قراءة في كتاب

عبد الرضا علي: صور من ذاكرة الخوف في زمن الطغيان

عبد الرضا علي صدر عن دار العارف للمطبوعات ببيروت قبل أيّام كتابي: (صور من ذاكرة الخوف في زمن الطغيان). وهو الكتاب الحادي والعشرون تسلسلاً في مشروعي الثقافي: متضمِّـناً أربعَ عشرَةَ صورةً كشفت ما كان خافياً على شباب هذا الجيل من جرائم جمهوريَّة الخوف، وأزلام منظمتها السريّة الذين كانوا كالوحوش التي تنهش لحوم البشر، وتلعق دماءَهم.

 وجاء في توطئته ما يأتي:

(1)

 تذكيراً بما فعلتْهُ المنظّمةُ السريّة من خرابٍ في المؤسّسات العلميّة والثقافيّة إبّان الحكم الدكتاتوريّ الشمولي وطاغيته المقبور، أنشرُ في هذا الكتاب بعضاً من صورِ الخوفِ التي عايشتُها، أو كنتُ واحداً ممَّن شملَه خوفها، كي يطّلعَ الجيلُ الجديدُ على ما كان يحدثُ من إجرام في حقِّ الأساتذةِ والمبدعين، وحملةِ الأقلامِ الشريفة الذين رفضوا إغراءات الجَزَرَة بإباء، فصانوا أقلامهم عن التلوُّثِ،ونأوا بها بعيداً عن السلطانِ، وشعرائه، والمطبِّلين له من الصحفيين الذين تدرّبوا بأحضان تلك المنظّةِ السريَّة القميئةِ، وحاولوا تبييضَ وجهَ جمهوريّةِ الخوفِ بدون حياء، فضلاً عمَّا كان من صورٍ أخرى كنتُ فيها شاهد تاريخ .

(2)

 وكنتُ قد نشرتُ في الجريدة الأسبوعيّة (العراق الحرّ) التي كان يصدرها المجلس العراقي الحر برئاسة المرحوم سعد صالح جبر بلندن بعضاً من صور الخوف تلك باسمٍ مستعار أيّام الطغيان تجنّباً من ملاحقة عائلتي في العراق،ودرءاً لما قد يلحقني من أذى المنظّمة المخابراتيّة في الخارج، وكان الأستاذ قاسم غالي (نائب رئيس التحرير) قد تكلّف بطبعها على البورد مشكوراً لكوني لم أكنْ قد تعلّمتُ الكتابةَ بعدُ، ثمَّ توقفتُ عن نشر بقيّة الصور حين تعلّمتُ الكتابة بإصبعٍ واحدة، كي أستكمل مشروعي الثقافي النقدي المؤجّل، لكنَّني عاودتُ نشر صورٍ أخرى من ذاكرة الخوف في بعض الدوريّات العراقيّة بعد سقوط الصنم سنة 2003م.

 أُحبُّ أنَّ أُكرَّرَ القول في أنّ أغلب هذه الصور قد عايشتُها، أو كنتُ شاهداً على حدوثِها، لكنَّ بعضها الآخر قد رواها لي أصدقاءَ موثوقون، أو ممَّن حدثت لهم، ونجوا من الموت، أو الملاحقة على نحوٍ ما، ولعلَّ القارىءَ الذكي سيعرف ما كان منها لصيقاً بذاكرتي،وما كان من المرويّات التي وثقتُ برواتِها .

  وجميعُ هذه الصور هي لكشف ما كان خافياً على شباب هذا الجيل من جرائم جمهوريّة الخوف، وأزلام منظّمتها السريّة الذين كانوا كالوحوش التي تنهش في لحوم البشر، وتلعق دماءَهم.

2358 ذاكرة الخوف عبد الرضا علي

(3)

أول من استخدم مصطلح (المنظّمة السريّة) هوالمفكّر الأستاذ حسن العلوي،أمَّا أول من استخدم مصطلح (جمهوريّة الخوف) فقد كان صاحب الذاكرة العراقيّة الكاتب الشهير كنعان مكيَّة، الذي اتخذ له اسماً مستعاراً هو (سمير الخليل) حين نشر كتابه المشهور (جمهوريَّة الخوف) باللغة الإنجليزيَّة، فوجدتُ هذا المصطلح قميـناً بتوصيفي لجمهوريّة صدّام المخيفة،أمّا مصطلح (الطاغية) فمعروف للقاصي والداني، لكنّني حين قرأتُ كتاب المفكّر الكبير الأستاذ الدكتور إمام عبد الفتاح إمام (الطاغية) هالني ما كانت تفعله عوائل الطغيان بشعوبها عبر التاريخ ، لاسيّما طغاة الفرس، وكي لا أطيل سأوردُ الفقرة التي أرَّقتني ليلةَ قراءتي لها في الصفحة 71، من ذلك الكتاب، حين ذكر الدكتور إمام عبد الفتاح  الآتي: (كان الفرسُ يطلقون على الإمبراطور لقب [ملك الملوك] . وهو صاحب السلطة المطلقة في طول البلاد وعرضها، فكانت الكلمة التي تصدر من فيه كافية لإعدام من يشاءُ من غير محاكمة ولا بيان للأسبابِ تماماً كما يحدثُ عند الطغاة اليوم! وكان في بعض الأحيان يمنحُ أُمَّهُ، أو كبيرةَ زوجاتهِ حقَّ القتلِ القائمِ على النزوات والأهواء، وقلَّما كان أحد الأهالي ـ ومنهم كبار وأعيان ـ يجرؤ على انتقاد الملك،أو لومه.كما كان الرأي العام ضعيفاً عاجزاً عجزاً مصدره الحيطة والحذر.لدرجة أنْ كان كل ما يفعله مَنْ يرى الملكَ يقتلُ ابنَه البريءَ أمامَ عينيهِ رمياً بالسِّهامِ أنْ يثني على مهارةِ الملكِ العظيمة في الرماية. وكان المذنبون الذين تُلهِبُ السياطُ أجسادَهم بأمرِ الملكِ يشكرونَ له تفضُّـلَهُ بأنَّهُ لم يغفلْ ذكرَهم).

 ونحنُ نظنُّ كلَّ الظنِّ أنَّ نظامَ طاغية العراق لو استمرَّ في الحكم، لوصلَ إلى حيثُ وصل إليه طغاة الفرسِ من جبروت، فليسَ غريباً على صاحب المقابر الجماعيَّة،وقاطع ألسنة الناس،وأيديهم، وآذانهم، ومستخدم السلاح الكيمياوي ضدَّ أبناء شعبهِ الكورد، ومشعل نار الحرب على جيرانه،وغازي الشقيقة الكويت، ودافنِ معارضيه وهم أحياء، وزارع فرق الاغتيال في بلدان العالم،وجزّار رفاقه القياديين البعثيينَ، والجاعل من أزلامه عيوناً تحصي أنفاسَ الناس وتكتب تقارير الموت عنهم، و..و.. و.. ألاّ يكون طاغيةَ العصرِ الأوحد، والمستبد المبيد كما كانَ القائد الضرورة الذي شبهه الكمالي (أستغفرُ الله) دون مراعاةٍ لقيم السماء بوجهِ الله حين قال:

(كوجهِ اللهِ يرفلُ بالجلالِ)

أمّا تقديم الكتاب، فقد تفضّل بكتابته الأستاذ أحمد الزكي، وممَّا جاء في فيه: (في هذا الكتاب الذي بين أيدينا أبدعَ الكاتبُ والأديبُ الأريبُ الكبير الدكتور عبد الرضا عليّ - وهو المبدع دائماً- في التقاطِ صورٍ مهمّةٍ لهذا الاستهداف للعقلِ، والإنسان تجاه من يملك القدرة على تحريكِ عقولِ الناسِ، وتحرير إرادتهم بالحكمةِ، والعلم، والمنطقِ، والحجة القاطعة..

 إنَّ ما يرويه الكاتبُ هنا هو جزءٌ مما شاهده وعايشه من صورٍ مرعبةٍ حفرتْ في ذاكرتهِ أخدوداً أكبر من أنْ تدملَ جراحَهُ تلك السنوات العجافُ، فهي ذكريات مرة لما مرَّ به خلال حياتهِ المليئة بالنشاط والحيوية والعطاء..).

 علماً أنَّ كلمة غلاف الظهر قد تفضَّلَ بها عليَّ مشكوراً صديقي الشاعرُ الكبير الدكتور عليّ الشلاه، وجاء فيها: (يقدم كتاب صور من ذاكرة الخوف للناقد والكاتب العراقي الكبير الدكتور عبد الرضا علي صورة موضوعية لما عاناه المثقفون والأكاديميون العراقيون سنوات الدكتاتورية الساقطة، ويري القارئ التشوهات، والانكسارات الكبيرة في الشخصية العراقية . تلك التشوهات التي تركتها سنوات الخوف والملاحقة لدولة بُنيت على هدم الإنسان وتمزيقه.

ولعلَّ أهمية هذه الشهادة المضافة تكمن في إشارتها إلى ملاحقة النظام لكل التفاصيل في حياة الناس حتى ما يعده الآخرون صغيراً، وهامشياً، ووضعه للمثقفين تحت مجهر التخوين في كلِّ حركاتهم وسكناتهم والمبادرة إلى تصفيتهم على الظن والشبهة والحسد والخلاف على أبسط جزئيّة داخل العمل، أو في الندوات والمؤتمرات.

ولعلَّ في هذا الكتاب شجاعة مميزة تبدو في إشارته للأسماء التي باعت ضميرها، وارتضت لنفسها دور المخبر الوضيع، والجلاد لزملائها من أبناء مهنة الحرف، والكتابة، وذلك يعكس الخراب الذي وصلته الثقافة العراقية بعد ثلاثة عقود من دولة الرعب البعثية.

وأجد لزاماً عليَّ التنويه بأهمية هذه الشهادة المتواشجة مع أهمية كاتبها كونه من الأسماء الرصينة، والفاعلة والمؤثرة في المشهدين الثقافي، والأكاديمي وليس شهادة عابرة لشخص عابر يضخم دوره بالادعاء.

آملاً أنْ يقدم هذا الكتاب محفزات أخلاقية لمثقفين آخرين لتقديم شهادتهم عن زمن الخوف أسوةً بكاتبنا الكبير).

***

لكلِّ ذلك كان هذا الكتاب الذي كشفتُ فيه بعضاً من صور الخوف في عهد الطغيان الصدَّامي، والحمد للهِ أولاً، وأخيراً.

 

أ. د. عبد الرضا عليّ

 

 

 

في المثقف اليوم