قراءة في كتاب

محمود محمد علي: غواص في كتاب الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم (2)

محمود محمد عليلقد استطاع المؤلف الوصول إلي نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلي درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:

أولا: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلي المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح للإسلام وحديث المؤلف عن الفهم هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم . ويمثل الفهم الفكر الإسلامي القائم على الربط المتوازن بين النقل (الوحي)، والعقل (التفكير)؛ فللعقل مكانة فريدة في الإسلام؛ فهو مناط التكليف، فلا تكليف، ولا حساب إلا على عاقل يستطيع الاختيار والتمييز؛ لذلك لا يجوز الحط من مكانة النقل، ولا التنقيص من قدر العقل، فلكل دوره ومكانته وحدوده (11) .

ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق الفقهية، فقد وفق المؤلف في الوصول إلي الحقائق الفقهية وتقديمها في صورة لا يجد القارئ صعوبة في إدراكها والإلمام بها، فقد اختار الوسائل المساعدة لذلك، من عرض نظري لإسهامات الفقهاء، إلي مجال تطبيقي معتمدا في ذلك علي جملة من النصوص الفقهية التراثية، والتي المؤلف من خلالها إلي حقيقة مهمة وهي أن احتمال الخطأ وارد في كل ما نقرؤه إلا ما كان قرآناً، أو سنة ثابتة، واحتمال الخطأ في الفهم عن الله وعن رسوله وارد؛ وعلى ذلك فإن كل ما جاء عن السلف قابل للنقد والمراجعة، شريطة أن يكون ذلك النقد مبنيًا على منهج علمي صحيح، يسير فى ركاب الوحيين، وينطلق منهما، ولا يعطى سلطة للعقل على حساب النقل، ويحرص على تحري الحق ويتغيّاه (12) .

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتي استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، كما أستطاع التقرب للنص الديني في انسجام وتوافق تأمين، مما جعل المؤلف يميز بين النص المحكم، والنص المحتمل، فالنص المحكم في نظر الكاتب ينتج عنه فهم واحد فقط، هذا الفهم هو حكم شرعي ثابت وقطعي، ومصدر هذا الفهم كما يعلن الكاتب هو الله، أو رسوله، أو إجماع الأمة، فينبغي معه التسليم والإذعان، أما النص المحتمل فينتج عنه أكثر من فهم، وهذا يضاف إلى الفقه الإسلامي، ومن فضل الله على هذه الأمة أن يدور تعبُّدها لربها بين الشريعة والفقه (13).

وفي ظني أن القيمة الكبرى لهذا الكتاب تنبع من المنهجية المحكمة التي قام عليها وفحواها : ضرورة ربط المنتج الإبداعي بالأرضية الفكرية والمنطلقات الفلسفية التي انطلق منها؛ لأن خيوط هذه المرجعية سوف تظل – مهما كثرت المدارة والتقية – تتحكم في رؤية النص الديني ومستوياته المضمونية والشكلية علي حد سواء.

والسؤال الان هو: هل نجح المؤلف في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

في ظني أن المؤلف تمكن – إلي حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ علي أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتي يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد علي الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، كما أن معظم المصادر والمراجع التي اتكأ المؤلف عليها هي من الكتب والدراسات الحديثة لأولئك الذين يحاورهم المؤلف، إذ يثبت بطلان مقولاتهم من مصادرهم هم، ومما حطت أيديهم، مما يجعل عبارة " إن الإسلام لا يضيق بالأفكار طالما أنها في جانب البناء،ولا يضيِّق على الاجتهاد طالما أنه يسعى لخير الناس، ويرحب دوما بالاختلاف الذي يثري ويضيف، ومن ثم فلا مانع من تعدد الجماعات العاملة للإسلام؛ شريطة أن تتلاقى في الهدف، وإن اختلفت في الرؤية والوسيلة، فالاختلاف هنا اختلاف تنوع وتخصص، لا اختلاف تنافر وتعارض، بما تحمله من دليل لا يحتمل الشك (14).

كما أن حرص المؤلف علي الموضوعية والحياد، لم يصل إلي درجة التجرد من الحرص علي منطلقات الأمة وثوابتها، بل راح يعلق بين الفينة والأخرى، ويحاور القارئ ويشركه في الحوار، ويبدي غضبه أحياناً ممن يمس عقيدته أو ثوابته،حتي ليجعل بعض العبارات القرآنية لازمة تتكرر عنده كعبارة "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴿43﴾ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (سورة النحل، من الآية 44 ).. التي يورد من خلالها أقوال من يرد عليهم ليقيم عليهم الحجة.

إن اتكاء المؤلف علي 193 مصدر ومرجع واكثرها كان لمؤلفين ومنظرين من الغرب من أمثال جوستاف لوبون، عدا المجلات والدوريات ليدل دلالة حية علي سعة ثقافة المؤلف، واطلاعه علي التيارات الفكرية والنقدية، وهو ما مكنه من إدارة الحوار مع هؤلاء بكفاءة وفاعلية، ولنا أن نتفهم استطرادات المؤلف الكثيرة، وخروجاته العديدة عن فكرته الرئيسية، إذ يبحث في المرجعيات والمنطلقات، ويأبي عزل النص عن سياقه كما يفعل البنيويون، فهو يفرد الصفحات الطوال للحديث عن مفهوم التنوير بين الثقافتين الغربية والإسلامية، ونقد التيارات الإسلامية وبالأخص السلفية النصوصية التي تحتكر الدعوة الإسلامية الصافية، ولا أنسي روعة المؤلف حين يقول بأن :" فكرة احتكار الدعوة، أو حتى فكرة احتكار العمل السياسي الإسلامي غير مقبولة فضلا عن أن تكون غير واقعية، لاختلاف التحديات، والبيئات والأحوال، والمرجعيات، واختلاف الرؤى والمناهج، ويحسب لكلٍ فضله بحسب إصابته وحسن فهمه، وسلوكه" (15). كذلك يحسب للمؤلف قوله :" إن الحركات الإسلامية الواعية تهتم بإيقاظ الوعي الإسلامي في نفوس المسلمين ابتداء، ثم بعد ذلك عليها قيادة الأمة مع الشركاء نحو التغيير الذي يرجع على الفرد والمجتمع بكل خير ، وهي في حركتها تعي طبيعة المرحلة، فتتحرك وفق قانون الوسع والطاقة والمقدور والمتاح (16).

وفي خاتمة الكتاب نجد المؤلف يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلي ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم مؤكدا أن : إن تفسير النص ليس أمرًا قاطعًا ولا نهائيًا إلا إذا كان يعبر عن العقل الجمعي للأمة، وكان منطلقًا من أصول الإسلام الثابتة، وهو ما يعرف بالإجماع، وما عدا ذلك فيمثل فهما من فهوم وجدت في القديم، وموجودة في الوقت الحاضر، وسيضاف إليها فهوم مستقبلية، وفهم النص مصدره البشر، وهو نسبي، وليس مطلقا؛ بمعنى أنه ليس في الاجتهاد قول نهائي (17). ثم يختم قوله بعدد من التوصيات التي ينبغي الالتفات إليها، وبخاصة ما تعلق منها بالتمسك بالمرجعية الإسلامية التي تكتنز ذخرا ما احوج الأمة إليه، وبهذا يُتم المؤلف كتابه – الذي مهما قيل فيه – سيظل يشكل إضافة معرفية ومرجعية ضافية من مراجع تجديد الخطاب الديني (18).

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ الدكتور معتمد علي أحمد سليمان تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف؛ خاصة وأنه يعد واحداً من البحاثة الذين تميزوا بنزعة دينية أخلاقية نابعة من تبنيه الاتجاه العقلي في تمحيص الحديث النبوي المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة، وسلوكه الإسلامي الذي ألتزم به في الحياة العامة، وكان تجسيد لعلوم الحديث بجانبيه النظري والعلمي، وعند المتخصصين في الدراسات الإسلامية وعلومها هناك علاقة قوية بين الجانبين، فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي .

لا شك في أن الدكتور "معتمد علي أحمد"، كان عالماً مبدعاً، وكان له أثر فعال في مجال عرض الفقه وأصوله، في ثوب جديد أعاد الفقه رونقه وبريقه؛ ففي مجال أصول الفقه اعتمد مصادر التشريع الإسلامي، والأصلية والتبعية، مع التركيز علي بعض المصادر التبعية، مثل الاستحسان والاستصلاح، والعرف، وذلك لأهميتها في الاجتهاد في العصر الحاضر، فعليها يكون، فعليها يكون -غالباً – تجديد الأحكام وتطويرها بما يتلاءم مع كل مكان وزمان، لكن من غير تعد علي الأصول العامة، والأدلة القاطعة في التشريع الإسلامي.

أما في مجال الفقه، فتبين أن للدكتور معتمد علي أحمد آراء بناءة تظهر من خلالها معالم شخصية مبدعة، ومخلصة أثرت في مسيرة الفقه الإسلامي في هذا العصر، فرأيه في المذاهب الفقهية رأي معتدل، ليس كمن رفضها نهائيا، ولا كمن تعصب لأحدها، وغنما يجب أن يستفاد منها جميعا بأن تُجعل كالآراء في المذهب الواحد، ويجب أن يختار العلماء أيسرها بما يتناسب مع متطلبات الزمان والمكان، من خلال ضوابط معينة، وليس بالهوي والتشهي؛ خاصة وأن علم الفقه كما يراها معتمد علي أحمد بأنه من أشرف العلوم، وهو المعين الذي حفظ للأمة الإسلامية وجودها بين الأمم علي اختلاف العصور، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ولا حياة للأمة بدونه، كيف لا وهو علم الحلال والحرام، وهو جامع لمصالح الدين والدنيا، ولبي مطالب الأمة في جميع ما عرض لها من أحكما ومستجدات فساير حاجاتها وواكب متطلباتها فكان بحق هو فقه الحياة.. اهتم معتمد علي أحمد بتطوير عرض الفقه الإسلامي وتبسيطه ليكون في متناول طلية كلية الآداب – قسم الدراسات الإسلامية، مع حفاظه علي التأصيل الفقهي والمستوي الجامعي، وكانت له عناية شديدة بكل من طريقة العرض الميسر للمادة، والتحقيق والتنقيح لكثير من المسائل الفقهي، من خلال المناهج والتدريس.

وحتى لا يطول بنا الحديث أقول في نهاية حديثي تحيَّة طيبة لأخي الدكتور ” معتمد علي أحمد ”، الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج، هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهيَّة الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وأخيراُ وعلي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور” معتمد علي أحمد ”، بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمه من جهود.

تحيةً لمعتمد علي أحمد، الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في معتمد علي أحمد قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين" (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............................

11- أ. د. معتمد علي أحمد : الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم، ص329.

12- نفس المصدر، ص 329.

13- نفس المصدر، ص 330.

14- نفس المصدر، ص 337.

15- نفس المصدر، ص 337.

16- نفس المصدر، ص 337.

17- نفس المصدر، ص335.

18- نفس المصدر، ص335.

19- نفس المصدر، ص335.

20- نفس المصدر، ص335.

17- نفس المصدر، ص335.

17- نفس المصدر، ص335.

17- نفس المصدر، ص335.

17- نفس المصدر، ص335.

 

في المثقف اليوم