قراءة في كتاب

اليرسينيا الطاعونية وعودة الموت الأسود

محمود محمد علياليوم؛ لا حديث بين الناس، وعلى شاشة التلفاز، غير فيروس كورونا، ذلك الوباء الذي أعاد لأذهان البشرية ذكريات سابقة لها مع الأوبئة، التي فتكت بالعديد من الناس على مر العصور، وطمست حضارات كبيرة بأكملها، وسطرتها الإنسانية بسطور من دماء في كتب التاريخ، متفوقةً بذلك على الحروب والصراعات في حصد الأرواح، ولتكون أحد أهم المسببات في تغيير مجرى التاريخ، وتحديد مصائر وأقدار شعوب وأمم عدة. واليوم، ما يزال عدد منها منتشراً، ومساعي مكافحتها مستمرة.

نتحدث في هذا المقال عن اليرسينيا الطاعونية من خلال كتاب "عودة الموت الأسود: أخطر قاتل على مر العصور" والذي صدر عن سوزان سكوت وكريستوفر دنكان، وقد ترجمه فايقة جرجس حنان وراجعه هاني فتحي سليمان وسارة عادلن وهذا الكتاب يركز علي ظهور الطاعون فجأة ومرة أخري بعد طاعون جستنيانن حيث يدور الكتاب حول خفايا الوباء الاعظم والأكثر رعبا في تأريخ البشرية، وهو الطاعون الذي تفشى بشكل واسع في اصقاع المعمورة بحدود القرن الثالث عشر والرابع عشر من عام 1347 الى عام 1670 والذي قضى تقريباً على ثلث سكان الكرة الارضية في ذلك الوقت .

والطاعون الأسود كما يقول المؤلفان يعود إلي علماء الآثار الذين كانوا يُجْرُون عمليات تنقيب في الريف الإنجليزي (في منتصف القرن الماضي) أولى المقابر الجماعية المعروفة لضحايا وباء الموت الأسود، الذي عصف قديمًا بريف إنجلترا، وهو ما يشير إلى عجز المجتمع المحلي وقتها عن التعامل مع أعداد الموتى المتفاقمة؛ ففي أثناء التنقيب في أراضي كنيسة ثورنتون آبي في لينكونشير، عثر هيو ويلموت -من جامعة شيفلد بالمملكة المتحدة- وزملاؤه على موقع ضخم للدفن الجماعي، يضم رفات 48 شخصًا على الأقل. وعلى الرغم من أنه قد سبق توثيق اكتشاف مقابر جماعية مخصَّصة لضحايا الأوبئة في لندن، فإن هذه المقبرة تُعَد أولى المقابر المكتشَفة في ريف إنجلترا.

ويرجع عمر العظام المدفونة في هذه المقبرة إلى القرن الرابع عشر، وهي حقبة تضمنت في إنجلترا واحدة من كبرى حالات تفشي الطاعون الدمّلي، الذي يُعرف أيضًا باسم الموت الأسود. وقد تأكد من تحليل الحمض النووي المستمَدّ من الهياكل العظمية وجود اليرسينيا الطاعونية  Yersinia pestis، وهي البكتيريا المتسببة في مرض الطاعون.. ومن الجدير بالذكر أنه كانت لمناسك الدفن المسيحية قداستها في أثناء العصور الوسطى في إنجلترا. ولذا.. فوجود مثل هذه المقابر الجماعية يشير إلى ما ألمّ بالناجين من قنوط.. ويرى الباحثون أن إجراء المزيد من الاختبارات الوراثية للكشف عن مُمْرِضات اليرسينيا الطاعونية قد يساعد على تصميم نموذجٍ لنمط انتشار طاعون الموت الأسود عبر إنجلترا.

ثم يؤكد المؤلفان أنه في عام 1832، أطلق عليه الطبيب والمؤرخ الألماني "هيكر" اسم "الموت الأسود" ؛ لأنه كان يتسبب في ظهور بقع من الدم في طبع سوداء على جلد المصاب؛ وقد نظرت إليه الكنيسة وأتباعها على أنّه عقوبة ولعنة إلهية، في حين كان المتسبب الأساسي فيه هو بكتيريا "اليرسينيا الطاعونية"، التي كانت تنتقل مع القوارض المحملّة بها، وتنتشر بسرعة كبيرة بين البشر عن طريق العطس والسعال.

والموت الأسود كما يقول المؤلفان هو الذي جعل المدن المسكونة تتحول الى مناطق اشباح مهجورة في أشهر قليلة، ليُودِي بحياةِ نصفِ سكان أوروبا في غضون ثلاث سنوات فحسب، مكتسِبًا سمعته كأخطر وأبشع قاتلٍ على مر العصور. فما إنْ أحكَمَ «الموت الأسود» - كما عُرِف فيما بعدُ - قبضتَه على فرنسا، حتى انطلَقَ يبثُّ الرعبَ في نفوس سكان القارة الأوروبية كلها طوالَ ما يزيد على ثلاثة قرون كاملة. وكان طاعون لندن العظيم هو آخِر الضربات الكبرى، وبعدها ببضع سنوات، اختفى الطاعون فجأةً، تمامًا كما ظهَرَ فجأةً.

ويذكر المؤلفان أن ضحايا هذا الطاعون قد تراوحت إجمالي تقديرات ضحاياه في أوروبا وآسيا من 100 إلى 200 مليون إنسان، من أصل حوالي 500 مليون مجموع سكان العالم منتصف القرن الرابع العشر. وقد تسبب في فناء ما نسبته 30 – 50% من سكان أوروبا، وأحدث بذلك آثار وتحولات بالغة، على المستويات؛ السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فحدّ من سلطة الكنيسة ومن نفوذ الإقطاعيين، حتى عدّه عدد من المؤرخين أحد الأسباب التي عجلّت إنهاء العصور الوسطى.

ثم يُمِيط المؤلِّفان اللثامَ عن مسبِّبات ذلك المرض اللعين، وعن القصص الإنسانية المأساوية المختفية في أعماق السجلات التاريخية؛ فنجد قصصًا لأبطالٍ لم ينالوا التقديرَ اللائق، وآباءٍ مكلومين، وعشَّاقٍ مفترِقين، وأناسٍ استغلُّوا معاناةَ الآخرين لإشباعِ جشعهم.

ثم يكشف المؤلفان في هذا الكتاب تفاصيل انتشار هذا الوباء في أوربان ففي أكتوبر عام 1347 اجتاح أوربا أول ظهور لطاعون جبار من شأنه أن يدمر أوروبا على مدار الثلاثمائة عام التالية، ويحصد أرواح ملايين لا حصر لها من الضحايا؛ أكبر سفاح على مر العصور، وأكبر حادث مأساوي في تاريخ البشرية؛ حيث كان هذا الطاعون يمثل مرضاً معديا فتاكا وغير معروف من قبل، ظهر من العَدم في جزيرة صقلية، وقد وصف الراهب الفرنسيسكاني مايكل من بلدية بياتسا ( كما يقول المؤلفان ) كرب أولى ضحايا الموت الأسود قائلاً : " كيف أن 12 سفينة قادمة من مدينة جنوة الإيطالية، قيل إنها خرجت من القرم، قد دخلت ميناء مسينة في صقلية، وأطقمها الذين حملوا مثل هذا المرض المعدي ؛ حيث كانت تظهر بثرة على أفخاذهم أو على أعضادهم ... كانت هذه تصيب الجسم بأكمله، فكان المريض يتقيأ دما بشدة. كان هذا التقيؤ للدم يستمر بلا انقطاع طيلَة ثلاثة أيام، ولم توجد وسيلة لعلاجه، ثم يلقي المريض حتفه.. كان حجم الكارثة غير مسبوق؛ إذ لم يَُكْن يوجد أي علاج، وكان كل شخص يُصاب بالعدوى يموت ميتة شنيعة بحق... انتقلت العدوى إلى كل شخص تعامل مع المريض بأي شكل، وقد شعر المصابون بألم يخترق كل أنحاء جسدهم" .. ويبدو أن أطقم السفن كانوا أصحاء ولم تظهر عليهم أية أعراض، ومع ذلك خر أهل مسينة صرَعى سريعا. عندما أشارت السلطات بأصابع الاتهام إلى السفن، باعتبارها المسئولة عن جلب هذا المرض المخيف، طردوها من الميناء وأجبروا أطقمها على الإبحار مرة أخرى. أما أطقم البحارة، الذين كانوا لا يزالون يتمتعون بوافر الصحة، فلا بد أنهم َ كانوا في حْيرة وسخط... قيل إنهم أبحروا من هناك إلى جنوة، ولدى وصولهم بدأت نوبة تفش جديدة للوباء المميت، حيث انتشر المرض سريعا، تقريبًا في نفس الوقت الذي رست فيه السفينة.. كان هذا أول ظهور لطاعون من شأنه أن يدمر أوروبا على مدار الثلاثمائة عام التالية، ويحصد أرواح ملايين لا حصر لها من الضحايا؛ أكبر سفاح على مر العصور وأكبر حادث مأساوي في تاريخ البشرية.

وفي غمرة آلام الوباء الناتج، رأى أهل مسينة كما يقول المؤلِّفان أن أدنى اتصال مع المصاب يضمن سرعة ً حدوث العدوى؛ حيث  كتب الراهب مايكل قائلا: سرعان  ما مقت الناس ً بعضهم بعضا بشدة؛ لدرجة أنه إذا ما هاجم المرض ابنًا، فإن أباه ما كان ليعتني به، وإذا حدث - وبالرغم من كل المخاطر - وتجرأ ودنا منه، فإنه كان يُصاب بالعدوى في الحال، ولا مفر من الموت في غضون ثلاثة أيام. لم تَُكْن هذه نهاية المطاف؛ فكل أولئك الذين يخصونه أو يقيمون في المنزل نفسه، حتى القطط والحيوانات الداجنة الأخرى، كانوا يتبعونه إلى القبر. وفيما تزايدت أعداد الموتى في مسينة، تمنى كثيرون أن يعترفوا بخطاياهم للكهنة، وأن يحرروا وصاياهم وشهاداتهم الأخيرة، إلا أن القساوسة والمحامين والوكلاء القانونيين رفضوا الدخول إلى منازل المرضى، فإذا ما وِطئَ ُ أحدهم بقَدمه مثل هذا المنزل ليَُحِّرر وصية أو لأية أغراض أخرى، حكم عليه بالموت المفاجئ. الرهبان المنتمون إلى رهبنة الإخوة الأصاغر (الفرنسيسكان) والرهبان الدومنيكان وأعضاء الرتب الدينية الأخرى الذين استمعوا إلى اعترافات المُحتََضرِين، كان يقعون فريسة للموت في الحال، بل إن البعض ظلوا في غرف المُحتََضرِين.

ويستطرد المؤلِّفان قولهما : .. وسرعان ما كانت الجثث ترقد مهملة في المنازل، فلا قس ولا ابن ولا أب ولا أي ذي صلة قرابة كان يجرؤ على أن يقترب منها، لكنهم كانوا يدفعون ً أجورا كبيرة للخدام لدفن الموتى. وظلت منازل المرضى مفتوحة بكل مقتنياتها الثمينة والذهب والمجوهرات؛ فمتى قرر أحد الدخول لم يَُكْن يوجد من يمنعه؛ لأن الطاعون شن هجمة شرسة لدرجة أنه سرعان ما حدث نقص في أعداد الخدم، ولم يتبّق أحد في نهاية المطاف.

ويؤكد المؤلفان أن هذه الرواية تنقل بصورة حية الرعب والفزع الذي انتاب كل شخص عندما ضرب هذا الطاعون الجديد أول ما ضرب.. لقد رزحوا تحتَ َوطأًة ضراوة هذا المرض الغامض الذي كان يفوق تماما نطاق خبرتهم في الحياة.. ثمة شيء واضح وضوح الشمس - وهو خيط مهم - ألا وهو أنهم أدركوا في الحال أن انتقال العدوى يحدث مباشرة من شخص لآخر، ومع موت المئات وحدوث العدوى المؤكدة مع أضعف احتكاك بالمرضى، تَملك الذعر أهل مسينة المتبقين وفَروا.. لكن فيما ظنوا أنهم يتمتعون بوافر الصحة، فإنهم لم يكونوا على دراية بأنهم يحملون الطاعون معهم دون أن يْدروا.. استقرت مجموعة من اللاجئين في حقول وكروم جنوبي صقلية، إلا أن كثيرين منهم خروا صرَعى في الطريق ولَقُوا حتْفَهم.. التمس آخرون اللجوء إلى الميناء المجاور، ويدعى كاتانيا، حيث جرت رعايتهم في المستشفى إلى أن صرَعهم الموت.. إلا أن أهل كاتانيا سرعان ما أدركوا الخطأ الذي وقعوا فيه؛ فما كان يجدر بهم أن يستقبلوا هذه العدوى المروعة ُ في بلدتهم، وسرعان ما طرحت الجثث في خنادق خارج الأسوار، وجرى فرض القيود الصارمة على الهجرة إليهم.

هذا وصف لمشهد الطاعون كما حدث بين أهل مسينةن إلا أن الكتاب يشرح بالتفصيل كيف انتقل الوباء إلي سائر مدن أوروبا، وفي نهاية الكتاب؛ وبالذات في الفصل الأخير، يؤكد المؤلفان علي أن اليرسينيا الطاعونية، هو التهاب ينتح عن الإصابة ببكتيريا تسمى يرسينيا الطاعون؛ حيث تنتقل البكتيريا من القوارض إلى جسم الإنسان عن طريق قرصة الحشرات، وتسبب البكتيريا الطاعون الرئوي عند وصولها إلى الرئتين وينتقل من شخص لآخر بسهولة عند السعال.. أما الطاعون الدملي، فيصيب الغدد الليمفاوية وفلا ينتقل من شخص لآخر، ويعتمد التشخيص على التقييم الدقيق من الطبيب، ويتم تأكيد التشخيص بطلب فحوصات خاصة بالبكتيريا، وتعالج بإعطاء المضادات الحيوية، ويتم علاجه بإعطاء المضادات الحيوية، ويعتبر من الالتهابات الخطيرة التي قد تؤدي إلى الوفاة في حال عدم علاجه بالشكل الصحيح.. كما كانت بكتيريا يرسينيا الطاعون من أكثر الأمراض المعدية شيوعاً في العصور الوسطى وأدلت بحياة الملايين من البشر. أما في عصرنا الحالي، فأصبح الإصابة بها أمر نادر جداً، مقتصر على مناطق محدودة حول العالم.

وفي نهاية هذا المقال لا نملك إلا أن نقول بأن كتاب  " عودة الموت الأسود: أخطر قاتل على مر العصور يمثل سياحة فكرية وعقلية نقف من خلالها علي اليرسينيا الطاعونية وعودة الموت الأسود التي ألمت بأوروبا في العصور الوسطي، وفي ذات الوقت أعاد لنا هذا الكتاب أزمة تفشي فيروس كورونا الجديد، والذي نسأل الله عز وجل أن تنتهي هذه الأزمة علي خير، وأن يحفظ الله مصر من كل سوء، ومن كل مكروه .. اللهم أمين ..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم