قراءة في كتاب

براغيث جستنيان: الوباء العظيم الأول ونهاية الإمبراطورية الرومانية

محمود محمد علي"براغيث جستنيان : الوباء العظيم الأول ونهاية الإمبراطورية الرومانية"- هذا هو عنوان كتاب قام بتأليفه ويليام روزين وترجمه العالم المبدع الدكتور أسامة عبد الحق نصار (الأستاذ المساعد بكلية الزراعة بجامعة أسيوط)، وراجعه أستاذنا الكبير الدكتور نصار عبد الله أستاذ الفلسفة المتفرغ بجامعة سوهاج، وهذا الكتاب صدرت الطبعة الأولي منه خلال الأيام الماضية من سنة 2021م، ضمن مطبوعات دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر بالإسكندرية بجمهورية مصر العربية .

يتناول هذا الكتاب موضوع "براغيث جستنيان: الوباء العظيم الأول ونهاية الإمبراطورية الرومانية"، من مداخل متعددة تاريخية وبيولوجية وطبية، يتبين لنا من خلاله مدي ثقافة مؤلفه، ورحابة اهتماماته، وهو يتعقب مادته من موارد مختلفة، وبعض هذه الموارد لا يزال مخطوطاَ. يمضي بنا المؤلف في كتابه فيتتبع مسارد موضوعه بأسلوب شيق وجذاب، ويتوصل إلي حقائق ربما غابت علي الأذهان بعضنا

من هذه الحقائق أن "براغيث جستنيان"،كان لها دوراً كبير في التعجيل بنهاية الإمبراطورية الرومانية الشرقية أو الإمبراطورية البيزنطية، بما في ذلك العاصمة القسطنطينية، في السنوات 541 و 542 الميلاد، وكذلك الإمبراطورية الساسانية والمدن الساحلية حول البحر الأبيض المتوسط بأكمله؛ حيث كانت السفن التجارية تؤوي الفئران التي تحمل البراغيث المصابة بالطاعون، والسبب الأكثر ترجيحا عند المؤرخين هو مرض الطاعون الدملي، والذي سيتسبب في وباء آخر سيسمى الموت الأسود في القرن الرابع عشر، وأطلق المؤرخون المعاصرون على هذا الوباء اسم الإمبراطور جستنيان الأول، الذي كان يحكم الإمبراطورية البيزنطية أثناء حدوث الطاعون.

ويعتقد ويليام روزين، أن طاعون جستنيان كان أحد أكثر الأوبئة فتكًا في التاريخ، وأنه أدى إلى وفاة ما يقدر بنحو 25-50 مليون شخص خلال قرنين، وهو ما يعادل 13-26٪ من سكان العالم في وقت تفشي المرض لأول مرة انطلاقا من صعيد مصر، ومن ثم أنتقل حتى وصل القسطنطينية (اسطنبول التركية حاليا) المدينة كانت تستورد كميات كبيرة من الحبوب من مصر لإطعام سكانها، السفن التي كانت تنقل الحبوب قد تكون أيضا نقلت العدوى، من خلال تلوث صوامع الحبوب في المدينة بالفئران والبراغيث التي تحمل المرض؛ وقد عاصر المؤرخ البيزنطي "بروكوبيوس" هذا الوباء في أوج قوته ؛ حيث ذكر أن هذا الوباء قد قتل ما يصل إلى 10،000 شخص يوميا في المدينة، على الرغم من أن هذا الرقم لا يمكن التحقق منه والأرقام الحقيقية لن تعرف أبدا. ما هو معروف أنه لم يوجد ما يكفي من الوقت أو المكان لدفن الجثث لكثرتها ؛ وقد كانت الإمبراطورية البيزنطية في ذلك الوقت في حالة حرب مع الوندال في منطقة قرطاج، مع القوط الشرقيين في شبه الجزيرة الإيطالية ومع الإمبراطورية الساسانية. كما بذلت جهود اقتصادية كبيرة لبناء الكنائس الكبيرة مثل كنيسة آيا صوفيا، وجاء الطاعون ليخلف آثارا كارثية على الاقتصاد من خلال انخفاض الإيرادات من الضرائب، مما تسبب في صراعات داخلية خطيرة وتسبب في نهاية المطاف في انسحاب الجيش البيزنطي من إيطاليا عندما تقريبا كان قد سيطر على شبه الجزيرة بأكملها؛ أستمر انتشار الوباء على طول موانئ البحر الأبيض المتوسط، مرورا بالأراضي الأوروبية، ووصل في الشمال إلى الدنمارك وفي الغرب إلى أيرلندا، وأوقف خطط جستنيان لاستعادة الإمبراطورية الرومانية الغربية وسمح بالغزوات التي كانت تشنها القبائل البربرية والتي ستتشكل منها فيما بعد ممالك ودولاً جديدة، كما استمر تفشي الوباء بشكل محلي ومتفرق حتى حوالي العام 767 م، من بين الضحايا المهمين لهذا الوباء يوجد البابا بيلاجيوس الثاني الذي مات سنة 590 م.

وأيا ما كان شكل الطاعون، فإن الأمر المؤكد كما قال الدكتور أسامة نصار (مترجم الكتاب) أن تأثير الطاعون كان مدمرا علي الحضارة البشرية، ومؤلف الكتاب يدافع بقوة  عن تلك النظرية، حيث يعتبر أن جائعة الطاعون التي ضربت العالم في القرن السادس الميلادي، كانت أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلي إنهيار كلا الإمبراطوريتبن الرومانية والفارسية وتغيير شكل العالم للأبد، وتلك هي الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب حول تأثير الأوبئة علي قيام وانهيار الحضارات؛  ومن أجل توضيح وإثبات تلك النظرية، فإن المؤلف قسم الكتاب إلي أربعة أقسام الجزء الأول : المجد، يتضمن قصة الفترة الأخيرة من الإمبراطورية الرومانية بدءاً من دقلديانوس إلي جستنيان مروراً بعصر قسطنطين الكبير وتبنيه المسيحية كإحدي ديانات الإمبراطورية الرومانية .

أما الجزء الثاني : الإمبراطور، والذي يتناول شخصية الإمبراطور جستنيان وعصره من خلال إبراز ثلاثة جوانب من إنجازاته : الجانب المعماري وإنجازاته الضخمة التي تجلت في بناء كنيسة آيا صوفيا، الجانب القانوني  وإنجازه الضخم المتمثل في تدوين الموسوعات القانونية الكبري في عهده والتس تضمنت : " المبادئ"، و" المختصر "، و" المستحدثات"، والتي تجلت مثلت الأساس القانون الذي قامت عليه كافة الأنظمة القانونية الغربية، وثم الجانب الأخير وهو انتصارات الإمبراطور العسكرية واستعادة الأقاليم الرومانية في أسبانيا وشمال إفريقيا وإيطاليا، ومحاولة تحقيق حلمه باستعادة كافة الأراضي الإمبرطورية حانة من التشرذم والضعف وذلك حسب قول الدكتور أسامة نصار.

وأما الجزء الثالث : البكتريا، يوضح الكيفية التي تطورت بها بكتريا البرسينيا سودوتوبيركلورنس Yersinia pseudotuberculosis، ويتضمن كما قال الدكتور أسامة نصار، قصة ثالوث المرض المرعب من البراغيث والفئران والبكتريا التي تشترك في إحداث المرض، فالبكتريا تصيب القناة الهضمية للبراغيث التي تتطفل علي الفئران وغيات أحد أضلاع هذا الثالوث ويؤدي إلي عدم حدوث الوباء، وكان بالإمكان أن تستمر الحياة بلا مشاكل، ولا ينشغل الإنسان بعلاقة الغرام تلك بين البكتريا والبراغيث والفئران، ولكن المأساة حدثت وجعلت الإنسان طرفاً في تلك العلاقة المعقدة عندما أصبحت الكبتريا أكثر فتكاً مما أدي إلي ارتفاع نسبة موت الفئران من جراء الإصابة بالبراغيث المصابة ببكتريا البرسينيا المسببة للطاعون، وأصبح الآن علي البراغيث أن تجد لها مصدراً متجدداً للدماء الدافئة تقفز عليه بدلاً من الفئران الهالكة . ولسوء الحظ، لم يكن هناك مصدر أفضل لتلك الدماء الدافئة من تلك الكائنات التي تعيش الفئران بكثافة الإنسان !!..كما يتناول هذا الجزء أيضا رد الفعل الدفاعي للإنسان للهجوم الذي يتعرض إليه من البكتريا وكيف يمكن للبكتريا أن تتغلب علي النظام الدفاعي للإنسان فيما يشبه سباق تسلح بين الإنسان والبكتريا .

وننتقل إلي الجزء الرابع : الجائحة، ويتناول كما قال الدكتور أسامة نصار وباء الطاعون وكيفية انتشاره، ويوضح كيف أن انخفاض درجة الحرارة الناجم عن النشاط البركاني الذي ضرب العالم خلال الأعوام السابقة مكن الفئران المصابة البراغيث المحملة ببكتريا اليرسينيا من الانتقال من المواطن الذي هو علي في شرق أفريقيا وأثيوبيا إلي مصر .وفي مدينة بلوسيوم أو الفرما (بالقرب من بورسعيد الحالية) ظهرت أولي حالات الإصابة، ومنها انتقل الوباء إلي الاسكندرية التي كانت أحد الموانئ الرئيسية لتصدير الحبوب إلي مدن الإمبراطورية الرومانية ... كانت سفن الحبوب تحمل ركاباً غير مرغوب فيهم، فئراناً سوداء صغيرة حية كانت تتعرض من هجوم ضار لم تعهده من قبل من البراغيث المحملة بسلالة جديدة من بكتريا البرسينيا أشد فتكاً وضراوة بطريقة لم تعهدها الفئران من قبل . وبعد موت الفئران فإن البراغيث كان عليها أن تجد ضحية جديدة لها ... الإنسان!

هذه الفقرة الصغيرة للبراغيث المحملة ببكتريا اليرسينبا من الفئران إلي الإنسان كما قال الدكتور أسامة نصار كانت تعني الكثير من الهلاك والدمار للجنس البشري، وهذا موضوع الكتاب الذي يوضح تأثير تلك القفزة علي كلاً الإمبراطوريتين : الرومانية والفارسية.

وفي النهاية نبارك مبادرة الدكتور أسامة عبد الحق نصار علي ترجمته لهذا الكتاب، وقد بذل بذلك جهداً كبيراً حتي يحافظ علي النص دون أن يكون مكبلاً بالمعاني الحرفية للألفاظ، فجاءت الترجمة أمينه ودقيقه، وقد قيل بحق أن مؤلف أي كتاب ينظر من قرائه الثناء والمديح، إلا أن مترجم أي كتاب يتمني أن يتحاشى التقريظ والنقد، ولكن المترجم علي أيه حال لا بد أن يضطلع بدوره، مهما كان النقد، لأنه يفتح الطريق ويمهدها، ليسهل علي اللاحقين عليه تعبيدها وتوسيعها، فليكن هذا الكتاب باباً جديدا يدخل منه الباحثون العرب إلي دراسات أوسع وبحوث أشمل لمعرفة تاريخ الأوبئة وبذلك نتمكن من مواجهة فيروس كورونا اللعين الذي أضحي وباءاً عالمية لا بد من تكاتف الجميع لمواجهته.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم