قراءة في كتاب

كورونا وعودة كتاب إغاثة الأمة بكشف الغمة للمقريزي

محمود محمد عليتعرضت البشرية علي مدي تاريخها القديم لعدد من الأوبئة مثل الطاعون الأسود، والكوليرا، والأنفلونزا الإسبانية، والتي كانت سبباً في خطف أرواح من ملايين البشر كانت أعدادهم أكبر كثيراً من أقرانهم الذين قتلوا في حروب دينية أو استعمارية، واليوم ومع الكابوس الجديد " كورونا " في سنة 2020 نحيا ونواجه تلك الجائحة التي حتمًا ستمر كما مرت الأزمات السابقة، وسيبقى الإنسان ويأتي أجيال يقرأون عن هذه الجائحة في الكتب ويرونها في أفلام السينما كما نفعل نحن الآن مع الأحداث التي سبقتنا، وكما وجدنا كتابًا كُتِبَ سنة 808 هجرية للمؤرخ تقي الدين المقريزي (769هـ-1367م)، أحد أهم مؤرخي العصور الوسطى؛ حيث يتحدث فيه عن أزمات – مجاعات وأوبئة – مرت بمصر منذ القدم وأسماه: كتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة“، وقد نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر برئاسة أحمد أمين، للمرة الأولى عام 1940؛ وحقق الكتاب كل من محمد مصطفى زيادة - الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) وجمال الدين محمد الشيال مدرس التاريخ بمدرسة العريش الابتدائية الأميرية؛ ثم قام بعد ذلك بطبعه مرة أخري أستاذنا الدكتور قاسم عبده قاسم (أستاذ تاريخ العصور الوسطي المتفرغ بجامعة الزقازيق بجمهورية مصر العربية) ونشره ضمن مطبوعات مركز “عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية” الطبعة الأولى في 2007.

وقد اعتمد المحققان على ثلاث نسخ مخطوطة، ضمن مجموعة مؤلفات المقريزي، في القاهرة وإسطنبول ولندن، وقاما بمضاهاة هذه المخطوطات بثلاث نسخ أخرى «أقل قيمة»، منها اثنتان في إسطنبول ونسخة في المكتبة الأهلية بباريس. ونشرت دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، عام 2002، طبعته الثالثة، وعليهما نعتمد هذا المقال.

في التصدير يذكر المحققان أن المقريزي (1365 ـ 1441 ميلادي) هو «المؤرخ المصري الوحيد» الذي عني ببحث الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وهو يتناول تاريخ المجاعات بمصر، منذ أقدم العصور حتى سنة 808 هجرية حين ألف هذا الكتاب، وأنه بهذا النهج يشبه أستاذه عبدالرحمن بن خلدون (1332 ـ 1406 ميلادي) في «المقدمة»، «فكلاهما كتب في صميم النواحي الاقتصادية الاجتماعية".

ويعد المقريزي من رواد الفكر الاقتصادي الإنساني لاسيما ما يتعلق بتفسير الظواهر الاقتصادية قبل وأثناء عصره، والمقريزي كعالم اقتصادي قد أبدي عبقريته الاقتصادية في كتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة أو تاريخ المجاعات في مصر " – وهو كتاب رغم صغر حجمه، فإنه من الكتب ذات القيمة العلمية الكبيرة – والتي ما زالت في حاجة إلي دراسة متعمقة من الأساتذة المتخصصين حتي يكشفوا لنا درة تراثنا الفكري والدور الطليعي لكبار المثقفين العرب في التأثير علي التطور الحضاري للبشرية .

وقد قدم المقريزي في كتابه هذا – دراسة علمية لتاريخ المجاعات التي ألمت بمصر طوال تاريخا المدون، وخاصة في زمن الدولة الإخشيدية والمملوكية، ويحاول الكتاب أن يحدد أسباب هذه المجاعات، ومن المسؤول عن تفشيها، والمقريزي في هذا لم يقتصر علي دراسته تلك علي سرد للمجاعات ووصفها، بل قام بدراسة لأسبابها، وفي نفس الوقت بين لنا الطريق لعلاجها، والمقريزي عندما درس المجاعات في مصر، إنما صور لنا بدقة ما لاقته جماهير مصر من محن ومآسي، بينما كان الحكام في غفلة من مصالح العباد، وفي نفس الوقت دحض الأفكار الانهزامية التي كان يروج لها هؤلاء العباد الذي " لعباد الله يذلون" .

يقول المقريزي في مقدمة دراسته :" وبعد فإنه لما طال أمد هذا البلاء المبين وحل فيه بالخلق أنواع العذاب المهين، ظن كثير من الناس أن هذه المحن لم يكن فيما مضي مثلها ولا مر في زمن شبيهها، وتجاوزوا الحد فقالوا لا يمكن زوالها ولا يكون أبداً عن الخلق انفصالها، وذلك أنهم قوم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون، ومع العوائد وافقون، ومن روح الله آيسون . ومن تأمل هذا الحادث من بدايته إلي نهايته، وعرفه من أوله إلي غايته، علم أن ما بالناس سوي سوء تدبير الزعماء والحكام وغفلتهم عن النظر في مصالح العباد، لا أنه كما مر من الغلوات، وانقضي من السنوات المهلكات، إلا أن ذلك يحتاج إلي إيضاح وبيان، ويقتضي إلي شرح وتبيان، فعزمت علي ذكر الأسباب التي نشأ منها هذا الأمر الفظيع، وكيف تمادي بالبلاد والعباد هذا المصاب الشنيع . وأختم القول بذكر ما يزيل هذا الداء ويرفع البلاء، مع الإلمام بطرف من أسعار هذا الزمن، وإيراد نبذ مما غبر من الغلاء والمحن... وكل هذه المحن عند المقريزي : " إذا عرفت أسبابها سهل علي الخبير اصلاحها...).

وقد تناول المقريزي في هذا الكتاب تاريخ المجاعات في مصر وأسبابها؛ حيث أسهب الحديث عن الأزمات الاقتصادية والمجاعات التي عاشتها مصر، ليصور لنا ما لاقته معظم فئات الشعب والجماهير المصرية من ضروب المحن والمآسي، في غفلة من الحكام، الذين فضل معظمهم الابتعاد عن الجماهير، وجعلوا كل همهم في جني الأموال وتحصيلها والإكثار منها، والاحتفاظ بالسلطة والحكم بمختلف الوسائل   الأخلاقية وغير الأخلاقية، ومهما حل بالشعب من آلام ومصائب.

فالمقريزي هنا لا يصف الداء فحسب، وإنما يتجاوز إلي وصف الدواء، فهو لا يقف عند النكبات والمجاعات، بل يسعي لوضع الحلول لزوالها، ولنا أن نسأل ما هي الأسباب التي تخلق هذه المحن والمجاعات في نظر المقريزي؟ .

ثم يحدد المقريزي الأسباب، ويذكر من بينها : الآفات الطبيعية: من قصور مياه النيل أو فيضانه، ومن قحط وهبوب رياح وعواصف حارة ورملية أو جراد يأتي علي الزروع أو وباء يتفشي ويجهز علي الناس، وغير ذلك : " ثم وقع الغلاء في الدولة الأيوبية وسلطنة العادل أبي بكر بن أيوب في سنة ست وتسعين وخمسمائة : وكان سببه توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة، فانتهت الزيادة إلي إثني عشر ذراعاً وأصابع، فتكاثر مجيئ الناس من القري إلي القاهرة من الجوع، ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتي أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً، والمرأة تأكل ولدها، فعوقب جماعة بسبب ذلك . ثم فشا الأمر وأعيا الحكام : فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخذه أو شئ من لحمه، ويدخل بعضهم إلي جاره فيجد القدر علي النار فينتظرها حتي تتهيأ، فإذا هي لحم طفل، وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت، ووجدت لحوم الأطفال بالأسواق والطرقات مع الرجال والنساء متخفية .. ثم تزايد الأمر حتي صار غذاء الكثير من الناس من لحوم بني آدم بحيث ألفوه، وقل منعهم منه لعدم القوت من جميع الحبوب وسائر الخضراوت وكل ما تنبته الأرض.

وهنا نجد المقريزي يبتعد عن نهج مؤلفات تعالج قضايا التاريخ من وجهات نظر الحكام: "السلوك لمعرفة دول الملوك"، و"المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار". ويكتب التاريخ من أسفل، كما عاشه أبطاله الحقيقيون، وهم الشعب، في مواجهة كوارث لا تدع للإنسان فرصة إلا للبحث عن خلاص، بالفرار من الموت. وليس أقسى من أن تؤدي المجاعة إلى أكل الميتة، كما تُخرج الوحش الكامن في النفوس.

ورغم أن المقريزي يرسم هذه الصورة الدامية التي ترينا سعة حجم الكارثة الطبيعية، إلا أن  المقريزي لم يهمل دور العوامل البشرية المهم في وقوع الأزمات، وبين الصلة الوثيقة بين العوامل الطبيعية والعوامل البشرية وارتباط تصرفات الإنسان ببيئته وأثر ذلك عليها، وذلك من منطلق أن الإنسان محاسب علي كل ما يبدر منه، فهو لم يُبرئ ساحة الإنسان من تلك المجاعات بسبب ظلمه وتعديه إذ أن :" المجاعات وأمثالها ليست شيئاً مفروضاً علي الإنسان من عل، ينزل بأمر، ويرتفع بأمر، كما أنها ليست ناجمة عن جهل الطبيعة وعماها، من دون أن يكون للإنسان نصيب فيها، بل هي طاهرات مادية اجتماعية، لم تلازم البشر دائماً، ولكنها تقطع آناً، وتنقطع آناً آخر : تقع عندما تجمتع أسبابها ودواعيها، وتنقطع عندما تنتهي تلك المسببات والدواعي . إن كل شئ خاضع للتطور، يولد وينمو ويموت: تتجمع أسباب كافية لخلق حادث فيخلق ويتطور، ثم تتجمع أسباب تلاشيه فينحل ويندثر، فالمجاعة إذا ظاهرة مادية واجتماعية تقع بالأساس بفعل عوامل طبيعية، ويمكن لها أن تستمر وتتوسع وتتعمق إذا ما صداف حدوثها عوامل سياسية واجتماعية وإدارية تعمل علي ديمومتها . إذن هو يحمل الإنسان تبعية تلك الأزمات لكن بطريق غير مباشر، أي أن الإنسان بظلمه وتعديه وجهله وسوء تصرفه حصلت تلك المجاعات وإن لم يباشرها بنفسه .

وأشار المقريزي إلي كون الأزمة من السنن الربانية والتي تتجلي كعقوبات إلهية كونية للبشر بسبب بعدهم عن الله عز وجل، وعدم التزامهم لأوامره الشرعية وإتيانهم لفرائضه، فتصيبهم تلك المحن جزاء بما كسبت أيديهم، ومع أن المقريزي المطلق بتأثير الأسباب العلوية في حدوث الأزمة وزوالها، إلا أن ما لفت المقريزي نظرنا إليه أخذه بمبدأ السببية واعتماده الأسس المادية في شرحه وتحليله لها، لأنه وجد أن الأزمات مرتبطة بأسباب يمكن تشخيصها وتحليلها وإيجاد الحلول والمعالجات لها، فهي ليست شيئاً مفروضاً علي الإنسان من عل وليست قدراً لا يمكن الفكاك منه، بل هي تحدث عندما تجتمع أسبابها ودواعيها، وتنحل وتختفي عندما تنتهي تلك المسببات والدواعي، وهذا ما جعل فكره الاقتصادي في كتاباته التاريخية يتميز بالروح العلمية.

وهكذا أدرك المقريزي أن هناك أكثر من سبب في حدوث الأزمة، وأن تلك الأسباب مترابطة ومتداخلة ومتشابكة إلي درجة من التعقيد يصعب معها علي الباحث إدراك أي من الأسباب كان له الدور في تأزيم الأوضاع في البلاد وإدخالها مرحلة الأزمة، وهذا واضح من خلال ربط المقريزي بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي واقتصادي وإداري.

ويسجل للمقريزي أن أمد البلاء في عصره طال، وحلّت فيه بالناس أنواع من العذاب، حتى ظن الكثيرون أن المحنة غير مسبوقة، ولن تزول؛ "وذلك لأنهم قوم لا يفقهون، وبأسباب الحوادث جاهلون»، فمن تدبر الكارثة «علم أن ما بالناس سوى سوء تدبير الزعماء والحكام»، وأن محناً ومصائب ماضية كانت أشد وأصعب، ولكنها صارت خبراً، وأما محنة الناس في زمانه فهي «مشاهدة»، والمسموع الماضي وإن كان كبيرا يهون موقعه من القلوب، "لأن القليل من المشاهدة أكثر من الكثير بالسماع".

وفي نهاية هذا المقال لا نملك إلا أن نقول بأن كتاب  "إغاثة الأمة بكشف الغمة" للمقريزي سياحة فكرية وعقلية نقف من خلالها علي تاريخ الأوبئة التي ألمت بمصرنا الحبيبة، وفي ذات الوقت أعاد لنا هذا الكتاب أزمة تفشي فيروس كورونا الجديد، والذي نسأل الله عز وجل أن تنتهي هذه الأزمة علي خير، وأن يحفظ الله مصر من كل سوء، ومن كل مكروه .. اللهم أمين ..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم