قراءة في كتاب

محمود محمد علي: "جاك ماريتان" الفيلسوف الملهم لـ "جو بايدن" (1)

محمود محمد عليتعد العلاقة بين اللاهوت والسياسة، والترابط بين الساحة القومية والساحة العالمية، أبرز محاور هذا الكتاب المعني بالشأنين الديني والسياسي في أمريكا. فعلى مدى المئتين وثلاثين سنة الأولى من تاريخ الولايات المتحدة، كانت الغالبية العظمى لجمهرة الرؤساء الأمريكيين متكوّنة من أعضاء في الكنائس المسيحية غير الكاثوليكية: الإبيسكوبالية والبريسبيتارية (المشيخية) والميتودية والمعمدانية. وضمن هذا السياق يمثّل جو بايدن الرئيس الكاثوليكي الثاني بعد الرئيس "جون كينيدي" الذي مرّ على اعتلائه كرسيّ الرئاسة ستون عامًا. فقد أثار انتخاب بايدن تساؤلات سياسية على إثر انتخابه بعد الرئيس السابق "دونالد ترمب"، وبالمثل أثار تساؤلات بشأن مذهبه الديني. فهناك كثير رأوا في "بايدن" رجلاً مُخلّصا ذا مهمّة رسالية من أولوياته معالجة جراح أمريكا التي خلّفها ترمب (1).

في كتاب صادر سنة 2005 بعنوان "المؤسّسة" من تأليف ماسيمو فرانكو، يتحدّث فيه عن "الإمبراطوريتين المتوازيتين" حاضرة الفاتيكان وأمريكا. ولكن ذلك التوازن بين الإمبراطوريتين عانى أثناء فترة إدارة ترمب من الخلل وسوء التفاهم، فهناك اختلاف جوهري بين رؤية البابا فرنسيس للعالم ورؤية ترمب "لنحافظ على عظمة أمريكا"(2).

كتاب ماسيمو فاجولي الأستاذ في جامعة فيلانوفا بفيلاديلفيا، يقدّم شرحًا ضافيًا لمعنى انتخاب "بايدن" الكاثوليكي بالنسبة إلى تاريخ الكاثوليكية الأمريكية، ولِما يمكن أن تتمخّض عنه من آثار في الخيارات السياسية للرئيس. حيث يحاول فاجولي فهم أبعاد السيرة الدينية لبايدن، عبر مشواره السياسي، قَبل اعتلاء كرسي الرئاسة وأثناء تولي هذا المنصب واستشراف ما يمكن أن تسير الأمور نحوه. إذ يشكّل الانتماء للكاثوليكية بالنسبة إلى الرئيس بايدن ثقلا مضاعفا مُقارنة بالانتماء البروتستانتي. والطرافة في الانتماء الديني لبايدن، في المخيال العام الأمريكي (3).

وصاحب الكتاب يؤكد علي دور فلسفة جاك ماريتان في تشكيل عقلية جوبايدن (4) ، ولذلك أحاول أن أقدم للقارئ هنا شخصية جاك ماريتان وفلسفته ، وكيف أعجب به الرئيس الأمريكي؟

وفي هذا نقول :  يعد جاك ماريتان Jacques Maritain – (1882 – 1973م)، قوة فعالة في الحياة الثقافية والفلسفية في القرن العشرين وقد شغل نفسه بجميع التيارات الفكرية والروحية في العالم المعاصر، وقد لعب دورًا كبيرًا مع زوجته "رايسا"، في فترة ما بين الحربين العالميتين داخل الأوساط الثقافية والسياسية الفرنسية والأوروبية. ومنذ البداية فتح معها أكبر صالون للنقاشات الفلسفية والدينية والأدبية في فترة مهمة من فترات فرنسا. وكان ذلك طيلة النصف الأول من القرن العشرين. ومعلوم أن الصالونات الفكرية لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ فرنسا منذ القرن الثامن عشر وأيام فولتير وبقية الفلاسفة (5).

ولد ماريتان في باريس في 18 نوفمبر من عام 1882 في عائلة بروتستانتية وبورجوازية. وكان جده لأمه "جول فابر" أحد القادة السياسيين لفرنسا في ذلك الزمان. وفي ظله نما وترعرع. وقد درس في أفضل المدارس الفرنسية كجميع أبناء الأغنياء قبل أن ينتقل إلى الجامعة ويدخل السوربون؛ وهناك راح يدرس العلوم، خصوصًا علم الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء (6).

كتب ماريتان كثيراً من المؤلفات الفلسفية التي فاقت الخمسين مؤلفاً، أشهرها باللغة الانكليزية: «درجات المعرفة» The Degrees of Knowledge، «الشخص والخير العام» The Person and the Common Good، و«فلسفة البرگسونية والتومائية» Bergsonian Philosophy and Thomism، وكتابه «الوجود والموجود Existence and the Existent الذي دافع فيه عن نمط من التفكير الوجودي أشد التصاقاً بالتومائية التي يعدّها "الوجودية الحقة".

وكما يتبين من كتاباته في المنطق الصورى ؛ ونظرية المعرفة وتاريخ الفلسفة ، والفن ، وعلم الجمال ، ونظرية الدولة ، وبخاصة كتاباته عن العلاقة بين المسيحية والديمقراطية وعن التربية ، والأمور الحيوية وفي زمانه مثل النازية ، والحركة المناهضة للسامية ، والحرب والسلم. وفي كثير من تفكيره نراه وثيق الصلة بالنزعتين " الفردية" و" الإنسانية" (7).

ثم سافرا بعدئذ إلى ألمانيا لإكمال دراساتهما. ولكن قبل أن يسافرا كانا قد غيّرا مذهبهما البروتستانتي وتحولا إلى المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني. وهو مذهب الأغلبية الفرنسية، وفي ألمانيا اكتشف "ماريتان" مؤلفات أكبر فيلسوف مسيحي في العصور الوسطى: القديس توما الأكويني. ويشبهه البعض بابن رشد. والواقع أنه كان من المتأثرين به والمواظبين على قراءته على الرغم من انتقاده له. وكان يستشهد به ذاكرًا: كما قال الشارح العربي.وقد وجدا عنده الأجوبة عن تساؤلاتهما الميتافيزيقية الملحة. ثم دفعتهما قراءته إلى قراءة أستاذه، المعلم الأول: أرسطو. ومعلوم أن القديس "توما الأكويني" خلع الطابع الإيماني والمسيحي على فكر أرسطو فلم يعد وثنيًا أو عقلانيًا صرفًا. لقد دجنه وجعله مسيحيًا تقريبًا أو قل صالحه مع المسيحية بشكل من الأشكال مثلما صالحه ابن رشد مع الإسلام من خلال كتابه الشهير: فصل المقال. ومثلما صالحه "موسي بن ميمون" مع الديانة اليهودية أيضًا من خلال كتابه: دلالة الحائرين (8).

ثم عاد "جاك ماريتان" وزوجته "رايسا" إلى فرنسا لكي يصبح زوجها أستاذًا في المعهد الكاثوليكي بباريس، وبعد انتهاء الحرب وتقديرا لمواقفه، عينه الجنرال ديغول سفيرا لفرنسا لدى الفاتيكان. وقد ظل يشغل هذا المنصب طيلة ثلاث سنوات من عام 1945 إلى عام 1948. ثم عاد بعدها إلى الولايات المتحدة للتدريس في جامعة برنستون، وقد استقال من مناصبه الجامعية بدءًا من عام 1960 بعد أن تقدم في العمر وتجاوز السابعة والسبعين؛ ثم عاد إلى فرنسا حيث فتح بيته للمثقفين من جديد (9).

وقد كتب بحرارة في " الحرية في العالم الحديث" دون أن يخفف من اعتقاده بأن " إقحام المسيحية وحقائق الكتاب المقدس في قلب الحياة الاجتماعية والثقافية ؛ أمر لا غني عنه لتحقق الإنسانية أغراضها ولتبلغ الحضارة أوج كمالها، ولذلك فإن "جاك ماريتان" يعد واحداً من أكبر المفكرين المسيحيين الفرنسيين في العالم اليوم (10).

اجتاز "جاك ماريتان" أزمة روحية سنة 1908 وهو طالب في " هيدلبرج" ، فلقد أدرك أن الفلسفة البرجسونية لم تكن كافية ؛ حيث أخذ "ماريتان" على "برجسون" ، أن "برجسون" وقع فى فخ الماديون، وذلك لأن "برجسون" خلط بين العقل المشوه المصاب بالعمى وبين العقل الثمين جداً الجميل جداً الذى وهبه الله للإنسان، فبرجسون فى فلسفته يرى أنه لاوجود  فى حين أن "ماريتان" ينتقد ذلك قائلاُ متى نفينا الوجود فقد حطمنا فى الأشياء ما به تشابه  وما به ترينا الله ومن هنا يقول ماريتان أن "فلسفة برجسون هى " وحدة وجود ملحدة "(11).

وفورا طالبه المنطق الحي مرة اخري أن يكتشف الاتناشق الكامن الخفي بين العقل والإيمان كي تتحقق قناعته بقوة علاقتهما معا وهو ما تجلى لحياته العاطفية والفكرية فلسفته – وقد وجد هذا الإنسجام أو الاتناسق في فلسفة "توما الأكويني" الذي كانت فلسفته هي الباب الوحيد المفتوح أمامه ،الذي بينت له المطلق الذي كان يبحث عنه (12).

والتفكير الوجودي عنده ليس موقفاً إنسانياً مشخصاً، بل فعلاً وجودياً، فعل اختيار وحرية بالدرجة الأولى. وبتطابقه مع العرف المدرسي يرى أن الوجود هو كل ما هنالك، وأن اللاوجود هو سلب للوجود بمعنى العدم واللاكيان، محاولاً تضمين آرائه عن الأنطولوجيا  Ontology؛ تصوراته عن الله، فالله هو الفاعلية الكاملة والتامة لكل إمكانات الوجود. أما الوجود الإنساني فمشدود إلى قطبين: القطب المادي وهو لا يهم الإنسان كشخص حق، وإنما هو ظلال للشخصية، والقطب الروحي وهو الذي يهتم به الإنسان، وعالم الوجود يتطلب معرفة ميتافيزيقية تستدعي معارف بديهية تقوم على العقل الحدسي الذي يسبق العقل المنطقي، أما عالم الطبيعة المتغير والمتبدل فيستلزم معرفة تجريبية - إدراكية، وعالم الكم صورته المعرفة الرياضية. وللمعرفة الإنسانية مراتب وأنواع يكمل كل منهما الآخر، ولكل نوع العقل المناسب له، وقبل المعرفة الشعورية والمعارف البديهية هناك اللاشعور الروحي الذي يسبق اللاشعور الغريزي، وهو مصدر المعارف جميعاً إدراكية كانت أم بديهية، والتي يصنفها في معرفة فلسفية وشعرية ومعرفة صوتية (13).

ولاتخلو فلسفة "ماريتان" من طابع ديني رافق نظرته الفلسفية، وانتهت بنظرة عن "الخلاص" تعرّض فيها لمسألة الخطيئة والشر: فالشر سلب أوعدم، وليس له أي مرتبة من مراتب الوجود، والخطيئة شر لأنها تجعل الإنسان مختل الطبيعة، ميال إلى العبث بالقانون فاقد الوجود، قاطعاً لأواصر الصلة الطبيعية والروحية بالله، وعليه فالخلاص من الشر والخطيئة يكون بتحديد علاقتنا بالله، وإعادة تكامل طبيعتنا بإقرارنا بالعناية الإلهية، وفي حالة الخلاص هذه يصبح الإنسان أكثر من ذاته، وأسمى من طبيعته الإنسانية، أي يصبح إلهاً بالمشاركة (14).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...................

(1) عزالدين عناية: جو بايدن والكاثوليكية في الولايات المتحدة، شباب التفاهم، 03 اغسطس 2021.

(2) المرجع نفسه.

(3) المرجع نفسه.

(4) المرجع نفسه.

(5) هاشم صالح: ماريتان.. رهان على الروح في زمن الحضارة المادية، جريدة الشرق الأوسط، الثلاثاء - 9 محرم 1438 هـ - 11 أكتوبر 2016 مـ.

(6) المرجع نفسه.

(7) ياسمين أحمد على برعى: فلسفة الدين والسياسة عند جاك ماريتان:2010، ص 6.

(8) هاشم صالح: المرجع نفسه.

(9) المرجع نفسه.

(10) ياسمين أحمد على برعى: المرجع نفسه، ص 8.

(11) د. رمضان الصباغ: العلاقه بين الفن والاخلاق عند جاك ماريتان، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع، الاسكندرية،  2004، ص 11.

(12) ياسمين أحمد على برعى: المرجع نفسه، ص 9.

(13) علي عبد المعطي محمد، مقدمات في الفلسفة (دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1985، ص 188.

(14) ج. بنروبي، مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا، ترجمة عبد الرحمن بدوي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 322.

 

في المثقف اليوم