صدر عن مؤسسة المثقف العربي في أستراليا ودار أمل الجديدة في دمشق.  312 ص.  2019. 

** كتاب شرح ديوان المتنبي للواحدي - ص161.

صالح الرزوق

 

في المثقف اليوم