قراءة في كتاب

لماذا وقعت في حب ميلان كونديرا؟

متى وقعت في حب ميلان كونديرا، ولماذا؟.. لا اتذكر التاريخ بالضبط، لكنني وجدت ذات يوم في مكتبة التحرير رواية بعنوان " الحياة هي في مكان آخر " من اصدار دار الاداب ترجمة رنا ادريس.. وكانت احد الاكتشافات الباهرة في عالم القراءة.. فهي رواية لا تتناول الاحداث او القضايا الكبيرة التي نعيشها، لكنها معنية بطبيعة العلاقات الانسانية. بطل الرواية " جازوميل " يعاني من محبة أمه الزائدة التي تترك اثارها على كل شيء في حياته، ولهذا يقرر ان يخترع له حياة اخرى من خلال شخصية اسمها " إكزافييه" الذي يحيا معه في عالم من الاحلام، عابراً من حلم إلى آخر، كما لو كان يعبر من حياة إلى أخرى، ولن نعجب حين يخبرنا الروائي أن هذه الحرية العجيبة ناجمة عن كونه بلا أم وبلا أب، ذلك أن انعدام وجود الأبوين هو شرط الحرية الأول، لا تبدأ الحرية حيث يُرفض الآباء أو يُدفنون، بل حيث لا يكون لهم وجود، حيث يأتي الإنسان إلى العالم دون أن يدري من أين.

يصبح جازميل الشاب الوسيم مثل كونديرا في الخمسينيات شاعراً، " كان يكتب قصائد عن الطفولة المصطنعة، عن الحنان، عن موت وهمي، عن شيخوخة وهمية، كانت تلك ثلاث رايات زرق يتقدم تحتها خائفاً نحو جسد المرأة الراشدة الحقيقي على نحو هائل".

وبرغم بلوغه سن العشرين، ولسبب لا يكشف عنه كونديرا، يظل جازوميل يقبل أن تختار له أمّه ملابسه، لذا لن نندهش حين نراه بعد ذلك يُوثق عشيقته الشقراء الصغيرة ويشل حركتها حين يمارس الجنس معها:  " إن جوهر المشكلة أنها كانت تفلت منه، إنه لم يكن يتملكها تماماً". كان أي ميل للاستقلالية لدى العشيقة الصغيرة يسوء جازوميل، كان يود:  " ألّا تكون أبداً في مكان آخر غير مغطس الحب ذاك، ألّا تحاول الخروج منه، ولو بالفكر، أن تكون مغمورة تحت سطح أفكار جازوميل وكلماته"، مثلما كان هو مغموراً في أفكار أمّه وكلماتها.

في النهاية يشي جازوميل بعشيقته إلى السلطات فيتم إلقاء القبض عليها والزجّ بها في السجن، وهكذا سيصبح سيدها المطلق، وسيكون في النهاية، قد أخذ بثأره من أمّه " إنها له، له، له"..ثم يقع الشاعر الشاب مريضاً حتى الموت، ويكتب كونديرا في نهاية الرواية مقطعاً شديد التهكم يقول فيه جازوميل لأمّه وهو لا يزال يمسك بيدها:  " أنتِ الأجمل من بينهن جميعاً، أنتِ أكثر من أحببتُ".

كانت الرواية غريبة بالنسبة لي، كان من الصعب عليّ آنذاك ان افهم الطبيعة المعقدة لبطل الرواية.. لكن الرواية قدمت لي خدمة اخرى فقد ادخلتني عالما من القراءة جديد تماما.

بعد سنوات، اصبحت روايات كونديرا متوفره، اعدت قراءة " الحياة هي في مكان آخر ".. بدت الرواية تبدو لي مذهلة، لقد كنت قادرا بعد القراءة الثانية على استيعاب الفكاهة السوداء التي تتمتع بها روايات كونديرا

بدأت بعد ذلك محبتي بكونديرا واعماله.. وبدأت معها رحلة البحث عن كتبه وايضا سنوات الانتظار، فقد كنت في كل عام انتظر مثل آلاف من عشاق الكاتب التشيكي ان يحصل على جائزة نوبل، ولسوء الحظ فقد بلغ الثالثة والتسعين من عمره، وفي كل عام يصر اصحاب الجائزة على إيهام القراء ان كونديرا شخصية من الخيال لا وجود لها على ارض الواقع، وانه يعيش في مكان آخر. احد الاجابات الساخرة التي يقولها كونديرا حول عدم حصوله على جائزة نوبل انه ولد في يوم " كذبة نيسان " – ولد في الاول من نيسان عام 1929 – ولهذا يعتبر ان علاقته بجائزة نوبل اصبحت أصبحت مثل النكات التي تلقى بمناسبة الأول من نيسان مجرد اكاذيب. يقول انه في صباه حلم دواء من شأنه أن يجعل الانسان غير مرئي والى " الآن أرغب في الحصول على الدواء الذي يجعلني غير مرئي. ''

في كل حديث عن جائزة نوبل يتذكركونديرا مواطنه الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت الذي حصل على نوبل عام 1984 وكان قد بلغ الثالثة والثمانين من عمره، ويقال أن السفير السويدي عندما اراد ابلاغ ياروسلاف سيفرت بفوزه بالجائزة كان يرقد في المستشفى وقال للسفير بحزن:  " لكن ماذا سأفعل الآن بكل هذه الأموال؟".

الابن الوحيد لعائلة مثقفة من الطبقة الوسطى،ولد في مدينة برونو المدينة الثانية في (تشيكوسلوفاكيا) بعد براغ. والده متخصص في الموسيقى، ولا نعرف ما مهنة أمّه، ظل متعلقاً بوالده عازف البيانو الشهير الذي قاده إلى دروب بارتوك، وسترافينسكي، ورحمانوف. اضطر في سنّ مبكرة أن ينشغل بالسياسة، ففي التاسعة من عمره كانت بلاده تشيكوسلوفاكيا تنزلق نحو الحرب، وسيكتب في ما بعد أن العديد من أفراد عائلته زُجّ بهم في معسكرات الاعتقال النازية بسبب ميولهم الشيوعية، وأن البعض منهم لقوا حتفهم. عندما وقع انقلاب براغ عام 1948 كان ميلان في الثامنة عشرة من عمره، وقد سحرته دروب يوتوبيا الكادحين، فانضم للحزب الشيوعي: " اسرتني الشيوعية بقدر ما أسرني سترافنيسكي وبيكاسو والسيريالية " – السيرة غير المعروفة لميلان كونديرا ترجمة وثام غداس -. بدأ حياته شاعراً، ويُقال أن مجموعته الشعرية الأولى: (أنا لا أقرأ التشيكية) حظيت بردود فعل إيجابية، لكن كونديرا اكتشف في ما بعد وبالصدفة سارتر الفيلسوف من خلال كتابه " الوجود والعدم، ليعنرف فيما بعد ان جان بول سارتر احد اساتذته في الفكر.وقد حاول في مجموعته الشعرية الثانية أن ينزع نحو الوجودية، الأمر الذي أثار نقمة الجهات الرسمية التي قررت فصله من الحزب عام 1950، وكانت أسباب الفصل تؤكد أنه من غير المعقول في بلد شيوعي، أن يبشّر الشعراء بالعدمية والوجودية. في سن السادسة والعشرين كتب قصيدة يمجّد فيها بطل المقاومة التشيكي (فوسيك) فاستحق عنها إعادة الاعتبار له، ليصدر قرار بإعادته إلى الحزب.

طيلة الستينيات قام كونديرا بتدريس السينما في الجامعة، وفي تلك الأثناء نشر روايته (المزحة) وهي درس عن الحب في زمن سيطرة الأيديولوجيات، وقد تُرجمت إلى الفرنسية بتقديم الشاعر الفرنسي الكبير أراغون، الذي وجد فيها تصويراً لأزمة الأحزاب اليسارية في أوروبا، في عام 1968 قرر الروس دخول براغ، لم يختر كونديرا الهروب، فقد أراد الاستمرار في إيمانه بالاشتراكية وبإمكانية التغيير من الداخل، لكنه في المقابل ترك نفسه، لأن يكتب بحريّة، الأمر الذي أدى إلى طرده عام 1970 من الحزب الشيوعي، وصدور قرار بمنع كتبه من التداول، بعدها أقيل من وظيفته في الجامعة، قرر أن يعمل في إحدى الصحف لتحرير باب الأبراج باسم مستعار:  " ألّا يكون للمرء وجود علني أمر له محاسنه أيضاً". في هذه الفترة ينصرف لكتابة الرواية لتصدر له روايتان كبيرتان هما:  (الحياة هي في مكان آخر) و(فالس الوداع) اللتان رسّختا اسمه كواحد من روائيي الجيل الجديد. عام 1975 يسافر إلى فرنسا ليقيم بصفة لاجئ، بعد أربعة أعوام يُجرّد من جنسيته التشيكية، فيُمنح عام 1979 الجنسية الفرنسية، لم يُحدث المنفى ولا الكتابة بالفرنسية، تغيراً في أسلوب كونديرا الروائي، وأقصى ما لاحظه النقاد أن رواياته باتت تحمل خصائص التقشف في اللغة والاقتصاد في الوسائل، وتجنب النزعات العاطفية، ولعل ما سمح لكونديرا بهذه النقلة، هو إصراره على إعادة كتابة ماضيه الشخصي، الأمر الذي جعله يمتنع عن إعادة طباعة أعماله القديمة التي تعود إلى فترة الخمسينيات والستينيات، فهو يعدّها غير ناضجة ولا تسحق القراءة:  "إن أول نصّ يستحق الذكر هو قصة قصيرة كتبتُها في سن الثلاثين، بعنوان (غراميات مرحة)، من هنا بدأَت حياتي ككاتب".

يتصرف كونديرا مع قصة حياته الخاصة كروائي، فينبّهنا في (خفّة الكائن التي لا تُحتمل) إلى " أن الشخصيات الروائية لا تولد من جسد أمّ، بل من بضع كلمات موحية، من استعارة، من موقف أساسي"، وهو أقرب إلى تصور سارتر في (الوجود والعدم)، الكتاب الذي اعتبره كونديرا أشبه بالإنجيل، كان سارتر في الكلمات يصرّ على أن نسيان الطفولة والسكوت عن الأشياء التي تمّ تلقيها وتعلمها، أشبه بقانون رفض الهوية.

عندما يسأل عن الروائي المفضل لديه يجيب بسرعة:  أنا أحب تولستوي كثيرا. إنه أكثر حداثة من دوستويفسكي. ربما كان تولستوي أول من أدرك الدور اللاعقلاني في السلوك البشري. الدور الذي يلعبه الغباء في حياة الناس " – فن الرواية ترجمة بدر الدين عردوكي -

رواية بعد أخرى نستكشف مع كونديرا مفارقات الوجود الإنساني، ما من أحد أكثر منه موهبة في الكشف عن الضلالات التي نعيش فيها، والأدوار التي فُرضت علينا كي نلعبها في الحياة، وأكاذيبنا، واستعراضاتنا الجنسية، وحيلنا ومراوغاتنا لصدّ " خفة الكائن التي لا تحتمل"، ولا أحد مثله باستطاعته المزج مزجاً بارعاً وبطريقة أقرب إلى كتابة النوتة الموسيقية، بين الخيال الروائي، والمقالة الفلسفية، أن فكرته الأساسية في معظم أعماله الروائية، هي أن لاوجود للهوية، لأنّ مظهرنا الجسدي أمر اعتباطي، دائم التحوّل، وذاكرتنا لا يمكن الوثوق بها كثيراً، وحتى آرائنا وأفكارنا وأذواقنا وأنماط عيشنا، إنّما تصوغها الصدفة، يخبرنا كونديرا أن الإيجابي هو الذي أدرك الطبيعة التراجيكوميدية للحياة الإنسانية، والسلبي هو ذلك الذي يسعى دوماً إلى إقناعك بالانتماء إلى شيء ما، بلد أو حزب، أو دين أو عائلة.

يكتب كونديرا:  " بعد نشري لكتابي الأول (المزحة) الكثير من القراء اكتشفوا أن شخصيات الرواية موجودة بينهم وهم يلتقون بها في الطرقات والمترو ومقاهي الرصيف". ويضيف صاحب (الضحك والنسيان) إن دراسته للموسيقى والسينما مكّنته من أن يتناول الموضوعات الأكثر قتامة بأسلوب هزلي، من (خفة الكائن التي لا تُحتمل) إلى (الحياة هي في مكان آخر) مروراً بـ (المزحة والجهل)، ظلّت الفكاهة سمة مميزة لكتاباته، وهو يقول لمحاوره كريستيان سالمون:  " إن التسلية والإمتاع كانت وسيلته لتمرير أفكار يعتقد بها، فهو يعتقد أن الرواية يجب أن تجمع بين المعنى الجادّ والأسلوب المُسلّي، على غرار ما قدّم تشارلز ديكنز في رائعته (أوقات عصيبة) - ترجمة:  عز الدين محمد زين -

يؤكد كونديرا في كل أعماله الروائية أن العالم الذي نعيش مآسيه، لا يساوي دم من ماتوا ليجعلوه مكاناً أفضل، فهدف النسيان والسخرية عند الإنسان، هو تجاوز التاريخ ثم الانصراف لما هو أهم، سواء كان حياة أو فناً أو موقفاً أخلاقياً أو صمتاً مطبقاً.

في معظم رواياته يحاول ميلان كونديرا الخروج إلى ادراك فلسفي للحياة المعاصرة. وفي رأيه ان الروائي لا يملك الحق في تقييد نفسه بالانتماء والانحياز لا الى المذهب السياسي ولا الى العقيدة ولا الى الايديولوجيا

(- انت شيوعي. ياسيد كونديرا

- لا، انا روائي

- انت منشق؟

- لا انا روائي.

- انت يساري، ام يميني؟

- لا انا روائي) – فلسفة الحياة عند كونديرا ترجمة اشرف الصباغ -

لماذا احب ان اقرأ كونديرا دائما، بالنسبة لي ولكثير من قراء رواياته، نجد ان صاحب " المزحة " يمنحنا بعضا من روحه المتمردة التي تتسلل من بين صفحات رواياته. نقرأ كونديرا لأننا نريد أن نكون مثله في مرحلة ما من حياتنا. كل كتاب من كتب ميلان كونديرا هو تجربة شخصية. نقرأها لأننا لا نريد أن يقال لنا ما يجب أن نفعله،ولأننا ايضا نكره أن يقال لنا ما يجب أن نفعله. والاهم من هذا كله دعوته للحقيقة والحرية الداخلية التي بدونها لا يمكن التعرف على حقيقة الانسان. يكتب كونديرا: " أن تكون كاتبا لا يعني أن تلقي مواعظ عن الحقيقة، يعني القدرة على اكتشاف الحقيقة ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم