قراءة في كتاب

أحمد محمود الجزار ومنهج الكشف عند صوفية الإسلام (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن أحمد محمود الجزار ومنهج الكشف عند صوفية الإسلام، حيث تظهر لنا دقة اختيار الدكتور أحمد الجزار لعنوان الكتاب ومصداقيته في الدلالة علي موضوعه والغرض منه، حيث يقول :" إن نشأة المنهج في أي علم وثيقة الصلة بنشأة العلم وتطوره . والتصوف كعلم شأنه شأن غيره من العلوم الإسلامية لم ينشأ دفعة واحدة، بل مر بمراحل مختلفة من التطور حتي اكتمل وأصبح علما للباطن أو المعرفة الباطنية علي نحو ما يقول الطوسي، وإذا كان التصوف قد مر بمراحل مختلفة، حتي اكتملت له مقومات العلم، أعني تمكن أصحابه من تحديد موضوع المعرفة فيه ومنهج هذه المعرفة والغاية من ورائها، فإن ذلك يستدعي أن نتتبع نشأة هذا المنهج منذ بدايات التصوف الأولي – أعني مرحلة الزهد .ذلك لأن مرحلة الزهد لا يمكن تجاهلها من هذه الناحية، إذ هي كما يري كثير من الباحثين – أقدم أنواع التصوف، بل من العسير الفصل بين الزهد والتصوف فصلا تاما في تلك المرحلة المبكرة لنشأة" .

ولعل من المفيد – قبل عرضتا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر فصول الكتاب العديدة .

وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أن دراسة منهج الكشف عند الصوفية يمثل أمرا هاما، إذ كل مكاشفاتهم أو تجلياتهم ترجع أساسا إلي هذا المنهج كوسيلة للمعرفة بالمقارنة بغيره من الوسائل كالعقل أو الحواس. فالصوفية لا يلقون إلينا بنتائج علومهم ومكاشفاتهم إلقاء دون ما طريقة أو منهج، ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه وسائل معينة يتفقون عليها في منهجهم لنيل المعرفة، أم أن الأمر عندهم لا يعدو أكثر من كونه وسائل فردية  لا رابطة فيما بينها ؟ لقد وجدت من الضروري الوقوف علي إجابة لهذا التساؤل، إذ أن ذلك ضرورة أساسية إذا أردنا أن نتعرف علي طبيعة النتائج التي ينتهي إليها الصوفية باتباعهم هذا المنهج، فمن المعروف سلفا أنها لا يمكن أن تفسر في ضوء مقولات العقل أو براهينه.

وثمة توجه آخر للمؤلف يتمثل في أنه إذا أمكن تحديد وسائل منهج الكشف عند الصوفية فإنه في هذه الحالة يمكن أن نحدد الخصائص التي تلزم عن هذا المنهج وفي ضوء تلك الخصائص يمكن أن أسهم في دحض دعاوي خصوم الصوفية ممن يقدحون في طريقتهم، وأعني بخصوم الصوفية هنا الفقهاء، إذ كثيرا ما اتهموا الصوفية، وأعني بخصوم الصوفية هنا الفقهاء، إذ كثيرا ما اتهموا الصوفية بأنهم قد اشتطوا في العقيدة، وأنهم قد تحللوا من العمل بأحكام الشريعة . ولذلك حاولت في هذا البحث الإبانة عن خطل هذا الرأي ليتضح حقيقة موقف الصوفية بالنسبة للشريعة، وضرورة العمل بها .

أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط المؤلف دراسة منهج الصوفية يمكن الإفادة من بعض جوانبه في حياتنا المعاصرة، إذ من المحقق أن التأمل الواعي لطريقة التصوف، وحياة المتحققين بمنهجه، قد يؤدي بنا إلي اكتشاف كثير من القيم والمبادئ الأخلاقي، التي تطلح ولا شك في تقويم بعض السلبيات في مجتمعنا.

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: احداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن :" الحياة الروحية أو التصوف المشروع في دين الإسلام لا يقتضي حرمانا للمسلم مما أحله الله من الطيبات بدعوي الزهد والتقشف، ولا يوجب عليه كذلك أن يهمل في مظهره بدعوي كمال مخبره فذلك كله مما لا يوجبه عليه منطق الإسلام عقيدة وشريعة، ذلك لأن الإسلام قد أباح له التجميل بأنواع الزينة والتوسع بالمشهيات علي شريطة القصد والاعتدال وحسن النية والوقوف عند الحدود الشرعية"، كما أن :" والحياة الروحية أو التصوف المشروع لا تعارض فيه مع العلم والأخذ بأسبابه من حيث إن العلم مسرح نظر العقل، والعقل قوة من أفضل القوي الإنسانية بل هي أفضلها علي الحقيقة، وقد وضع العليم لذة كما منح لكل قوة من سواها نعيما ولذة، وهذا يحتم علي الإنسان أن يسعي بكل ما أوتي من جهد للأخذ بأسباب الحياة والمكانة والرقي في الحياة الدنيوية . ولن يكون كل ذلك للإنسان إلا إذ أخذ بمنطق العقل وأداته نعني العلم وهذا هو الذي يؤكده الإسلام للمسلم، فقد سمح لنا أن يتمتع كما مر بنا من قبل بما يلذ له مع القصد والاعتدال ومن ثم أفلا يكون من لذائذ ومتمات نعيمه كما يقول محمد عبده أن يسبح في مملكة العلم ليمتع عقله كما يسبح في الأرض ليكسب رزقه وبقيت أهله.

وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها المؤلف لحن الوفاء لبعض أساتذته الذين أفادوه في الدخول لعالم التصوف وأخص بالذكر الدكتور أبو الوفا التفتازاني والذي قرأ له المؤلف كل كتاباته كتبه ومنها كما يذكر المؤلف : كتاب " ابن عطاء الله السكندري وتصوفه " والذي نشر سنة 1958)، ثم كتابه "" ابن سبعين وفلسفته الصوفية "" والذي نشر له دار الكتاب اللبناني، بيروت، سنة 1973، وكان الدكتور التفتازاني قد أعاد دراسة ابن سبعين مرة ثانية في الكتاب التذكاري عن السهروردي في بحثه " ابن سبعين وحكيم الإشراق" ونشر في معجم أعلام الفكر الإنساني، القاهرة سنة 1974م، وكتابه " مدخل إلى التصوف الإسلامي " الذي صدر عن دار الثقافة للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1976. علاوة علي أن كانت له بحوث ودراسات غزيرة استفاد منها الدكتور الجزار،  حيث ذكر لنا المؤلف بأنها قد نشرت في العديد من المجلات، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر ما يلي :" الإدراك المباشر عند الصوفية"، مجلة علم النفس، العدد الثالث، سنة1949، و" سيكولوجية التصوف"، مجلة علم النفس، عدد أكتوبر، سنة 1949، و" المعرفة الصوفية، أدلتها ومنهجها وموضوعها وغايتها عند صوفية المسلمين "، مجلة الرسالة، القاهرة، سنة 1950، و" الطرق الصوفية في مصر "، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، عدد ديسمبر سنة 1963، و" حكم ابن عطاء الله السكندري "، مجلة تراث الإنسانية، عدد أبريل، سنة 1965، و" نظرة إلى الكشف الصوفي"، مجلة الفكر المعاصر، عدد ديسمبر، سنة 1967، و" الطريقة الأكبرية " العدد التذكاري عن ابن عربي 1969، و" ابن الفارض سلطان العاشقين "، مجلة الهلال، سنة 1973، و" حقائق عن الصوفية " مجلة الهلال في عدد خاص عن التصوف، يونيو سنة 1985.

وأما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في تأثره الشديد بالدكتور عاطف العراقي خاصة في نظرته وأفكاره النقدية واحتفائه بالعقل في كل ما يطرح من قضايا وما يثيره من إشكاليات، سواء كانت هذه الأطروحات مستقاه من لمحات تراثية أو مستمدة من وقائع وطواهر فكرية وثقافية معاصرة . ونعتقد بيقين أن المؤلف بنزعته هذه يحقق درجات عالية من المصداقية في كل ما يقدمه لنا في هذا الكتاب من حيث تنطلق هذه النزعة أساسا من رفضه للثقافة السائدة لكونها في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية غلي الجمود والانغلاق، ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفا ونكوصا في مجملها مدفوعة بالسطحية، داعمة للفكر الرجعي، داعية إلي الجمود والانغلاق . ومن ثم فإنها لم تثمر إلا تخلفا ونكوصا يضاعف أبعاد المسافة بيننا وبين الحضارة والفكر العالمي المعاصر، ويند آمالا وأحلاما لنا مشروعة في التغيير إلي ما هو أفضل.

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي المؤلف وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج الدكتور أحمد الجزار في معالجته لقضية منهج الكشف عند الصوفية خلال أبواب وفصول هذا الكتاب، منهجا تاريخيا في كل فصول الرسالة، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي، بمعني أنه كان معنيا بتحليل أقوال الصوفية فيما يتعلق بالمنهج ووسائله ووسائل التحقق به عند كل الصوفية لا عند صوفي بعينه.

كما اعتمد الدكتور الجزار في دراسته لهذا الموضوع علي المصادر الأصلية لشيوخ الصوفية المتقدمين منهم والمتأخرين، حيث يري أن اعتماده علي هذه المصادر لم يكن يقصد به أساسا الدراسة، ولذلك اختار الدكتور الجزار بعض النماذج من صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين، كما عرض لبعض أقوال صوفية القرن الخامس الهجري، وقد اختار الغزالي كممثل لهذه الفترة باعتباره أكبر صوفية هذا العصر تأثيرا في مسار الحركة الصوفية، أو علي وجه التحديد فيما عرف باسم التصوف السني . كما حاول المؤلف أيضا الإلمام بمفهوم منهج الكشف عند صوفية القرنين السادس والسابع الهجريين، وفي هذا الصدد عرض لمنهج الإشراق عند السهروردي المقتول، ثم انتقل إلي تحديد مفهوم منهج الكشف عند ابن الفارض، ثم منهج الكشف لدي محي الدين ابن عربي، باعتباره من أكبر الشخصيات التي أثرت في تاريخ التصوف الإسلامي بمنهجه في وحدة الوجود وهو في الوقت نفسه يمثل نموذجا لما أصطلح علي تسميته باسم التصوف الفلسفي.

يقع الكتاب الذي بين ايدينا في مائة وتسعة وتسعون صفحة موزعة علي أربعة فصول وخاتمة وقد سبقت تلك الفصول الأربعة مقدمة أبرز فيها المؤلف نواحي الأهمية من وراء دراسة هذا الموضوع .

أما الفصل الأول فيتناول نشأة الكشف عند الصوفية، ويحاول المؤلف أن يركز هدفه الأساسي في هذ الفصل في معالجة قضية منهج الكشف الصوفي، وقد مهد لذلك الفصل ببيان بعض المعاني كما وجدت فيما بعد عند الصوفية، ثم انتقل بعد ذلك إلي محاولة التعرف علي بعض معاني الكشف عند الزهاد المتأخرين، ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلي تحديد مفهوم الكشف عند أوائل الصوفية، حيث بين أنها تكشف عن اتجاه جديد للتصوف من حيث نزوعه إلي المعرفة . كما عالج المؤلف في هذا الفصل أيضا التفرقة بين الظاهر والباطن عند الصوفية، كما أبرز الأهمية المنهجية لهذه التفرقة باعتبارها تشير إلي تميز التصوف كعلم للمعرفة الباطنية بالمقارنة بعلم الفقه الذي يقف عند ظواهر العبادات .ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلي تحديد طبيعة المعرفة الصوفية وآدابها ومنهجها عند صوفية القرنين الثالث والرابع الهجريين، حيث بين كيف أن صوفية هذه الفترة قد تمكنوا من تحديد طبيعة منهج الكشف وبيان وسائل التحقق بمعرفته. كذلك حاول المؤلف الإلمام بالتطور الذي لحق بمنهج الكشف علي يد صوفية القرن الخامس الهجري حيث عرض لمفهوم المنهج بالتفصيل عند الغزالي، أما القرنين السادس ولسابع الهجريين فقد عرض فيهما منهج الكشف عند السهروردي المقتول ثم انتقل بعد ذلك إلي الحديث عن منهج الكشف عند ابن الفارض وأخيرا اختتم المؤلف هذ الفصل ببيان مفهوم منهج الكشف عند حي الدين ابن عربي .

وأما الفصل الثاني فيخصصه المؤلف عن " وسائل التحقق بالكشف" . وفي هذا الفصل عالج المؤلف وسائل الصوفية المختلفة في التحقق بمعرفة الكشف، حيث بين المؤلف أولا أن مجاهدة النفس هي وسيلة أساسية عند الصوفية للتحقق بمعرفة الكشف، وفي هذه الناحية عرض المؤلف لمفهوم النفس ومعني مجاهدة النفس ووسائل التحقق بمفهوم المجاهدة للنفس، وفي هذا الصدد أبرز المؤلف أهمية الرياضيات التي يستعين بها الصوفية لتحقيق مجاهدة النفس، ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لبيان أهمية مرحلة المقامات والأحوال كوسيلة للتحقق بالكشف، ولم يفصل المؤلف القول في كل المقامات والأحوال، بل اقتصر علي ذكر المقامات أو الأحوال التي تسهم في التحقق بمعرفة الكشف، ثم انتهي المؤلف إلي أن نهاية الطريق أو التحقق بالكشف يتم عند الصوفية من خلال الفناء في الذات الإلهية، ففي هذه الحالة يتحقق للصوفي معني الكشف أو الشهود، ولذلك أوضح المؤلف مدي الارتباط بين الفناء والتحقق بمعرفة الكشف عند الصوفية.

ثم يعرج المؤلف إلي الفصل الثالث، ليتحدث عن " الكشف والوجود، حيث بين في أول هذا الفصل أن المعرفة للذات الإلهية والتحقق بها عن طريق الكشف هو عين التوحيد عند بعض الصوفية، وفي هذا الصدد عرض المؤلف لمفهوم الفناء والتوحيد عند بعض الصوفية المتقدمين وقد أخذ المؤلف أبا سعيد الخراز وأبو القاسم الجنيد كمثال لهذا النوع من الفناء علي أن بعضا من الصوفية قد انتهي من فنائه إلي الاتحاد والحلول، وفي هذه الحالة فإن العلاقة بين الذات الإلهية والذات الإنسانية تأخذ شكلاً مغاير بالتزامه بمفهوم الفناء عند الجنيد ومن سبقوه، ولبيان هذه الناحية تناول المؤلف أقوال البسطامي والحلاج كمثالين لهذا النوع من الفناء، حيث حلل هذه القوال وأظهر طبيعتها من خلال طبيعة منهج الكشف الصوفي . كما عرض المؤلف في هذا الفصل أيضا للصلة بين الكشف والتحقق لوحدة الوجود عند الغزالي، حيث أبرز المؤلف أهمية الغزالي بالمقارنة بمن سبقوه من الصوفية في هذه الناحية، كذلك عرض المؤلف في ختام هذا الفصل للصلة بين الكشف ومذهب وحدة الوجود الذي انتهي إليه ابن عربي، وقد بين المؤلف في هذا الصدد طبيعة العلاقة بين الذات الإلهية والذات الإنسانية في مذهبه.

أما الفصل الرابع والأخير من هذا البحث قد جعله المؤلف تحت عنوان " الكشف والسلوك"،وفي هذا الفصل حاول المؤلف أن يمهد ببيان الارتباط الوثيق بين المعرفة والأخلاق عند الصوفية، من حيث أن المعرفة في جانب من جوانبها عندهم ذات مضمون أخلاقي واضح . ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن الكشف الصوفي كأداة دقيقة للتمييز بين الصواب أو الخطأ في مجال السلوك . وقد أظهر المؤلف أن الكشف من هذه الزاوية أداة موثوق بها فيما تصدره من أحكام، لأن المتحقق بمعرفة الكشف يصدر أحكامه عن نور المعرفة عن الله مباشرة، كما بين المؤلف أيضا في هذا الفصل التلازم بين الكشف والتحقق بالسلوك حيث أوضح أن السلوك الصوفي هو نتيجة تلزم مباشرة عن التحقق بمعرفة الكشف، وقد بين المؤلف في هذه الناحية بعض المعاني الخلقية للسلوك الصوفي باعتباره أن أصحابها يتحققون بها لسبق تحققهم بمعرفة الكشف أو العيان، كما حرص المؤلف أيضا في هذا الفصل علي بيان أهمية التجربة الصوفية وقيمتها في تعميق بعض المفاهيم والمعاني الخلقية كامتداد للارتباط بين الكشف وبين التحقق به في مجال السلوك أو العمل .

وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب "منهج الكشف عند صوفية الإسلام" لأحمد الجزار، سياحة عقلية خالية من أي تعصب، بعيدة عن أي إسفاف، مجردة من أي هوي، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ التصوف الإسلامي نقف من خلالها مع المؤلف علي كيف يعد التصوف علم ذوقي بمعني أن أصحابه يسعون إلي ذوق الحقيقة وكشفها عيانا أو مشاهدة والحقيقة ان الصوفية هر معرفة الذات الإلهية، وإذا كان التصوف علما بهذا المعني، فإن ذلك يعني أن له موضوعا يعمد أصحابه إلي الكشف عنه، بل متي كان له موضوع فإنه لا بد أن يكون له منهج .

وأخيراً وليس آخراً أقول إنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب الجاد الذي رجع صاحبه لكل الأصول المتاحة، وهي هائلة كماً وكيفاً وتقصت حقيقة كل ما له علاقة بمنهج الكشف في تراثنا الصوفي العربي – الإسلامي، واجتهد في التأويل والتفسير، ونقل إلينا دهشته وشغفه فشاركناه مشواره، وأحسب أن هذا الكتاب فريدا في منحاه ومنهجه في كتاباتنا العربي، فهو ليس تأريخاً سردياً، وإنما هو تأريخ لحقبة من الفكر في تراثنا العربي – الإسلامي من خلال دراسة التصوف من زاوية المنهج علي جانب الأهمية، إذ أن تحليل طبيعة المنهج عند الصوفية والإبانة في الوقت نفسه عن وسائل التحقق للمعرفة التي ينزع إليها أصحاب هذا المنهج هذه الناحية تمثل زاوية علي جانب كبير من الأهمية من زوايا علم التصوف كعلم للمعرفة.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن هذا الكتاب كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت في عنوان الكتاب بأن أحمد الجزار - مؤلف الكتاب يعد بالفعل في مرحلتنا الراهنة "أيقونة الروحانيات في زمن الماديات".

فتحية طيبة للدكتور أحمد الجزار التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم