قراءة في كتاب

عرض موجز لكتاب د. جعفر نجم نصر: الإسلام الكوني والاسلام العربي

خالد الحاج عبد المحمودمحمود محمد طه والحل الصوفي للشريعة"

لقد وفر لي الاخ د. محمد صادق جعفر، كتاب د. جعفر نجم نصر، المذكور أعلاه.. الأمر الذي اتاح لي الفرصة لعرض الكتاب.. د. جعفر من الاكاديميين والمفكرين العرب الذين اشتركوا في الاحتفال الاخير بذكرى الأستاذ محمود.. وقد تم هذا الاحتفال بفضل الله، ثم بفضل الدكتور حيدر ابراهيم، وبالمشاركة مع جامعة النيلين، وكان عملا رائعاً، قام فيه الاخ عبدالله الفكي البشير كعادته بدور أساسي، وشارك في الاحتفال عدد من الاكاديميين والمفكرين العرب، من الرجال والنساء، من دول مختلفة.. وكان لمشاركتهم الدور الأكبر في إثراء الحوار الذي قام عليه الاحتفال.. وقد استضافت جامعة النيلين الاحتفال، وقد قام الاحتفال بقاعة وزارة التعليم العالي، الواسعة المؤهلة.. كما شاركت مديرة جامعة الخرطوم في الاحتفال.. وقد شاركت الحكومة ممثلة في رئيس الوزراء وبعض اعضائها الآخرين، مشاركة رمزية، في الوقفة التي تمت بمنزل الأستاذ محمود محمد طه.. كما كان لتلفزيون السودان دور هام في المشاركة، خصوصاً في الافتتاح، وفي استضافة بعض المفكرين العرب من المشاركين، في فيلم وثائقي أذاعه على الجمهور.. بالإضافة إلى عدد كبير من المفكرين السودانيين الذين شاركوا في الحديث، وفي الحوار.. الشكر كل الشكر لمن ساهم في هذا الاحتفال ممن ذكرناهم او لم نذكرهم.

أنا هنا بصدد عرض موجز جداً، لكتاب د. جعفر المذكور.. اقصد عرض وليس مناقشة!! فالكتاب، مثله مثل احاديث وكتابات المفكرين الذين اشتركوا في الاحتفال، يتسم بالموضوعية والصدق والامانة الفكرية.. وهذه صفات يقوم عليها العمل الفكري، والبحث الاكاديمي، فهي الوضع الطبيعي ولا تحتاج منا إلى إشادة.. ولكننا نشيد بها، لما عانيناه من ظلم شديد ومفارقة تامة لقيم الحوار الحر، من الجماعات السلفية، والاخوان المسلمين والمؤسسات الدينية، في داخل السودان وخارجه.. فطوال حركة الجمهوريين، كانت فكرتنا تتعرض لتشويه غريب جدا، ولا علاقة له بالفكر ولا بالدين.. كان خصوم الفكرة ينسبون للفكرة مفارقات دينية كبيرة وخطيرة، ليست لها أي علاقة بالفكرة.. ويقومون ببتر النصوص لاستخراج اتهامات باطلة، وينسبون إلى الفكرة أشياء ليست منها، بل في كثير من الأحيان عكس ما تقول به الفكرة!! فمثلا عن موضوع العقاب ليس أصلا في الدين وإنما هو أمر مرحلي جاء قول الأستاذ محمود: "وحين يصبح العقاب سرمديا يصبح انتقام نفس حاقدة لا مكان فيها للحكمة وعن ذلك تعالى الله فيها علواً كبيراً..".. حذفوا عبارة (عن ذلك تعالى الله علواً كبيرا)، ليقولوا رجل يتهم ربه بالحقد! ولما صدر كتاب "الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لانسانية القرن العشرين"، أحدثوا ضجة ضخمة كلها تدور حول أن الأستاذ يقول بأن الاسلام لا يصلح لإنسانية القرن العشرين.. وجاء قولهم : (ما هي إنسانية القرن العشرين وحضارته؟ أهذا التفسخ الذي يجتاح عالم الغرب من خنافس وهيبيز حضارة أو إنسانية؟  ألمثل هذا القرن المنحدر نحو الهاوية لا يصلح الإسلام وهو الذي أصلح الجاهلية الأولي؟ إن الإسلام دين كل زمان ومكان، دين الحياة والحقيقة، منجاة الإنسان من الانحدار، لا يمكن إلا أن يصلح لزماننا هذا مثلما صلح لزمان آخر..).. وجاء قولهم: (إنسانية القرن العشرين المتفسخة، إنسانية القرن العشرين الطائشة، الانسانية الداعرة..).. وكان رد الأستاذ محمود: (نعم إنها إنسانية القرن العشرين المتفسخة الطائشة الداعرة!! الإنسانية دي لا تزال في ما يريده ليها الله لغاية اليوم.. والله ما هجرها.. الله ما تركها، الناس خلق الله، وعباد الله.. والله بحبهم.. لكن الله بسيِّرهم ليه برجلين. بسيرهم ليه برجل المادة، وبسيرهم برجل الروح.. وفي كل المضمار الناس ماشين لي الله.. حتى أفجر الفجور، لما تشوفه، هو بارادة الله، لكن الله ما بيرضى ارادتو دي.. دا برضه من دقائق المعرفة بالدين.. الله يريد حاجة وما يرضاها.. الله يريد الكفر، ولكن لا يرضى إلا الايمان.. ربنا قال: ((إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ، وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ..)) يعني، لما قال ربنا (ان تكفروا فإن الله غني عنكم) الغني الما بيغلب.. ومعنى الكلام دا انو أن كفرتم ما كفرتم مغالبة لله، تعالى الله عن ذلك، وإنما كفرتم بإرادته.. ولكن الارادة دخلت فيها الضدية.. ((الثنائية)) الخير والشر دخلوا بالارادة.. الكفر والايمان دخلوا بالارادة .. ربنا يقول: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)) ولكن ربنا أرسل الرسل لينقلونا من أرادته الى رضاه.. هنا، لما نكون نحن في حالة من حالات الفجور.. في حالة من حالات التحلل.. في حالة من حالات الجري وراء الدنيا.. في حالة من حالات التقدم المادي، زي ما نحن في حضارتنا الحاضرة، نحن سايرين لي الله في مضمار إرادته.. سايرين في هذه الحالات لي الله بالضلام – إن شئت – لأنو الله بيسوق ليهو الإنسان بالنفس ((وهي ضلام)) وبالروح ((وهي نور)) بالصورة دي .. زي ما الزمان بسير بالليل والنهار - اليوم نصو ليل ونصو نهار – كذلك البشرية ماشة لي الله بالمادة ((الضلام)) وماشة ليهو بالروح ((النور)) .. وهي، عندما تكون في حالة المادة، في السير، كأنها قدمت رجل المادة في السير، دا البنسميه نحن الضلال، والتفسخ، والطيش، والمجون، وأحسن منه أن تقدم رجل الروح .. أن تجي الهداية .. ولكن ما من شك أنها جاية .. زي ما الإنسان ساير برجلين، يمين، وشمال، وأنت إذا رأيته في سيره مقدما رجله الشمال، لا تشك في أنه سيقدم رجله اليمين بعد أن يثبت رجله الشمال في الأرض.. الإنسان ماشي لغايته عندما يقدم رجله الشمال كما هو ماشي عندما يقدم رجله اليمين.. وهو ماشي لي الله في جميع الحالات، لكن الاختلاف أنو لما أستعمل المادة بغرض المتعة، والترف، وحب الدنيا، واتباع الشهوات، دا ضال.. وهو لا بد سيهتدي فيستعمل المادة نفسها بوعي، واعتدال، وقصد، وبغرض القرب من الله.. ويكون بذلك مهتدي .. الموضوع المهم أن إنسانية القرن العشرين لأنها منحلة، ولأنها ضالة، ولأنها متفسخة، هي بحاجة الى الإسلام أكثر منها لو كانت مهتدية.. وكل إنسان بيفهم يدرك أن الحيرة مطبقة في الأرض كلها، وأن خلق الله، حيث وجدوا، هم في التيه، هم حائرين.. هم ضالين، هم فاقدين حاجة.. كل الحركات اللي نحن بنشوفها في طلابنا، وفي طلاب العالم، في شبابنا، وفي شباب العالم، في رجالنا ونساءنا، وفي رجال العالم ونساء العالم.. انو البشرية في التيه بتبحث عن الله.. وهذه هي الحاجة الى الإسلام..)..

وقد وصل التشويه، ان يقولوا مفارقات وينسبوها للفكرة، وهي ليست منها، ثم انهم يزعمون انها موجودة في الكتاب الفلاني، في صفحة كذا.. وهو زعم كاذب.. مثلا يقولون ان الأمر الفلاني موجود في كتاب الرسالة الثانية صفحة 277.. مع ان كتاب الرسالة الثانية عدد صفحاته اقل من 277 صفحة!! الشاهد انه طوال تاريخنا في الحركة، كنا دائما بصدد تصحيح تشويه، مثل الذي ذكرنا.. هم لم يناقشوا الفكرة قط!! وإنما ناقشوا أمور مخالفة للفكرة، نسبوها لها من عندهم!!

من أجل ذلك عندما نجد مفكرين من أمثال د. جعفر، والآخرين، يكتبون كتابة موضوعية، وتقوم على الأمانة الفكرية، فإننا نشيد بذلك أشد الإشادة، رغم علمنا ان هذا هو الأمر الطبيعي في كل حوار حر!! ولكن هذا الأمر الطبيعي، غاب تماماَ في احاديث وكتابات جماعات الإسلام السلفي، والاخوان المسلمين، طوال التاريخ، وإلى اليوم!!

الكتاب:

صدر كتاب د. جعفر نجم نصر تحت اسم (الاسلام الكوني والاسلام العربي: محمود محمد طه والحل الصوفي للشريعة) الكتاب يقع في اربعمائة صفحة.. وهو يقوم على ثلاثة أقسام.. القسم الأول عن الشريعة بين الشفاهية والتدوين / جذور التشكيل.. والقسم الثاني: محمود محمد طه من تجربة التصوف إلى تجربة الاصلاح/ بين الإرث واعبائه.. أما القسم الثالث فبعنوان: محمود محمد طه ومنهجية التحديث وقضاياه.. وإهداء الكتاب جاء كما يلي: إلى روح الأستاذ الأكبر محمود محمد طه.

وكما ذكرت فإنني ساعرض الكتاب بصورة موجزة جداً.. كجمهوري فإنني اقول إن كل القضايا التي تناولها الكتاب، تم عرض اراء الأستاذ محمود فيها بدقة وامانة.. ولا أجد أنني اختلف معه في شيء من هذا العرض.. بالطبع د. جعفر ليس جمهورياً، ونحن لا نطالبه بالدقة التي نطالب بها الجمهوري.

نبدأ باسم الكتاب، فهو اسم معبر جداً عن محتوى الكتاب، وملخص له.. وكما ذكرنا اسم الكتاب(الإسلام الكوني والإسلام العربي).. هذا الاسم يشير إلى الرسالة الثانية بعبارة (الإسلام الكوني) وهو يعني الإسلام الذي قال عنه المعصوم "بعثت للناس كافة".. وقال عنه تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا".. هذا هو الإسلام الذي يقوم على أصول القرآن، وهو للناس كافة، وهذا هو مستوى الرسالة الثانية التي يدعو لها الأستاذ محمود، وهي تقوم على بعث السنة.. أما عبارة (الإسلام العربي)، من عنوان الكتاب، فهي تشير إلى الرسالة الأولى، وهي رسالة خاصة بأمة معينة، هي أمة المؤمنين، وهي تقوم على فروع القرآن، مستوى الشريعة، الذي ناسب الناس في القرن السابع الميلادي، عند البعث الأول.

ما جاء في مقدمة الكتاب يدل على رؤية واضحة، وصحيحة، لدعوة الأستاذ محمود.. وقد تم عرض بعض ما جاء في المقدمة في الصفحة الأخيرة للكتاب، ونحن نعرضه هنا، حتى يرى القراء وضوح رؤية الكاتب.. جاء في المقدمة: (أطل الأستاذ محمود محمد طه على العالم برؤية مغايرة كلياً لكل المحاولات السابقة التي حاولت إصلاح الإسلام وتحديثه، فهو على الرغم من أنه استلهم من (التأويل الصوفي) ومنهجية (النسخ والارجاء) من داخل دائرة الإسلام، الا أنه لم يرفض أو يتنكر للمناهج العصرية او القراءات التجديدية/ النقدية للاسلام وللشريعة على وجه الخصوص.. أنه وجد بحسب توجهاته الصوفية ان المدار الاصلي هو في (سنة النبي) في خاصة نفسه التي يجب أن نسعى أن نتأسى بها، وان الشريعة بآيات الفروع المدنية لم تكن الا تشريعات وقتية لذلك العصر، وأنها ليست من أصول الإسلام الجوهرية والتي مثلتها آيات الاصول المكية، وأنها أرجات او نسأت الى زمن اخر بعد تهيئ الانسانية لها، وذلك بعد ان تبلغ درجة المدنية والاهلية الكاملة لكي ترفع عنها قيود الحرية.. فوجد الأستاذ طه ان القرن العشرين بكل تحولاته ومتغيراته آنذاك كان الأنسب لكي ترتفع القيود بعد ان يجعل الآيات المكية (ايات الاصول) هي الحاكمة والضابطة للسلوك الانساني بوصفها آيات عالمية، وتعطيل الايات المدنية (ايات الفروع) بوصفها آيات زمكانية -خاصة لمرحلة محلية-عربية- خاصة للغاية، وبذلك يغدو الإسلام (وشريعته) ملائما لحاجات العصر ومتطلباته.. ان الأستاذ طه وبحسب اطروحته تلك، قدم السقف او الحد الأعلى، من التجديد، الذي لا يمكن لأحد ان يقدم أعلى منه، بحسب اعتقادي.. وإن ميزته في ذلك انه جاء بمشروعه الاصلاحي والتجديدي للشريعة من داخل المادة الإسلامية نفسها، ومن مناهجها الخاصة للغاية، الا وهو "التأويل الصوفي" فضلاً عن منهج "النسخ والإرجاء".. ان اطروحات الأستاذ طه لم يكن بالامكان اعادة قراءتها قراءة شمولية دقيقة كيما يتبين مساراتها ومغزاها، من دون اعادة موضعتها في سياقاتها الثقافية، والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية التي حفت بها، فضلا عن العودة بها إلى ذاكرة دينية مثلت "تأسيس العقل الإسلامي" وبين مخاض روحي/ ذاتي "التجربة الصوفية للأستاذ" التي ميزت تصوفه الذي تجاوز النزعة الفردية إلى المجتمع بعموم اطيافه، وبين ارث اصلاحي ثقيل "عصر النهضة الإسلامية وجهودها الاصلاحية"، إلى معاصرة دولة سودانية وليدة هشة عاشت اوهام "تطبيق الشريعة".. بين كل ذلك وسواه، كان الأستاذ طه يتحرك مجدداً ومصلحاً ومعلماً صوفياً متفرداً بمنهجه الجديد.. ونحن إزاء ذلك كله كنا بحاجة إلى أسس وقواعد ومقدمات نبين على ضوئها أطروحات الأستاذ التي لم تكن مفصولة عن كل ذلك.. إنها مخاضات كبرى عاشها هذا الرجل المصلح، فجاءت رسالته الثانية للاسلام بمثابة الطريق القويم الذي لا يمكن إلا سلوكه والعبور به نحو اسلام كوني / عصري/ عقلاني الا وهو إسلام آيات الأصول المكية، انه اسلام "أمة المسلمين" التي جاء طلائعها، وهو في مقدمتهم).

هذا بعض ما جاء في المقدمة، وهو كافٍ جداً لإبداء صورة عن الكتاب، وما يتمتع به من دقة وموضوعية.

نحن في عرضنا سنتجاوز القسم الأول، والذي هو عبارة عن خلفية تاريخية تتناول قضية الذاكرة الدينية، والشريعة وتشكيل العقل الإسلامي.. وهو فصل يعتبره الكاتب ضروري كمدخل للموضوع.. ونذهب مباشرة إلى القضايا التي تتعلق بدعوة الأستاذ محمود بصورة مباشرة.. ونحب أن نشير هنا إلى أن الدكتور يجري في كل قضية، العديد من المقارنات، لمجموعة من المفكرين ولتناولهم للقضية المعينة.. يقارن بين آرائهم وآراء الأستاذ، ويبين افضلية آراء الأستاذ في القضية المعينة، كما يبين كيف أنها أكثر صحة من الآراء الأخرى.

نحن سنذهب مباشرة إلى القسم الثاني وما اسماه الكاتب: التجربة الصوفية عند الأستاذ محمود.

التجربة الصوفية:

في بداية الفصل تناول الكاتب معنى التجربة الصوفية وخصائصها.. وحول هذا الموضوع تعرض د. جعفر لآراء العديد من المفكرين العرب وغير العرب، ومن أهمهم ولتر استيس المفكر الامريكي الكبير.. نحن سنتجاوز أقوال جميع هؤلاء المفكرين.. تناول الدكتور موضوع "الرسالة/ النبوة/ الولاية"، وقال في هذا الصدد: "يذهب الأستاذ طه بازاء  توضيح اعمق لثلاثية " الرسالة / النبوة / الولاية"، وينطلق مرة أخرى من الحديث النبوي: "قولي شريعة، وعملي طريقة، وحالي حقيقة"، قائلا إثرها: (فإنها تشير إلى مراتب مقامه الثلاث: مرتبة الرسالة، ومرتبة النبوَّة، ومرتبة الولاية.. فأما مرتبة النبوَّة فإنها الأصل، وهي وسط بين طرفين: من أعلاها الولاية، ومن أسفلها الرسالة.. ذلك بأن النبوَّة عندما استوت انبثقت منها الرسالة كوظيفة.. ثم هي كلما زادت استواء تسامت إلى مراتب الولاية، في الفينة بعد الفينة.. هذا ما من أجله قررنا أن النبوة أصل..).. ويواصل د. جعفر فيقول: (والمراتب الثلاث لمحمد صلى الله عليه وسلم تشير إلى انواع استحصلها فضلا عن كونها تشير إلى تكليفه الالهي إزاء اي نوع او مستوى، من تلك العلوم التي ترتبط كل واحدة بمرتبة محددة، وللتدليل على ذلك يقول الأستاذ طه: "وعن مراتب مقامه الثلاث هذه قال، ليلة عرج به: (سألني ربي يا مُحمّد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت أنت ربي أعلم، فوضع يده على كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فأورثني علم الأولين والآخرين.. وعلمني علوماً شتى: فعلم أخذ علي كتمانه، إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلم خيرني فيه، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام، والخاص، من أمتي، وهي الإنس والجن..) فالعلم الذي أمره بتبليغه للخاص والعام من الأمة، هو علم الرسالة، وهي تشمل القرآن المقروء بين دفتي المصحف، وتشمل تبيّين هذا القرآن، في التشريع، في مستوى حاجة الأمة.. وفي التفسير في مستوى طاقة الأمة.. وهو قد قال: (نحن، معاشر الأنبياء، أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم) فالرسالة، إذن، لا تشمل تبيين القرآن كله، كما يظن بعض الناس، لا في التشريع، ولا في التفسير، فإن ذلك أمر ممتنع من جملة وجوه.. والعلم الذي خير في تبليغه يقع بعضه في حيز الولاية، ويقع سائره في حيز النبوة.. ويظن بعض الناس أن النبي مأمور بتبليغ كل ما وعى عن ربه، وذلك ظن شديد الدلالة على قلة بصر هؤلاء بحقائق الدين..".. ثم يذهب الكاتب بمقارنة لأقوال الأستاذ مع اراء محمد شحرور.. ثم يورد قول الأستاذ محمود: "والنبي، في ولايته، اكبر منه في نبوته".. ويقول د. جعفر: (لأنها شأن مشترك بين كل الانبياء لا خصيصة روحية فيه مثل الذي بالولاية بالمعنى الصوفي والتي كانت للخضر..).. ثم يواصل نص الأستاذ: "ذلك بأنه في النبوة يتلقى عن الله بواسطة جبريل، ولكنه في ولايته يتلقى عن الله كفاحا، وقد رفعت الواسطة من بين الرب والعبد.. وإنّما عن ذلك أخبر ليلة المعراج، حين أخبر أن جبريل، عندما انتهى إلى مقامه عند سـدرة المنتهى، قال له: ها أنت وربك، وتخلف، فقال: أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله؟ قال: هذا مقامي، ولو تقدمت خطوة لاحترقت!! (فزجّ بي في النور)، وهو يعني هنا نور الذات، وليس لجبريل بنور الذات طاقة، لأنه لا ذات له، (لا نفس له)، ومن ههنا بدأت ولاية النبي.."..

التأويل الصوفي للقرآن:

تحت هذا العنوان تحدث د. جعفر عن التأويل عند الأستاذ محمود.. وبدأ بربط الموضوع بمستويات المعرفة الثلاث، التي قال بها الأستاذ محمود وسائر المتصوفة، وهي: الشريعة والطريقة والحقيقة.. وقد سبق للدكتور التعرض لهذه المستويات، ولكنه يتعرض لها هنا، من منطلق (التأويل الصوفي)، الذي اعتمده الأستاذ محمود بوصفه منهجاً اساسياً في استخراج المعاني، وكافة القضايا، أو المسائل الجوهرية التي انبنى عليها فهمه لتلك الثلاثية آنفة الذكر، ولمسألة الفروقات بين: النبوة والرسالة والولاية.. يقول الدكتور: (وقد جاء مكانه هنا بحسب المنطق الصوفي الذي امتلكه الأستاذ، إذ لولا سلوكه العرفاني، ومدارجه الروحية التي مر بها في سياقات المعرفة التي استحصلها، لما نال "المنهج التأويلي" الذي  اعتمد فيما بعد، فالمعرفة الصوفية التي استحصلها عبر انتقاله من الشريعة والطريقة إلى الحقيقة اهلته ليمتلك تلك الاداة المعرفية "الذوقية" لاستخراج باطن القرآن ومعانيه الروحية، فلهذا جاء "التأويل الصوفي" نتيجة لتجربته الروحية، وخلاصة لها..).. ولم يتحدث د. جعفر عن تجربة الأستاذ الروحية إلا في الفصل التالي.

بعد هذا ذهب د. جعفر، في حديث مطول عن دلالات التأويل الصوفي.. وهو حديث استمر من صفحة 145 إلى 235.. وقد تعرض للعديد من الصوفية المسلمين وغير المسلمين.

ثم عاد ليتحدث عن الوضع في السودان وتأثره بموجة الأصوليات الإسلامية الصاعدة.. وتحدث عن حركة الاخوان المسلمين في السودان.. ثم عاد ليتحدث عن الأستاذ محمود، فقال: (اسس الأستاذ محمود محمد طه الحزب الجمهوري عام 1945م، وكان حزباً مدنياً، يؤمن بالديمقراطية، ولعل هذا الأمر يعد دليلاً على وعي سياسي واجتماعي مبكر بأهمية إقامة الدولة المدنية، في عصر كانت الدعوة إلى العودة إلى الإسلام "ديناً ودولة" هي الشغل الشاغل لأغلب المجتمعات الإسلامية، ما عدا الحركات اليسارية أو الاشتراكية..).. ثم تناول موضوع ملء فراغ الحماس، والمواجهة مع الاستعمار الانجليزي، تلك المواجهة التي ادت إلى سجن الأستاذ مرتين في آخر الاربعينيات، وهي قد كانت بداية الخلوة.. وعلى ذلك فترة الخلوة هي خمسة أعوام.. عامان بسجن كوبر، وثلاثة أعوام بالمنزل.. وهذه الخلوة هي نقطة التحول الأساسية، وهي التي أدت إلى وصول الفكرة عند صاحبها، وحددت المنهج الديني الذي تقوم عليه الفكرة، وهو منهج السنة، الذي يقوم على العمل، وليس مجرد التنظير.. فقد كان الأستاذ يعمل على تقليد المعصوم في سنته في العبادة، ومن ها هنا جاءت الصلة بالله، والمعرفة، التي ترجمت فيما بعد في المحتوى الإسلامي الذي دعى له الأستاذ محمود.

موضوع الخلوة هذا، الذي أسماه وجذور التجربة الصوفية، هو أهم موضوع لأنه حدد المنهاج، الذي قامت عليه الفكرة.. منهاج العمل الذي يقوم على قوله تعالى: "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".. ثم بعد ذلك تنزلت تفاصيل الفكرة.. وجاءت الدعوة إلى طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المنهج الذي قام عليه عمل الأستاذ في خلوته، وهو ما أصبح يدعو إليه كل الناس.. فأصدر في ذلك كتاب (محمود محمد طه يدعو إلى طريق محمد).. ومن الناحية العملية منهاج الطريق هو كل دعوة الأستاذ محمود إلى بعث السنة.. وما (الرسالة الثانية) إلا ثمرة هذا المنهاج، وتفصيل لقضايا السنة في المجالات المختلفة، كما ظهر في كتاب الرسالة الثانية.

نقل د. جعفر نصاً مطولاً للأستاذ محمود عن بداية الدعوة للفكرة الدينية، وأشار إلى كيف أن عدد من جمهوريي الحركة الوطنية، تركوا الحزب عندما أصبح دعوة دينية، وليس مجرد حزب سياسي.. ولخص د. جعفر بيان الأستاذ المذكور في خمس نقاط هي:

أولاً: إن مرحلة المواجهة الحماسية للاستعمار، انتهت، لأنها كانت متلائمة في سياقاتها حينئذ.

ثانياً: أنه يؤمن ببعث الإسلام عبر أطروحات دينية جديدة، والفكرة الدينية بالنسبة له هي الأهم في العمل السياسي للحزب، أي أنه يريد للإصلاح الديني أن يأخذ مجراه.

ثالثاً: إنه يبين أنه لا يطلب مناصب سياسية أو مطامع دنيوية عند تأسيسه لهذا الحزب، وأن الأمثل لديه هو انبعاث الإسلام بشكل حضاري جديد، فلهذا إنفض من حوله طلاب المناصب من جهة، والذين لم يدركوا المغزى الأساسي لتلك الأفكار الدينية الحديثة من جهة أخرى.

رابعاً: إنه يبين على أن عزلته ومن ثم خروجه بمشروعه الاصلاحي هذا لا يمكن أن يطبق داخل المجتمعات من دون أن يبدأ الجمهوريون (أعضاء الحزب) بالمسير عليه وهو عينه كما يقول (طريق  محمد).

خامساً: إنه يبين أنه مر بتجربة صوفية فعلية، وكان على بصيرة تامة، وان الغموض هو عند من لم يفهم مشروعه أو أساء فهمه غير متعمد أو عن قصد وترصد (كما فعل الإخوان المسلمون).

ثم تعرض د. جعفر للمعارضة التي لقيتها دعوة الأستاذ محمود من الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السلفي داخل السودان وخارجه إلى أن وصل الحديث إلى محكمة الردة نوفمبر 1968م.. ولاحقاً استعرض كتاب "بيننا وبين محكمة الردة" وما ورد فيه من ردود على إدعاءات الأشياخ الذين كانوا وراء المحكمة.. ثم تناول دعوة الدستور الإسلامي التي قام بها د. الترابي وحزبه، بسند من الطائفية، وجماعات الإسلام السلفي، وذكر مقاومة الأستاذ محمود وتلاميذه لهذا النشاط الذي جرى باسم الدستور الإسلامي.. ثم قال: (وبوجه عام، كانت الأجواء آن ذاك تشير إلى استمرارية الجهود لإيجاد طريقة ما، للقضاء على فكر الأستاذ محمود، بعد أن فشل حكم الردة الذي صدر ضده في عام 1968 في إيقاف نشاطه وحركته.. فحكم الردة لم يزد حركته في واقع الأمر إلا اشتعالاً واتساعاً.. استمرت المؤامرات ضده منذ نهاية الستينيات وعبر حقبة السبعينات، وقد وثق الأخوان الجمهوريون، تلاميذ الأستاذ محمود محمد طه في عدد من كتبهم ومنشوراتهم، المحاولات الجمة للمؤسسات الدينية السعودية، والأزهر ورابطة العالم الإسلامي، وغيرها من الجهات الحريصة على تكريس حالة الجمود الفكري في العالم، بالاتصال بالسلطات السودانية، من أجل إيقاف حركته وحط فكره، ووجد المتآمرون أخيراً ضالتهم في الرئيس السوداني الأسبق، جعفر نميري، وهو يحاول في النصف الأول من الثمانينات ستر عورات محكمة المهلاوي، بمحاولة فجة لتطبيق الشريعة الإسلامية.. ثم تناول مواقف د. منصور خالد ضد استغلال نميري وجماعته: الاخوان المسلمين، للدين، ذلك الرد الذي ورد في كتاب "الفجر الكاذب/ نميري وتحريف الشريعة".. ثم تناول تأييد الترابي وجماعته لنميري، ومبايعتهم له، فقال: (ولقد بلغت ذروة تمادي الحركة الإسلامية بزعامة الترابي في تأييدها للنميري، أن تعلن البيعة المطلقة له، ولعلنا خبرنا الانتهازية المستمرة للإسلام السياسي في عدة بلدان ومجالات، ولكن في السودان بلغت انتهازية الإسلاميين ذروتها، وهم يهللون بتطبيق الشريعة.. إذ وقف الترابي مبايعاً في قرية أبو قرون مثنى وثلاث ورباع، ما غشته خشية من ألا يعدل.. وسمى نميري في خطاب منشور بود مدني، بأنه مجدد المائة.. وبهذا ساوى النميري مع الإمام الشافعي مجدد المائة الثانية، والإمام الباقلاني مجدد المائة الرابعة.. ولم يقف الدكتور العالم عند ذلك، بل أخذ يتبارى مع الإمام المجدد (نميري) في تشهيره العلني بأهل السودان حتى كدنا نظن أن بلادنا أصبحت هي سدوم هذا القرن!! ومضى الحال بالدكتور إلى حد تبرير الإسراف في أحكام القطع (قطع اليد)، بعد إعلان حالة الطوارئ في أبريل 1984م.. فعل ذلك مرة أخرى في الخرطوم وثانية في الكويت.. وهو يقول بأنها ضرورة إسلامية تستوي مع ما اتخذه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من إجراء لحماية النظام.

ويقول: (أما الجهة الأخرى، جهة الإصلاح الديني، وفهم الإسلام بطريقة عصرية، فجاء الرد المباشر بالبيان الموسوم (هذا أو الطوفان) الذي أصدره الأستاذ طه، و الذي نذكر أهم فقراته:

أولاً: أما قوانين سبتمبر فإنها أساساً لم تقم على علم، وإنما قامت كمناورة سياسية لتثبيت عرش نميري المتهاوي، فكانت مؤامرة على الشعب وعلى الدين.

ثانياً: إن نميري وثالوثه المشرع، قد ساروا بالحدود عكس روحها وغايتها وهدفها، فاتجهوا للتضييق وتوسيع دائرة التجريم والإدانة بأوسع مدى، وشوهوا الإسلام، وأظهروا مساهمته في الحياة الحديثة و كأنه مؤسسة حساب وردع وإرهاب.

ثالثاً: قوانين سبتمبر على زيفها وقسوتها قد اختار لها الإمام قضاءً خاصاً تابعاً للقصر وللثالوث، ووجدوا قضاة رضوا بأن يجلسوا لمحاكمة المواطنين محاكمة ايجازية بعد أن حرموا من حقهم الدستوري.

رابعا: نطالب بالغاء قوانين سبتمبر ونعتبر واضعيها ومنفذيها والمبايعين عليها هم سدنة السلطة الحقيقين، والمجرمين الحقيقين في حق الشعب وفي حق الإسلام.. وأصل منطلقنا في هذا الموقف هو المنطلق الديني حيث نبريء الشريعة من وصمة وزيف قوانين سبتمبر.. وختم د. جعفر القسم الثاني من كتابه، بمحاكمة الأستاذ محمود، والحكم باعدامه.. فقد قال: (اثر هذا البيان وجراء كل المواقف السابقة للاستاذ طه، فقد تجرأ نظام النميري وبكل صلافة وادعاء للشريعة الدينية ان يحكم بالردة مرة ثانية على الاستاذ طه، وان يأمر باعدامه، ونفذ الاعدام فيه صبيحة 18 يناير 1985م..).

في تقديري أن أهم ما ورد في كتاب د. جعفر هو ما يتعلق بالجانب الديني في دعوة الأستاذ محمود، والخاص بالمنهاج، والأسس التي يتم عليها بعث الإسلام، ببعث السنة، وتصديه لتعريف السنة، وتمييزها عن الشريعة، بالصورة التي وردت عند الأستاذ محمود.. وتحدث د. جعفر عن موضوع التأويل عند الأستاذ محمود، ونسبه للتصوف.. كما نسب منهاج الأستاذ محمود في التدين بانه يقوم على التصوف.. اولا، نحن نحمد لد. جعفر اهتمامه بالجانب الديني، واعطاءه الاولوية، وهذا ما عليه حقيقة الأمر في دعوة الأستاذ محمود.. لكن معظم الذين تحدثوا عن دعوة الأستاذ محمود من المفكرين العرب ركزوا تركيزا واضحا على القيم الايجابية في الدعوة التي ترتفع إلى مستوى العصر بالصورة التي تخالف الإسلام السلفي.. معظمهم ركزوا على الجوانب الاجتماعية في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وأسس المساواة بين الناس، وبين الرجال والنساء.. وكان هنالك قصور في جانب موقف الفكرة من الفرد، ومنهجها في تربيته على مكارم الاخلاق.. باختصار لم يجد الجانب الديني في دعوة الأستاذ محمود، وهو الاساس، الاهتمام الذي يليق به، عند العديد من الكتاب والمفكرين، كما وجد عند د. جعفر.. وهذا ما جعلنا نقف بصورة مطولة بعض الشيء مع الجزء من كتابه الذي تناول فيه هذا الموضوع.

تعقيب:

موضوعنا الاساسي هو عرض افكار د. جعفر التي وردت في كتابه المذكور عن دعوة الأستاذ محمود محمد طه.. ولكن لأهمية الموضوع الديني، وهو الموضوع الجوهري في الدعوة، نعقب تعقيبا موجزا على ربط د. جعفر دعوة الأستاذ بالتصوف.. هذا الربط من الناحية المبدئية هو صحيح!! لكن يحتاج إلى بعض الدقة في التمييز بين التصوف في المعنى العام، والتصوف كما هو عند الأستاذ محمود.. الأستاذ محمود شديد الاعزاز لكبار الصوفية، وهم عنده من حفظ الدين، والتزم بمنهجه الصحيح.. المنهج الذي يقوم على العمل، وليس التنظير، وهذا هو الاختلاف الأساسي بين الصوفية وبقية الفرق.. فالصوفية عند الأستاذ محمود هم انصار السنة المحمدية، وهذه هي ميزتهم على بقية الفرق الاخرى.. لكن الأستاذ محمود يقول بوضوح، إن تحديات العصر أكبر من الطرق الصوفية، ومشايخها، وليس لها الا محمد صلى الله عليه وسلم.. ويدعو إلى التخلي عن الطرق الصوفية، لأن الوقت قد تجاوزها.. فهو يقول مثلا: "لقد خدمت الطـرق الصوفية غرضا جليلا، في نشر الدين الحق، ولقد ربّت رجالا أفذاذا، كانوا منارات هدى، ومثابات رشد للأمة، عبر تاريخها الطويل، في ارتفاعه وانخفاضه، عندهم التمست دينـها وخلقهـا وتربيتها.. ولكن اليـوم!! فإن تحديات العصر أكبـر من الطرق وأكبـر من المشائـخ، وليس لها غير مُحمّد..".. وعن دعوة اصحاب الطرق من المتصوفة إلى طريق محمد، وبيان ان جميع الطرق الاخرى قد انغلقت، ولم تعد قادرة على ان تؤدي الدور الذي كانت تؤديه في الماضي، يقول الأستاذ محمود: "أما بعد، فإن الزمان قد استدار كهيئته يوم بعث الله مُحمّدا داعيا إليه ومرشدا ومسلّكا في طريقه.. وقد انغلقت اليوم بتلك الاستدارة الزمانية جميع الطرق التي كانت فيما مضى واسلة إلى الله، وموصلة إليه، إلاّ طريق مُحمّد.. فلم تعد الطرق الطرق ولا الملل الملل منذ اليوم.. ونحن نسوق الحديث هنا إلى الناس بوجه عام، وإلى المسلمين بوجه خاص، وإلى أصحاب الطرق والمتطرقين من المسلمين بوجه أخص..".. ويقول في موضع اخر: "ونحن ندعو جميع أصحاب الطرق إلى العودة إلى طريقة الطرق ـــ طريقة مُحمّد ـــ إذ بتقلّيد مُحمّد تتوحد الأمة ويتجدّد الدين، ونحـن، إذ نخـرج هذا النمـوذج من طريقة مُحمّد، إنما نفعـل ذلك على سبيل المثال، لا على سبيـل الاستقصاء، وهـو نموذج قـد يغني كثيرا من السالكيـن، ريثما تتفتح لهم آفاق الحقيقة المُحمّدية.. إننا نوصي بإدمان الاطلاع، على كتب الأحاديث، وكتب السيرة، ونخص بالذّكر صحيح البخاري، لمن أراد أن يتوسع عما جاء في هذا النموذج.. والله ولي التوفيق..".. ويقول: "إن مُحمّدا هو الوسيلة إلى الله وليس غيره وسيلة منذ اليوم.. فمن كان يبتغي الي الله الوسيلة التي توسله وتوصله إليه، ولا تحجبه عنه أو تنقطع به دونه، فليترك كل عبادة هو عليها اليوم وليقلّد مُحمّدا، في أسلوب عبادته وفيما يطيق من أسلوب عادته، تقلّيدا واعيا، وليطمئن حين يفعل ذلك، أنه أسلم نفسه لقيادة نفس هادية ومهتدية.. إن على مشايخ الطرق منذ اليـوم، أن يخرجوا أنفسهم من بين الناس ومُحمّد، وأن يكون عملهم إرشاد الناس إلى حياة مُحمّد بالعمل وبالقول فإن حياة مُحمّد هي مفتاح الدين.. هي مفتاح القرآن، وهي مفتاح (لا إله إلا الله) التي هي غاية القرآن، وهـذا هو السـر في القـرن في الشهادة بين الله ومُحمّد (لا إله إلا الله مُحمّد رسول الله)..".. وهذا ما يقوم به الأستاذ محمود مع تلاميذه، فهو مرشدهم ومسلكهم في طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قد اخرج نفسه من بينهم وبين محمد.. فهو ليس شيخ طريقة، وإنما هو داعية لأن يكون المعصوم شيخ الجميع.. قلنا ان الصوفية هم انصار السنة النبوية الحقيقيون.. فمنهجهم يقوم على العمل في التقوى (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).. وهذا هو منهج الدين الوحيد، الذي لا منهج غيره.. هذا هو اصل اللقاء بين الأستاذ محمود والصوفية بصورة عامة وبصورة مبدئية.. لكن لحق بالتصوف الكثير من التبديل، وفقد مكانته التي كان عليها، ومدده الذي كان يمد به اصحابه.. ومع ان الصوفية كانوا على السنة بصورة مبدئية في الجوهر إلا أنهم ادخلوا منذ البداية على السنة اموراً ليست منها.. مثل السبحة والاوراد المحددة والتي لا تقوم على عمل النبي في خاصة نفسه، والتي تختلف من صاحب طريقة إلى صاحب طريقة أخرى.. كما ادخلوا على السنة الموسيقى والطرب واستخدموا آلآت مثل الطبل والمزمار والطنبور ... الخ.. كما أن علاقة الاتباع بمشايخهم لا تقوم على السنة، كما كانت علاقة الاصحاب بالنبي الكريم، وإنما ادخلوا صورا من الأدب لاعانة المريدين على السلوك.. إلى غير ذلك من مخالفة للسنة.. وقد سميت هذه البدع، بالبدع الحسنة، وهي عندهم مأذونة، وقد لعبت دورها في تقريب الناس للدين، في الوقت الذي سادت فيه الامية.. اما اليوم فالوقت للسنة دون حاجة لأي زيادات.. الوقت للطريق الواحد (طريق محمد) عليه الصلاة والسلام.. فقد جعل مشائخ الطرق الصوفية انفسهم بين النبي والاتباع: "لا اله الا الله، محمد رسول الله، والجيلاني، او الشاذلي، او غيرهما، ولي الله..".. وقد آن الاوان ليخرج المشائخ انفسهم من بين النبي والناس، كما طلب إليهم الأستاذ محمود..

كما انه من الاختلافات الهامة، بين دعوة الأستاذ محمود للسنة، ودعوة الطرق الصوفية، ما كان يجري علي يدي رجال التصوف من كرامات، وخرق للعادات.. فالأستاذ محمود حريص جدا على أن ألا تظهر عليه ولا على أحد من تلاميذه أي كرامات.. وهذا عنده أمر أساسي، لاعتبارات أهمها ان الكرامة ترسخ العقيدة على حساب الفكر.. الأستاذ محمود يريد للناس أن يجيئوا للدين من خلال عقولهم، وعنده هذا ما يناسب أصل الدين، ويناسب العصر.. عنده الكرامة إنما هي للفكر فوق كل شيء.. والخوارق تؤدي إلى الانصراف عن الفكر إلى العقيدة، وهذا ما لا يريده الأستاذ.. وهنالك الكثير الذي يمكن أن يقال في هذا الصدد..

اعتقد أنه مما تقدم يتضح أن هنالك اختلاف أساسي بين دعوة الأستاذ محمود لبعث السنة وبين التصوف، رغم أنهما مشتركان في الاصل الواحد.. هنالك الكثير من الغموض والابهام عند الصوفية، عند الأستاذ محمود الدين يجب ان يعود إلى بساطته، ويخاطب الناس من خلال عقولهم في بساطة ودون إبهام وغموض، ومن أجل ذلك يحاول الأستاذ محمود أن يخاطب الناس في لغة بسيطة واضحة، قدر الامكان، وهو يحاضر دائما باللهجة السودانية الدارجة، حرصا على التفهيم.. المهم أن دعوة الأستاذ محمود ليست للتصوف، وإنما للاصل الذي قام عليه التصوف _ السنة _ دون زيادة او نقصان.. فهو كما أنه يدعو لآيات الاصول، هو كذلك بالنسبة للمنهاج يدعو إلى الاصل وهو السنة.. من أجل كل ذلك أرى أن ربط الفكرة بالتصوف، بالصورة التي جرت على قلم د. جعفر، أمر يحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر.. أكرر ان حديث د. جعفر من حيث المبدأ عن علاقة الفكرة بالتصوف صحيح، ولكن بالنسبة للتفصيل فيه نظر كما ورد.

القسم الثالث

منهجية التحديث وقضاياه:

تحت ثلاثة فصول تناول د. جعفر القضايا الاساسية التي وردت في كتاب (الرسالة الثانية) بالذات.. فتحدث عن موضوع السنة والشريعة، وهو موضوع قد سبق أن تحدث عنه.. ولكنه هنا يتناوله من منظور تطوير التشريع.. فأشار إلى ان كمال الشريعة ليس في أن تكون صورة ثابتة، وإنما في أن تتطور باستمرار، لأن الجسم الحي النامي المتطور هو الكامل.. وأشار إلى أن الله تعالى لا يشرع لكمالاته هو، ولا لكمالات نبيه، وانما يشرع لضعفنا نحن، ليطورنا من الضعف إلى القوة.. فحكمة التشريع في ان ينزل إلى أرض الناس، ويخاطبهم في مستواهم البشري الاجتماعي والمادي.. ثم اشار إلى تطوير التشريع، وذكر أن القصاص والحدود والعبادات لا يدخلها تطوير.. ثم تناول مفهوم الحضارة والمدنية، كما ورد في كتاب الرسالة الثانية، وفرق بينهما.. ثم كعادته، ذهب إلى مقارنات مع افكار مفكرين آخرين، وتعرض لنقد الأستاذ محمود للقيم المادية للحضارة الغربية.. ثم تحدث عن مفهوم الحرية عند الأستاذ محمود.. وتناول موضوع (إرادة الحياة) و (إرادة الحرية)، وبيّنهما كما هما في كتاب الرسالة الثانية.. وذهب ليتناول موضوع الجبر والاختيار، كما ورد في كتابي (الرسالة الثانية من الإسلام) و(القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري).. ثم رجع إلى مفهوم (الحرية الفردية المطلقة)، وهذا ساقه للحديث عن الانانية العليا والانانية السفلى.. ثم تعرض لمفهوم القانون وربطه بالتسيير والتخيير، فنقل عن الأستاذ محمود قوله: (فأما القانون العام فإن به تم تسيير المادة غير العضوية، وتسيير المادة العضوية، إلى أن بلغت هذه أدنى منازل العقول .. والقاعدة القانونية فيها قوامها: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).. وأما القانون الخاص فقد دخل مسرح الحياة بعيد ظهور العقل.. والقاعدة القانونية فيه قوامها (الحلال، والحرام) .. وهو محاكاة محكمة للقانون العام، فإنه في مقابلة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، فقد جاء بقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ.. وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ.. وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ.. وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ.. وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ.. فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ.. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)..).. إلى ان يقول د. جعفر : وهنا تأتي الحرية المقيدة بقوانين دستورية والحرية المطلقة من داخل القانون الخاص بالنسبة له، اذ يقول: (والقانون الخاص نفسه يقع في مستويين، مستوى الشريعة العامة، ومستوى الشريعة الخاصة.. فاما الشريعة العامة فهي للمجتمع.. واما الشريعة الخاصة فهي للافراد.. وهذه الاخيرة ادخل في القواعد الخلقية، منها في القواعد القانونية.. وهي بذلك تتسامى بالتجويد والاحسان، والتسيير فيها، ومن ثم ينفتح على التخيير، وذلك بفضل الله، ثم بفضل العلم الذي عصم الافراد الذين يعيشون في مستواها _الاخلاق_ عن التورط في مخالفة القواعد القانونية التي ترعى حقوق الجماعة في مضمار الشريعة العامة..).. وهكذا استطاع د. جعفر ان يلتقط الربط الدقيق بين المدنية والاخلاق، وبين الاخلاق والحرية، وبينهما جميعا وبين التسيير والتخيير، بالصورة التي وردت في كتاب الرسالة الثانية.. ثم تناول موضوع الحرية المقيدة كوسيلة للحرية الفردية المطلقة.. واورد قول الأستاذ: (والحريتان متداخلتان، فالأولى منهما مرحلة اعداد للثانية، إذ لا يبلغ الفرد منازلها إلا بالتمرس بالمجهود الفردي في تربية النفس، بمراقبتها، ومحاسبتها، وترويضها لتصبح موكلة بالتجويد، كلفة بالإحسان. والمراقبة تعني الحضور مع الله دائما حتى لا تتصرف الجوارح فيما لا يرضيه، من فكر، أو قول، أو فعل، والمحاسبة تعني استدراك ما أفلت من ضبط المراقبة، ولما كانت الحرية الفردية المطلقة لا تنال إلا بثمنها، وثمنها، كما قررنا آنفا، هو حسن التصرف في حرية الضمير المغيب، وحرية القـول، وحريـة العمـل، فقد طوع الإسلام عباداته، وتشاريعه، لتبلغ بالفرد هذا المبلغ..).. ثم وضع د. جعفر القضايا المذكورة اعلاه في رسم توضيحي حتى يسهل ادراكها.. ثم تناول قضية خط التطور وارتباطها بتطور التشاريع.. وبين كيف ان الناس ملطف عليهم كلما اصبحوا لطفاء واعين.. وفصل بعض الشيء في امر تحقيق الحرية الفردية المطلقة، عن طريق تحقيق العبودية لله.. ثم تحدث عن درجات السلم السباعي للاسلام.. وتناول مرحلتي أمة المؤمنين وامة المسلمين، والحديث عن تطوير التشريع.. ثم في الفصل الثاني تحدث عن ما اسماه (منطق التحديث ومعالم الشريعة العصرية).. فتناول وسطية الإسلام بين اليهودية والمسيحية.. ثم تناول موضوع الخير والشر وموضوع الاخلاق.. وتحدث بصورة محددة عن رأي ولتر ستيس في موضوع نسبية الاخلاق، ثم تحدث عن التوحيد، وكلمة التوحيد (لا اله الا الله) والتي هي اصل الدين.. اصل الإسلام.. وهي مراد القرآن.. فالقرآن كله يلف حول (لا اله الا الله) .. ايات القرآن موظفة لتجذب كل انسان ينحرف عن التوحيد، بالوعد والوعيد، لتجذبه لتحقيق التوحيد.. اورد د. جعفر قول الأستاذ: " مركز القرآن (لا إله إلا الله) ولأنها أصل الدين قامت عليها كل الرسالات.. والحديث النبوي: (خير ما جئت به، أنا والنبيون من قبلي، (لا إله إلا الله)) قالها آدم، وكل المرسلين، إلى نبينا.. و (لا إله إلا الله) تظل سير الخلائق.. الأبدي.. الأزلي.. السرمدي، إلى الله.. لا تنتهي.. الناس في الدنيا يمشوا لي الله بلا إله إلا الله.. وفى البرزخ يمشوا لى الله بلا إله الا الله.. وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار يمشوا لى الله بلا إله الا الله.. هي سرمدية.. وهي، في الحقيقة، في السماء عند الله، في إطلاقه، نهايتها، ولذلك فليست لها نهاية..".. ويمضي د. جعفر ليقول: (ولما كانت لا اله الا الله بالنسبة له هي جوهر الإسلام، فانها غير قابلة للتطور، لانها ثابتة، عقيدة كونية سرمدية، لا حراك لها، لانها اصل بعثة الانبياء وأصل التواصل التعبدي مع الله، ولكن الشريعة هي التي تتطور، يقول الأستاذ طه: "ومع ان الشريعة تتطور، الا ان الإسلام لا يتطور، وذلك لانه سرمدي لا يتناهى.. ففي الارض بدايته ونهايته عند الله في علياءه..".. ثم يذهب د. جعفر إلى مناقشة بعض القضايا المتعلقة بالموروث الثقافي العربي الإسلامي، ويتعرض لبعض المفكرين العرب امثال الجابري وبسام الجمل، ويناقش قضية قفل باب الاجتهاد، وقضية مقاصد الشريعة.. ومناقشة هذه القضايا بشيء من التفصيل.. إلى ان يصل إلى موقف علماء الدين ويلخصه في نقاط.. في النقطة الرابعة من نقاطه هذه يقول: (وينفرد محمود محمد طه، بموقف جريء عبر عنه في كتابه الرسالة الثانية من الإسلام ودفع حياته ثمنا له.. ويتمثل في ان الرسالة المحمدية كانت رسالة عامة إلى كل البشر في العهد المكي، وانها كانت رسالة خاصة بمعاصري النبي في الفترة المدنية.. ولذا يتعين في نظره طرح ما في الرسالة الخاصة من احكام كانت مناسبة لاوضاع الناس في بداية القرن السابع الميلادي، ولم تعد ملائمة لأوضاعهم في النصف الثاني من القرن العشرين، والعودة إلى الرسالة العامة التي تبقى صالحة مهما تغيرت الظروف..).. ثم يذهب ليتحدث عن نصر حامد ابو زيد واركون، ويقارن طرحهما بطرح الأستاذ، فيقول: (وعلى الرغم من تشابه منطلقات نصر حامد ابو زيد ومحمد اركون في التعامل مع النص القرآني بوصفه نصا ثقافيا فحسب، من دون الالتفات إلى القدسية التي يعتمدها وتشكل منطلق الأستاذ طه، الا ان كليهما لم يقدما بديلا من داخل القرآن او من خارجه لأهمية ما اصطلح عليه ب "العقل النصوصي" المهيمن على العقل الإسلامي كما يشير أركون..).. ثم يمضي في نقد نصر حامد واركون بشيء من التفصيل.. ويضيف اليهما آراء مفكرين آخرين.. اما في الفصل الثالث فيتناول ما اسماه "محمود محمد طه ومعالم الشريعة العصرية".. ويتحدث عن القرآن المكي والمدني، والاصول والفروع، ويورد بعض اقوال الأستاذ محمود في هذا الصدد.. ثم يتحدث عن الإسلام العام، اسلام الارادة، والإسلام الخاص اسلام البشر، ليعود للحديث عن المستويين في القرآن.. ويتناول في هذا الفصل موضوع التعارض بين العقل الباطن والعقل الواعي، والتعارض بين الفرد والمجتمع، ليبين ان حل هذا التعارض عند الأستاذ يتم بوسيلتين: (اولاهما وسيلة المجتمع الصالح، وثانيهما المنهاج التربوي العملي الذي يواصل به مجهوده الفردي ليتم له تحرير مواهبه الطبيعية من الخوف الموروث..). ثم يتناول قضية النسخ والارجاء بشيء من التفصيل، والمقارنة مع مفكرين آخرين، ليصل من كل ذلك إلى الحديث المفصل عن تطوير التشريع، وتحديد القضايا التي ليست اصلا في الإسلام.. ثم يتحدث عن الاحمدية والمحمدية ليصل إلى قول الأستاذ: "ويؤخـذ من دقائـق حقائق الدين أن نبينا رسول الأمتين: الأمة المؤمنة ـــ الأصحاب.. والأمة المسلمة ـــ الإخوان.. وإنه بذلك صاحب رسالتين: الرسالة الأولى مُحمّدية، والرسالة الثانية أحمدية.. أو قل الرسالة الأولى الشريعة التي فصلها للأمة، والرسالة الثانية السنة التي أجملها، ولم يفصّلها إلا في معنى ما مارسها، وعاشها دما ولحما..".. ثم ذهب ليتناول قضية الاصول والفروع كما وردت في كتاب الرسالة الثانية.. وبدأ بموضوع الجهاد ليس اصلا في الإسلام.. واورد أن الأصل في الإسلام هو ان كل انسان حر، إلى أن يظهر عمليا عجزه عن التزام واجب الحرية، ذلك بأن الحرية حق طبيعي، يقابله واجب حسن الاداء.. وهو حسن التصرف في الحرية، فإذا ظهر عجز الحر عن التزام واجب الحرية صودرت حريته عندئذ بقانون دستوري.. والقانون الدستوري هو الذي يوفق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة.. وهذا القانون هو قانون المعاوضة.. ثم اورد اراء العديد من المفكرين حول النسخ.. وذهب إلى موضوع الرق ليس اصلا في الإسلام، واورد ان (الأصل في الإسلام الحرية، ولكنه نزل على مجتمع الرق فيه جزء من النظام الاجتماعي والاقتصادي. وهو مجتمع قد ظهر عمليا أنه لا يحسن التصرف في الحرية، مما أدى الى نزع قيام أفراده بأمر أنفسهم، وجعل ذلك إلى وصي عليهم، وقد رأينا أن هذا أدى الى شرعية الجهاد..).. ثم ذهب بنفس الصورة لمناقشة ما اسماه "التشريعات المؤقتة للمرأة" وعرضها كما وردت في كتاب الرسالة الثانية، وبالطبع، كعادته، اجرى العديد من المناقشات.. وانتهى الكتاب عند هذا الحد.

لقد اعجبت كثيرا بتناول د. جعفر للفكرة، بصورة موضوعية في كتابه المذكور.. فقد كانت رؤيته واضحة، ودقيقة، تناول القضايا التي ناقشها، كما وردت في مصادر دعوة الأستاذ محمود.. واكثر ما اعجبني في كتابة د. جعفر هو أنه وقف على البعد الديني في دعوة الأستاذ محمود، وفق رؤية واضحة وموفقة مكنته من ملاحظة تداخل القضايا وارتباطها ببعضها البعض، كما لاحظ في حديثه عن الاخلاق وعن الحرية وعن التسيير والتخيير ...إلخ.. فالمنطلق فيها جميعها هو التوحيد، ولذلك هي متداخلة، ويفضي كل منها إلى الآخر.الشيء الوحيد الذي غاب عن كتاب د. جعفر، هو موضوع الساعة واليوم الآخر والمسيح المحمدي.. فهو موضوع أساسي جدا، لأنه يرتبط بتطبيق الإسلام الذي يدعو له الأستاذ محمود.. فهذا التطبيق لا يتم إلا بمجيء الاذن الإلهي والمأذون _ المسيح المحمدي!! وقد تم التعرض لهذه القضية في كتاب "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري" في فصل "الساعة ساعتان".. ومما يزيد من أهمية الموضوع، انه يكاد يكون غائبا عند جميع المسلمين.. فلغياب فهم مثاني القرآن عندهم، هم لا يرون الا ساعة التخريب، القيامة.. اما ساعة التعمير فهي غائبة عندهم.. وكذلك الحال لفهم اليوم الآخر، مع أنه ركن أساسي من أركان الدين، فهم لا يرون سوى الآخرة _ مرحلة البعث بعد الموت.. من اجل ذلك هم لا ينتظرون أي جديد في الدين.. كما انهم لا ينتظرون أي جديد في الكمالات الانسانية.. فعندهم العصر الذهبي للاسلام هو ما تم في القرن السابع الميلادي.. هذا، مع أن العصر الذهبي للإسلام هو أمامنا، هو مرحلة تطبيق اصول القرآن _ الرسالة الثانية من الإسلام_ مرحلة امة المسلمين.. هذه المرحلة هي قمة تطور الانسانية في الارض، كما أنها قمة الإسلام.. ودعوة الأستاذ محمود محمد طه كلها عبارة عن تبشير بالعصر الذهبي للإسلام.. وهو يرى أنه وشيك جدا، وقد تمت جميع أشراطه، ولم يبق إلا الإذن الالهي به، وهذا يمكن أن يتم في اي لحظة " ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً".. دعوة الأستاذ محمود كلها تقوم على مبدأين اساسين: اصول القرآن، ومنهاج طريق محمد صلى الله عليه وسلم _ السنة.. وهما متكاملان، ومرتبطان، بالصورة التي لا يمكن معها أن يقوم أحدهما دون الآخر.. يقول الأستاذ محمود في هذا الصدد: (أمران مقترنان، ليس وراءهما مبتغى لمبتغٍ، وليس دونهما بلاغ لطالب: القرآن، وحياة محمّد.. أمّا القرآن فهو مفتاح الخلود.. وأمّا حياة محمّد فهي مفتاح القرآن.. فمن قلّد محمّداً، تقليداً واعياً، فهم مغاليق القرآن.. ومن فهم مغاليق القرآن حرّر عقله، وقلبه، من أسر الأوهام.. ومن كان حر العقل، والقلب، دخل الخلود من أبوابه السبعة.أمران مقترنان: القرآن، وحياة محمّد، هما السر في أمرين مقترنين: "لا إله إلا الله، محمّد رسول الله" لا يستقيم الأخيران إلا بالأوّلين..)..

تذكرني كتابات د. جعفر، وإخوانه واخواته من المفكرين العرب، بما كان يقوله لنا الأستاذ محمود: فقد قال لنا: الفكرة الجمهورية ستأتي للسودانيين من الخارج!! وعمل هؤلاء النفر الكرام، هو بداية ، وتصديق لما قاله لنا الأستاذ.. فالفكرة، حتى الآن، عند معظم السودانيين، هي ما يقوله عنها خصومها بكل ما في قولهم من كذب، ومبالغة في التشويه.. من اجل ذلك معظم السودانيين لا يكادون يعرفون شيئا عن دعوة الأستاذ محمود عن بعث الإسلام.. ولابد لهم من أن يعرفوا، وها هي ارهاصات معرفتهم للفكرة قد بدأت!!

هذا والله ولي التوفيق

 

بقلم : خالد الحاج عبد المحمود

...........................

* الاستاذ :خالد الحاج عبدالمحمود (أحد تلامذة المفكر السوداني الاستاذ محمود محمد طه)

رفاعة/السودان

 

 

في المثقف اليوم