قراءة في كتاب

آرثر كوستلر.. ذوبان الأسطورة

حاتم السرويفي عام 1976 ظهر "السبط الثالث عشر" فما هو السبط ولماذا كان رقمه الثالث عشر؟.. كلمة السبط باختصار هي المرادف لمعنى القبيلة عند العرب؛ فإذا كان العرب يستخدمون كلمة " القبيلة" للدلالة على فئة كبيرة من الناس تنحدر من أبٍ واحد وتنقسم إلى بطون وأفخاذ؛ فإن كلمة السبط تستخدم للدلالة على نفس المعنى ولكن في حق بني إسرائيل.

فالعرب كانوا شعبًا يجمع قبائل عدة كلهم من أصلٍ واحد وتجمعهم ثقافة لها مفاهيم خاصة وعادات وأعراف ثم صاروا أمة فيها أكثر من شعب؛ فهناك الشعب السعودي والشعب المصري والشعب المغربي.. إلى آخره، وكذلك شعب أبناء يعقوب فقد كانوا إثنا عشر قبيلة يقال لهم الأسباط وينحدرون جميعًا من أبٍ واحد هو يعقوب الذي كان لقبه إسرائيل.

و "السبط الثالث عشر " هو الكتاب الأشهر للكاتب اليهودي المجري " آرثر كوستلر" والذي فضح فيه مزاعم الصهاينة الذين ادعوا أنهم النسل المباشر للنبي إسرائيل أو يعقوب، ذلك أن العبرانيين قد اندثروا إلا قليلا، وهذا بفعل القتل أو التحول الديني؛ فالقتل كان من خصومهم الأشوريين، ثم الرومان بعد ثوراتهم التي سطرها التاريخ وذكروا بعضها بأنفسهم كما هو في سفر المكابيين الأول والثاني، وبعد اجتياح القائد الروماني تيتوس لأورشليم القدس وتدميره للهيكل سنة 70م وإذا صحت أعداد القتلى من العبرانيين على إثر هذا الاجتياح، والتي ذكرها المؤرخ المعروف عند الباحثين "يوسيفيوس اليهودي" فنحن أمام إبادة عرقية بكل معنى الكلمة، والذين بقوا من بني إسرائيل تنصر بعضهم، وبعضهم دخل في الإسلام وذابوا في الشعوب العربية التي عاشوا في كنفها وفضلوا نسيان أصولهم اليهودية والاندماج بالكامل في الشعوب التي عاشوا في وسطها، وبعد كل هذا بقيت اليهودية بوصفها ديانة يعتنقها أناسٌ ينتمون إلى أجناس مختلفة شأنها شأن المسيحية والإسلام، ولهذه الأسباب مجتمعةً يمكن القول بأن دولة إسرائيل هي في الواقع متحف أجناس متحرك؛ فاليهودي الأوروبي هو أوروبي يدين باليهودية ولا تجمعه أية صلة قرابة مع اليهودي اليمني أو اليهودي المصري، وترتيبًا على هذه الحقائق فقد اختار كوستلر لكتابه عنوان (السبط الثالث عشر) للدلالة على أن اليهود حاليًا ليسوا من الأسباط الإثني عشر، وإنما ينحدرون من شعب تركي ذي أصول آرية، وهذا الشعب أسلم بعض أبنائه فكان منهم المسلمون الأتراك، وبعض أبنائه تهودوا فكان منهم شعب إسرائيل.

لقد أشاع يهود الأشكناز الغربيون أنهم أحفاد إبراهيم أبو الأنبياء الذي أعطى الله لنسله الأرض ملكًا أبديًا حسب نص توراتي وارد في سفر التكوين، والملاحظ أن النصوص التوراتية نفسها لم تستقر على الأرض التي وهبها الله لإبراهيم وذريته ففي بعض الإصحاحات نرى الوعد الإلهي لإبراهيم قاصرًا على فلسطين وفي إصحاحات أخرى يشمل الوعد كل الأراضي الواقعة من غرب نهر الفرات حتى شرق نهر النيل بما في ذلك أراضي تقع الآن ضمن دائرة المملكة العربية السعودية!

وقد أثار كتاب السبط الثالث عشر جدلًا كبيرًا عند نشره، إذ قدم فيه آرثر كوستلر دراسة موثقة ودقيقة عن أصل اليهود المهاجرين إلى فلسطين والذي يرجع في حقيقة الأمر إلى مملكة الخزر التركية التي ازدهرت بين القرنين السابع والحادي عشر الميلادي في المنطقة الواقعة بين جنوب بحر قزوين في إيران وحتى البحر الأسود غربًا وكان شعبها يعبد صنمًا على هيئة العضو الذكري يسمى الفالوس، معنى ذلك باختصار أن اليهود في معظمهم لا ينتمون إلى أصول سامية ويصبح مفهوم معاداة السامية مجرد فزاعة يلوح بها الصهاينة لإخافة غيرهم وهم لايمتون بصلة إلى سام والساميين ومنطقة الشرق الأوسط برمتها.

ويرى كوستلر أن أسباب اعتناق الخزر الديانة اليهودية تعود لأغراض سياسية تبدأ مع رغبة ملكهم أو الخاقان -كما كانوا يسمونه- في الاستقلال عن الإسلام في دولته العباسية من جهة والمسيحية في الإمبراطورية البيزنطية من جهة أخرى ليصبحوا قوةً ثالثةً مستقلة ورغم دعوة الخاقان لم يتحول كل الشعب الخزري إلى اليهودية فبقي بعضهم على وثنيته وتحول البعض الآخر إلى الإسلام.

وقد اختفى الكتاب من مكتبات الولايات المتحدة والسبب واضح ومعروف بطبيعة الحال وفي مكتبة الكونجرس لا توجد سوى نسخة واحدة اختفت هي الأخرى كما ورد في صحيفة واشنطن ريبورت لشؤون الشرق الأوسط في عددها الصادر يونيو 1991.

والمثير أن كوستلر في الأساس من يهود المجر، وقد بدأ حياته يهوديًا ينتمي إلى الشيوعية ويؤمن كذلك بالفكر الصهيوني، ما دفعه إلى الهجرة لفلسطين، لكنه انقلب رأسًا على عقب فأصدر في البداية روايته ظلام في الظهيرة عام 1940 وفيها تناول تحوله عن الماركسية وازدراءه الحكم الشمولي الواقع في روسيا ودول التوجه الاشتراكي.

وفي 1948 حصل على الجنسية البريطانية فغادر فلسطين معلنًا تخليه عن الصهيونية ثم سافر إلى الولايات المتحدة وفيها أعلن تخلية عن اليهودية نفسها سنة 1949.

وفي 1983 مات كوستلر بعد صراعه مع سرطان الدم وأشاع البعض أنه انتحر لإيمانه بمبدأ القتل الرحيم فقد كان رافضًا للألم وقيل أيضًا أن زوجته انتحرت معه، وجاءت وفاته في خضم الجدل المثار حول كتابه عن اليهود وبقي موته حتى الآن محل غموض وتساؤلات.

على أن المفكر وعالم الجغرافيا الراحل جمال حمدان كان قد سبق آرثر كوستلر بتفنيد مزاعم الصهيونية حول الانتماء لبني اسرائيل الوارد ذكرهم في الكتب المقدسة فقد أصدر عام 1967 كتابه الشهير "اليهود أنثروبولوجيًا" وفيه تكلم عن الأصل الخزري لمعظم يهود اسرائيل والثابت تاريخيًا أن يهود الخزر تشتتوا وهاجر الكثير منهم إلى دول شرق أوروبا -وبالأخص بولندا- وهي الدول التي ينحدر منها في الأغلب كثير من يهودي الكيان الصهيوني بل وكثير من يهود العالم لذلك سميت بالخزان اليهودي.

وفي 1993 توفي العالم جمال حمدان إثر اغتياله من قبل عميلة بالموساد زعمت أنها صحفية وتريد أن تحصل منه على حوار خاص وكان سبب اغتياله أنه ألف كتابًا حافلًا يقع في ألف صفحة وعنوانه اليهود والصهيونية وبنو اسرائيل وفيه أراد أن يؤكد بوثائق جديدة حقيقة الأصول العرقية ليهود الكيان الصهيوني التي كشف عنها من قبل في كتابه "اليهود أنثروبولوجيًا" وبذلك فقدت مصر واحدًا من أنبه علمائها وأخلصهم والسبب أنه أكد بما لا يدع مجالًا للشك أن اليهود الحاليين ليست لهم علاقة بفلسطين لا من حيث التاريخ أو من حيث الجغرافيا أو من حيث النصوص المقدسة.

وفي الختام نقول أن إسرائيل مشروع استعماري غربي وليست دولة لأنها لا تملك حتى الآن مقومات الدولة؛ ويرجع هذا في الأساس إلى افتقادها للتجانس العام؛ فهؤلاء اليهود لا يجمعهم عرق ولا عنصر ولا ثقافة ولا قومية ولا دين؛ فهناك اليهودي الغربي أو الأشكنازي وهناك يهود المشرق أو المزراحيم وهناك بخلاف أولئك وهؤلاء يهود تعود أصولهم إلى الأندلس ويطلق عليهم لقب (السفارديم) وهو اللقب الذي درجنا على إطلاقه ليشمل عموم اليهود الشرقيين.

ثم أن الزيجات المختلطة كانت ولا تزال أمرًا واقعًا في عموم الأوساط اليهودية؛ فهناك زيجات يهودية مسيحية أو يهودية إسلامية كثيرة، وهذا يعني بوضوح أن فكرة نقاء العنصر اليهودي من الأوهام الكبرى التي روجها النصابون وصدقها الأغبياء.

وعلى مستوى الدين هناك اليهودي الحريدي وفي المقابل هناك العلماني، وبين هذا وذاك حرب فكرية شرسة، وكلاهما لا يحب الآخر، وأخيرًا هناك اليهودي الأرثوذكسي واليهودي الإصلاحي واليهودي الملحد، ولا نستغرب عندما نجد أن مؤسس دولة إسرائيل "بن جوريون" كان لا يكترث بالدين أصلاً.

إن إسرائيل لم تصنع لتبقى؛ لأنها دولة وظيفية، وبانتهاء مهمتها ينتهي وجودها؛ لذلك نحن نترقب زوالها، ولا ندري متى يكون ذلك لكنه ليس بعيدًا على أية حال، واستمرار إسرائيل مرهون باستمرار الغفلة العربية؛ لذلك نأمل أن تحدث معجزة وتستفيق الشعوب العربية وتعرف أن الطريق الوحيد للقوة هو العلم والثقافة؛ الثقافة التي يفر منها كثيرون عندنا وكأنها مرض جلدي مزمن، والحق أن اليهود لم يتفوقوا علينا بذكائهم وإنما بضياع همتنا وفساد أحوالنا، فهل نسنتفيق؟؟

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم