قراءة في كتاب

ماجد فخري ورحلته من الفلسفة الإسلامية إلي الفكر العربي الحديث (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن رحلة الأستاذ الدكتور ماجد فجري في كتابه عن "الفلسفة الإسلامية"، حيث أشاد بهذا الكتاب الأستاذ زكي الميلاد، حيث قال عنه بأنه هذا الكتاب يعد أحد من أهم مؤلفاته، وأكثرها شمولية وسعة من حيث القضايا والموضوعات أثارها وعالجها، ومن حيث المدى الزمني أو التاريخي الذي يشمله، وما يميز هذه المحاولة عن غيرها من المحاولات الأخرى، العربية والإسلامية وحتى الأوروبية التي تناولت تاريخ الفلسفة الإسلامية، كونها – حسب ما جاء في غلاف الكتاب – تغطي حقبة طويلة من التاريخ تمتد من القرن الثامن الميلادي إلى وقتنا الحاضر. ولا شك أن هذه ميزة تذكر لهذا الكتاب، وتميزه عن غيره من المؤلفات الأخرى التي لم تتابع تاريخ تطور الفلسفة الإسلامية إلى عصرنا الراهن.

كما أشاد به الأستاذ تمام حسان بقوله: " حين قرأت هذا الكتاب لأول مرة راعني منه موقفه من الثقافة العربية، وشق علي أن يقرأه بعض القادرين على قراءة اللغة الإنجليزية من العرب، فيعتقدون ما فيه من طعن على العرب، دون أن تكون لهم المقدرة على رد آرائه، فمعظم الذين يقرؤون الإنجليزية عندنا من غير المتعمقين في الثقافة العربية القديمة، ومن هنا لابد أن نتوقع منهم أن يكون موقفهم من آراء هذا الكتاب هو وقف القارئ العادي الذي ورد ذكره، لهذا قررت أن أترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وأن أعلق على ما يمكنني التعليق عليه من مغالطاته، ثم حين يصبح النص العربي في يد القراء، يكون من السهل على أصحاب الثقافة الإسلامية الذين لا يقرؤون الإنجليزية أن يردوا على ما في هذا الكتاب، بأكثر مما كان في طوقي أن أرد  به في هذا التقديم".

وقد أراد الدكتور فخري من هذا الكتاب أن يقدم تاريخاً جامعاً أو شبه جامع، ييسر للقارئ حسب قوله مهمة الإلمام بالفلسفة العربية الإسلامية بصورة إجمالية، ويدل على النواحي التي ينبغي مواصلة البحث والتنقيب فيها، وذلك بالاعتماد على ما نشر  إلى زمن صدور الكتاب من نصوص فلسفية محققة.

وعن منهج الكتابة في تاريخ الفلسفة، يرى الدكتور فخري أنه خلافـاً لـسرد الأخبار والروايات الفلسفية، لابد من أن يشمل هذا المنهج قدراً كبيراً من التأويـل والتقييم إلى جانب سرد الوقائع والمعلومات، وعرض القضايا، وتعداد المؤلفين، ولذلك فهو وأنه وجد من المفيد – في رأيه – إعادة النظر في نواح من هذا الموضوع قد سبقه آخرون إلى درسها، للاستفادة مما أنجزوه، وفي هذا السياق آثار في عرضه للآراء والقضايا الفلسفية آثر الاعتماد بالدرجة الأولى على نصوص الفلاسفة أنفسهم، بينما سلك في شرح المذاهب الفلسفية والآراء الكلامية مسلكاً اضطره أحياناً - كما يقول - للاستعانة بدراسات الثقات من المؤلفين المحدثين.

وأما ما يميز بها الكتاب عن سائر المؤلفات الأخرى العربية والإسلامية وحتى الأوروبية التي تناولت تاريخ الفلسفة الإسلامية، فهو في اعتقاد فخري المدى الزمني المتطاول من القرن الثامن الميلادي، إلى يومنا هذا كما سبق أن ذكرنا.

وحول موقف الدكتور فخري تجاه تراث الاستشراق وعلاقة هذا الموقف بكتابـة تاريخ الفلسفة الإسلامية ؛ فنجده يشيد بالاستشراق ويمتدح ما نهض به المستشرقون في الكشف عن الكنوز العلمية والفلسفية للعرب والمـسلمين، بطريقة تثير الشك في طبيعة موقفه من الاستشراق، فهو يقول: " فلا يسعنا في هذا المقام، إلا أن نشيد بفضل هؤلاء المستشرقين وأقرانهم، الذين عملوا طيلة القرنين الأخيرين على الكشف عن كنوز العرب العلمية والفلسفية بعناية فائقة . وإذا كان العرب قد أقبلـوا اليوم على النظر في تراثهم العلمي والفلسفي القديم، فما ذلك إلى حد بعيد إلا ضرباً على غرار هؤلاء العلماء، الذين دلَّلوا من خلال دراساتهم للفلسفة العربية والتأريخ لها على ما لهذه الفلسفة من شأن في تطور الفكر الفلسفي العام، حتى حيث تجنوا عليها أو غضوا من قدرها بعض الشيء، فلولا إقرارهم بشأن هذه الفلسفة، لما أبهوا لها أو قبلوا  على دراستها هذا الإقبال.

لم يكتف بذلك بل لتأكيد هذا الموقف القاطع به، يقول الدكتور فخري: "ويكفي أن ننظر في أي بحث فلسفي يخط بالعربية اليوم، كي نتحقق من مدى اتكال الباحثين عندنا على هؤلاء المستشرقين ودراساتهم في حقل الفلسفة خاصة، إذ يكاد لا يخلو بحث فلسفي جدي من إشارات إلى آثارهم واستشهادات بأقوالهم، ناهيك بالتزام المقاييس والقواعد العلمية التي وضعوها فيها، أو الترجمات المختلفة لآثارهم إلى العربية وتدارسها في شتى الأوساط",

ولذلك جاء هذا كتاب الدكتور ماجد فخري شديد الـشبه بكتابـات ومؤلفات المستشرقين من حيث اللغة التي بها، ومن حيث الرؤية والمنظورات الـتي تقف وراءه، وكذلك من حيث الروح العامة التي تسري فيه، ومن جهات عديدة أخرى.

وحول علاقة الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية، فقد حدد الدكتور فخري في مقدمة كتابه بشكل واضح ما يقصده بالفلسفة الإسـلامية كمـا تبلورت وتحددت في تاريخ المسلمين، مقررا أنها تعني عنده ذلك التيار الفكري الذي تأثر بالفلسفة اليونانية، وأصبح الطابع اليوناني هو الجانب الأبرز فيه، وبات يعرف بالفلـسفة الإسلامية، تمييزاً له من سائر تيارات الفكر الإسلامي . واعتبر فخري أن نشأة هذا التيـار الفلسفي وتطوره، هما الغرض الرئيسي من وضع كتابه "تاريخ الفلسفة الإسلامية".

ليس هذا فحسب، وإنما ظل الدكتور فخري ينبه إلى الأثر أو التأثير اليوناني عند الحديث عن الفلاسفة المسلمين ولم ي ستثن أحداً، بدءًا من الكندي في القرن التاسـع الميلادي الذي وصفه بأنه أول مؤلف فلسفي مبدع في الإسلام، إلى ملا صدرا في القرن السابع عشر الذي وصفه بأنه ألمع فلاسفة العهد الصفوي، مروراً بأولئك الفلاسـفة المعروفين مثل الفارابي وابن سينا وأبو حيان التوحيدي ومسكويه، وابن عربي وابـن طفيل وابن رشد والسهروردي.

ويزيد هذا المنحى تأكيداً عند معرفة أن أول مؤلفات الدكتور فخري هو كتاب "أرسطو طاليس المعلم الأول " الصادر سنة 1958م، وكأنه أراد بهذا الكتاب أن يعرف بنفسه في الوسط الفكري والأكاديمي الذي ينتمي إليه ويتواصل معه، والكتاب الأول كثيراً ما يمثل محطة مهمة في تطور التجربة الفكرية عند المؤلف، ويكشف عادة عـن طبيعة الميول الفكرية الأولى.

وقد استمرت تلك الميول عند الدكتور فخري وترسخت، فجاء الكتاب الثاني عن ابن رشد بعنوان "ابن رشد فيلسوف قرطبة" الصادر سنة 1960م، وقد وصف ابن رشد في كتابه "تاريخ الفلسفة الإسلامية " بأنه أول وآخر أرسطوطالي بارز على المـسرح الفلسفي في الإسلام، وبهذا الوصف الدال جدا افتتح فخري الحديث عن ابن رشد.

ومن جانب آخر، فإن الدكتور فخري كما يقول الأستاذ زكي الميلاد:" لم يعط أحكاماً على الفلسفة الإسـلامية على طريقة أحكام المستشرقين التعسفية والمتحيزة، مثل أحكام فيكتور كوزان وأرنست رينان وليون جوتييه، وسائر الذين تحدث عنهم الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ". وأقصى ما قام به الدكتور فخري من حكـم أو انطباع على الفلسفة الإسلامية، قوله في خاتمة مقدمة كتابة: " ينبغي أن يقال في الفلسفة الإسلامية أنها سلكت في نشوئها وتطورها مسلكاً خاصاً أسبغ عليها وحدة منسجمة، هي الميزة الخاصة بالحركات الفكرية الكبرى في التاريخ، على أننا يجب أن لا نتوهم أن  السبيل الذي سلكته في نشوئها كان سديداً تماماً".

وعند النظر في المنهج الذي سلكه الدكتور فخري في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، يمكن القول مع الأستاذ زكي الميلاد إنه اعتمد تماماً على منهج المستشرقين في هذا المجال، وهو منهج قائم أساساً على تتبع أثر وتأثير الفلسفة اليونانية في ثقافة المسلمين، وكيفية تموجت هذه الفلسفة اليونانية وتشكلت في هذه البيئة المختلفة عن البيئات المـسيحية الأوروبيـة، والكشف عن الصورة التي ظهرت عليها هذه الفلسفة بعد تفاعلها مع الثقافة الإسلامية.

وإذا اعتبرنا أن هؤلاء المستشرقين بهذا المنهج، كانوا منسجمين مع أنفسهم في إطار رؤيتهم الاستشراقية، وثقافتهم الأوروبية، فإن الدكتور فخري ما كان يجدر به الإطلاق أن يلزم نفسه بالتقيد بهذا المنهج تقيداً لا يمكن تسويغه بدعوى الموضوعية والعلميـة والمنهجية والحياد وعدم التحيز، وبذريعة أن ذلك أقرب إلى دراسات الأوروبيين أكثر من غيرهم، وعلى خلفية أن على أيدي هؤلاء الأوروبيين تطورت العلوم والمنهجيات وتراكمت وتقدمت، ووصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، فكل هذه الأمور لا تسوغ ولا تبرر تقليدهم في المنهج.

هذه ملاحظات عامة في المنهج والموضوع اقتصرت عليها، وهناك ملاحظـات أخرى في التفاصيل أرتأيت عدم التوقف عندها، لأنني فضلت أن يكون البحث والنقاش في المنهج وحوله.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.....................

المراجع

1- ماجد فخري: تاريخ الفلسفة اليونانية من طاليس إلي أفلوطين وبرقليس، دار العلم للملايين، ط1، 1991..

2- ماجد فخري: تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ القرن الثامن حتى يومنا هذا، دار المشرق، بيروت، ط2، 2000م.

3- زكي الميلاد: ماجد فخري ومنهج دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية: نظرات نقدية، 204  التجديد -المجلد الخامس عشر . العدد التاسع والعشرون. 1432ه / 2011م.

 

 

في المثقف اليوم