قراءة في كتاب

إبراهيم بيومي مدكور ومنهجه في دراسة تأريخ الفلسفة الإسلامية (3)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن منهجه أستاذنا الدكتور إبراهيم بيومي مدكور في دراسة تأريخ الفلسفة الإسلامية؛ حيث ننا قش هنا موقفه من ( الفلسفة الإسلامية.. الأصالة والسمات)؛ إذ يقول سيادته:" «وضعت الفلسفة الإسلامية موضع الشك زمناً، فأنكرها قوم وسلَّم بها آخرون، وكانت موجة الشك فيها طاغية طوال القرن التاسع عشر، فظن في تحامل ظاهر أن تعاليم الإسلام تتنافى مع البحث الحر والنظر الطليق، وأنها تبعاً لهذا لم تأخذ بيد العلم، ولم تنهض بالفلسفة، ولم تنتج إلَّا انحلالاً موغلاً، واستبداداً ليس له مدى، في حين أن المسيحية كانت مهد الحرية، ومنبت النظم النيابية، وقد صانت ذخائر الفنون والآداب، وبعثت العلوم بعثاً قويًّا، ومهدت للفلسفة الحديثة وغذتها".

وعندما تتبع مدكور تطور اتجاهات النظر تجاه الفلسفة الإسلامية ما بين القرن التاسع عشر الذي طغت فيه موجة الشك وما بعده، وجد أن هناك تطوراً حصل في القرن العشرين حيث أخذ الباحثون يتعرفون على الدراسات الإسلامية أكثر من ذي قبل، ويدركون ما لهذه الدراسات من طابع خاص ومُميَّز، وكلما ازدادت معرفتهم بها، وقربهم منها استطاعوا الحكم عليها بوضوح وإنصاف.

واليقين الذي وصل إليه الدكتور مدكور في عصره، هو «أن الإسلام ليس ديناً فقط، بل هو دين وحضارة، وهذه الدراسات على تعدد مصادرها، وتباين المشتغلين بها قد تأثرت ولا شك بالحضارة الإسلامية، فهي إسلامية في مشاكلها والظروف التي مهدت لها، وإسلامية أيضاً في غاياتها وأهدافها، وإسلامية أخيراً بما جمعه الإسلام في باقتها من شتى الحضارات ومختلف التعاليم.. نعم هناك فلسفة إسلامية امتازت بموضوعاتها وبحوثها، بمسائلها ومعضلاتها، وبما قدمت لهذه وتلك من حلول. فهي تُعنى بمشكلة الواحد والمتعدد، وتعالج الصلة بين الله ومخلوقاته، التي كانت مثار جدل طويل بين المتكلمين، وتحاول أن تُوفِّق بين الوحي والعقل، بين العقيدة والحكمة، بين الدين والفلسفة، وأن تُبيِّن للناس أن الوحي لا يناقض العقل، وأن العقيدة إذا استنارت بضوء الحكمة تمكنت من النفس، وثبتت أمام الخصوم، وأن الدين إذا تآخى مع الفلسفة أصبح فلسفيًّا كما تصبح الفلسفة دينية. فالفلسفة الإسلامية وليدة البيئة التي نشأت فيها، والظروف التي أحاطت بها، وهي كما يبدو فلسفة دينية روحية وذلك حسب ما قاله الأستاذ زكي الميلاد.

لهذا كله فليس ثمة شك عند مدكور في أن هناك فكراً فلسفيًّا نبت في الإسلام له رجاله ومدارسه، مشاكله ونظرياته، وله خصائصه ومميزاته، ومن أبرز هذه الخصائص في نظره ما يلي:

أولاً: إنها فلسفة دينية وروحية، تقوم على أساس من الدين، وتعول على الروح تعويلاً كبيراً، هي فلسفة دينية لأنها نشأت في قلب الإسلام، وتربَّى رجالها على تعاليمه، وأُشربوا بروحه، وعاشوا في جوِّه، وجاءت امتداداً لأبحاث دينية ودراسات كلامية.

وما من فلسفة دينية إلَّا وللروح فيها نصيب ملحوظ، والأديان تخاطب القلوب عادة قبل أن تخاطب العقول، وفي نظر فلاسفة الإسلام أن الروح مصدر الحياة والحركة والإدراك.

بهذا الطابع الديني والروحي استطاعت الفلسفة الإسلامية أن تقترب من الفلسفة المدرسية، بل وتتلاقى مع بعض الفلسفات الحديثة والمعاصرة.

ثانياً: إنها فلسفة عقلية، تعتد بالعقل اعتداداً كبيراً، وتُعوِّل عليه التعويل كله في تفسير مشكلة الألوهية والكون والإنسان، فبالعقل نعلل ونبرهن، وبه نكشف الحقائق العلمية، فهو باب هام من أبواب المعرفة، وليست المعارف كلها منزلة بل منها ما يستنبطه العقل، ويستخلص من التجربة.

ثالثاً: إنها فلسفة توفيقية، توفق بين الفلاسفة بعضهم وبعض، ويعد التوفيق بين أفلاطون وأرسطو أساساً من الأسس التي قامت عليها الفلسفة الإسلامية، والأساس الثاني هو التوفيق بينها وبين الدين، حيث حاولت في جد التوفيق بين العقل والنقل، وجميع فلاسفة المسلمين دون استثناء اشتغلوا بهذا التوفيق من الكندي إلى ابن رشد، وبذلوا فيه جهوداً ملحوظة، وأدلوا بآراء لا تخلو من جدة وطرافة، وكان لمجهودهم أثر في انتشار الفلسفة، ونفوذها إلى صميم الدراسات الإسلامية الأخرى.

رابعاً: إنها فلسفة وثيقة الصلة بالعلم، تغذيه ويغذيها، وتأخذ عنه ويأخذ عنها، ففي الدراسات الفلسفية علم وقضايا علمية كثيرة، وفي البحوث العلمية مبادئ ونظريات فلسفية، لهذا فإن فلاسفة المسلمين كانوا يعتبرون العلوم العقلية جزءاً من الفلسفة، وعالجوا مسائل في الطبيعة كما عالجوا مسائل في الميتافيزيقا.

هذه هي أبرز خصائص الفلسفة الإسلامية كما شرحها الدكتور مدكور في الجزء الثاني من كتابه.

وعن موقف مدكور من الفلسفة الإسلامية.. البيئات والمجالات أكد أن هناك ثلاث بيئات في المجال الإسلامي عُنيت بالفكر الفلسفي وكانت متعاصرة، وأخذ بعضها عن بعض، مع ما ظهر بينها من مناقضة ومعارضة، ولن يكتمل البحث عن الفكر الفلسفي الإسلامي قضاياه ومشكلاته إلَّا باستعراض هذه البيئات الثلاث، وهي:

أولاً: البيئة الكلامية، وتشمل إسهام وعطاء الشيعة وأهل السنة، فللشيعة في نظر مدكور متكلموهم الذين لا يقلون أحياناً عن متكلمي أهل السنة عمقاً وقوة عارضة، وتشمل هذه البيئة أيضاً بعض الفرق الصغيرة كالخوارج والمرجئة التي لها آراء كلامية خاصة بها.

ثانياً: بيئة الفلاسفة الخلّص، وهم الذين يمثلون المدرسة المشائية العربية التي تأثرت بأرسطو ورجعت إليه، وإن اختلفت عن الأرسطية بعض الشيء.

ثالثاً: بيئة المتصوفة، وهي البيئة التي قُدِّر لها -كما يقول مدكور- أن تحمي الفكر الفلسفي في الوقت الذي أعرضت فيه الجماهير عنه تحت تأثير حملة عنيفة معادية، فقد عاشت الفلسفة زمناً في كنف التصوف، كما عاشت في كنف علم الكلام، ويمكن أن يلاحظ أن الفكر الفلسفي الفارسي مثلاً في القرون الستة الأخيرة عاش في حمى ابن سينا من جانب، والسهروردي ومحيي الدين بن عربي من جانب آخر، وقد مهَّد له فريد الدين العطار، وجلال الدين الرومي، وقطب الدين الشيرازي، فطابعه الصوفي واضح كل الوضوح.

وفي نظر مدكور أنه لم يقف الفكر الفلسفي الإسلامي عند هذه البيئات الثلاث، بل امتد في نظر مدكور إلى ميادين أخرى، منها ميادين أدبية وبلاغية ونحوية، فقد لوحظ من قديم تأثر الأدب العباسي شعراً ونثراً بالفكر الفلسفي، وهناك من الشعراء مثل المتنبي وأبي العلاء المعري اللذين اصطبغ شعرهما بالحكمة والفلسفة، وهناك من الأدباء كأبي حيان التوحيدي الذي امتلأت مجالسه بالحوار والجدل الفلسفي، وأسهم قدامة بن جعفر وعبد القاهر الجرجاني في وضع البلاغة العربية وأقاماها على دعائم تَمُتُّ بصلة إلى المنطق والفلسفة، وعلم النحو هو أثر رائع من آثار العقل العربي، وقد اكتسى بكساء فلسفي واضح ؛ ومن هذه الميادين أيضاً التي عدَّدها مدكور، ميدان علم الأصول والذي هو ضرب من مناهج البحث في التشريع الإسلامي وقد غُذِّي بغذاء فلسفي؛ ومنها كذلك ميدان العلوم، فقد تفلسف المسلمون وكانت فلسفتهم وثيقة الصلة بدراساتهم العلمية المختلفة من طب وكيمياء، وفلك ورياضة، ونبات وحيوان، وكان فلاسفتهم علماء، وعلماؤهم فلاسفة.

وعن موقف مدكور من "الفلسفة الإسلامية.. وتطور الفكر الإنساني"، فقد تحددت نظريته كما يقول د. زكي الميلاد في دراسة الفلسفة الإسلامية، في ربط هذه الفلسفة بمراحل تطور الفكر الإنساني القديم والوسيط والحديث، وعلى أساس أنها تمثل مرحلة من مراحله الهامة والمؤثرة، وحلقة من حلقاته المتصلة والفاعلة، والنظر لها بهذا النمط، ودراستها في هذا الإطار، ومن خلال هذا المنهج؛ وهذه النظرية هي التي حاول مدكور التركيز عليها، ولفت الانتباه إليها، وظل يُذكِّر بها من أول الكتاب في المقدمة إلى نهايته في الخاتمة، وقد ظل مدكور يتحدث عن هذه النظرية في مناسبات عديدة، بوصفها تمثل نظرية له في هذا الشأن، لكن من دون أن يعطيها وصف النظرية، وفي كل مرة يتطرق إليها كان يلفت النظر إلى جانب يتصل بها، لأنه لم يخصص فصلاً أو فقرة للحديث عنها، وتركها ليتحدث عنها متفرقة في فصول الكتاب حتى تسري في كل أجزائه.

والاهتمام بهذه النظرية يتأكد في تصور مدكور، من ثلاث جهات أساسية هي كما ذكر الأستاذ زكي الميلاد:

أولاً: إن الفلسفة الإسلامية ما تزال الحلقة المفقودة في تاريخ الفكر الإنساني، فحتى أربعينات القرن العشرين لم تعرف نشأتها بدقة، ولم يبين بوضوح كيفية تكوينها، ولا العوامل التي ساعدت على نهوضها، ولا الأسباب التي أدَّت إلى انحطاطها والقضاء عليها، ولم تناقش كل نظرية من نظرياتها ليتوضح ما اشتملت عليه من أفكار الأقدمين، وما جاءت به من ثروة جديدة، وأما رجالها فغرباء في أوطانهم، مجهولون لدى أقرب الناس إليهم، ولا أدل على ذلك من أن الكثيرين منا يعرفون عن روسو وسبنسر مثلاً ما لا يعرفون عن الكندي والفارابي.

ثانياً: إن الفلسفة الإسلامية تعد من أغنى الفلسفات التي عرفها التاريخ، فيها مادة غزيرة وعميقة، وفيها فكر حر طليق، أخذت وأعطت، وهي دون نزاع حلقة هامة من حلقات الفكر الإنساني، وما أجدرها أن تُدرس وتُعرف كي تبرز في مكانها اللائق.

ثالثاً: إن الفلسفة الإسلامية هي حلقة متممة لحلقات تاريخ الفكر الإنساني، وفيها أصالة، وبوسعها أن توضّح الحلقات الأخرى، وتعين على فهمها، ومن الخطأ أن تُفصل عنها، وبها تكتمل مراحل تاريخ الفكر الإنساني.

وتأكيداً لهذه النظرية وتثبيتاً لها، شرح مدكور صلة الفلسفة الإسلامية بتاريخ الفكر الفلسفي الإنساني، وتحددت في ثلاث صلات أساسية هي:

أولاً: صلتها بالفلسفة اليونانية في العصر القديم، وعن هذه الصلة يقول مدكور: «نحن لا ننكر أن التفكير الفلسفي في الإسلام قد تأثر بالفلسفة اليونانية، وأن الفلاسفة المسلمين أخذوا عن أرسطو معظم آرائه، وأنهم أُعجبوا بأفلوطين كثيراً وتابعوه في نواح عدة، ولو لم يكرر الكلام لنفذ، ومن ذا الذي لم يتتلمذ على من سبقه، ويقتفِ أثر من تقدموه؟ وها نحن أولاء أبناء القرن العشرين لا نزال عالة في كثير من المسائل على أبحاث الإغريق والرومان، غير أنا نخطئ كل الخطأ إن ذهبنا إلى أن هذه التلمذة كانت مجرد تقليد ومحاكاة، وأن الفلسفة الإسلامية ليست إلَّا نسخة منقولة عن أرسطو كما زعم رينان، أو عن الأفلاطونية الحديثة كما ادَّعى دوهيم، ذلك لأن الثقافة الإسلامية نفذت إليها تيارات متعددة اجتمعت فيها وتفاعلت، وفي هذا الاجتماع والتفاعل ما يولد أفكاراً جديدة.

ثانياً: صلتها بالفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، وعن هذه الصلة يقول مدكور إن التفكير الفلسفي الإسلامي مقارناً بالتفكير المسيحي في القرون الوسطى كان «أغزر مادة، وأوسع أفقاً، وأعظم تحرراً، وأقدر على التجديد والابتكار، وإذا ساغ لنا أن نتحدث عن فلسفة مسيحية أو إسكولائية مسيحية كما يقال، فبالأولى ينبغي أن نسلّم بوجود فلسفة إسلامية أو إسكولائية إسلامية، خصوصاً وتلك مدينة لهذه في بعثها وتوجيهها، وفي كثير من مسائلها وموضوعاتها».

ثالثاً: صلتها بالفلسفة الأوروبية في العصر الحديث، وعن هذه الصلة يقول مدكور: جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى، ولم يفكر واحد منهم في جدٍّ أن يدرس الصلة بينها وبين فلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة، لكن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس، وربما يبدو غريباً عند البعض أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام والفلاسفة المحدثين.

وبهذه الصلات الثلاث يكون الدكتور مدكور قد حدَّد وبلور نظريته في ربط الفلسفة الإسلامية بمراحل تاريخ تطور الفكر الإنساني، ويرى في هذا الربط أنه يضع الأمور في نصابها، ويُنزل الفلسفة الإسلامية المنزلة اللائقة.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن هذا الكتاب كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية.

فتحية طيبة للدكتور إبراهيم مدكور التي كان وما يزال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...........................

1- وهبة، موسي: حول كتاب ابراهيم مدكور في الفلسفة الاسلامية منهج وتطبيقه، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج 1، ع، 1978.

2- مدكور، د. إبراهيم بيومي: في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه، سميركو للطباعة والنشر، القاهرة، جزآن، 1983.

3-الميلاد، زكي: إبراهيم مدكور: ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، مجلة الكلمة، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، س 18، ع 71، 2011.

 

في المثقف اليوم