قراءة في كتاب

معاذ محمد رمضان: مع د. محمد جواد مالك في كتابه: شيعة العراق وبناء الوطن

كتب د. محمد جواد مالك بحثاً بعنوان: شيعة العراق وبناء الوطن ـ دراسة تاريخية منذ ثورة الدستور حتى الإستقلال 1908 ـ 1932م. وهو في الأصل رسالة ماجستير قُدّمت الى كلية الإمام الأوزاعي في بيروت، ونوقشت في آذار 1998م.

الكتاب كبير بحجمه إذ تجاوز 950 صفحة، وكبير بمصادره ومراجعه أيضاً، إذ يجد القارىء الرسائل الجامعية، والكتب العربية والمُعَرّبَة أيضاً. فكان الحضور الكبير في  حواشي الدراسة من حصة:

عبد الرزاق الحسني، وميض جمال عمر نظمي، عبد الله النفيسي، عبد الحليم الرهيمي، أحمد الكاتب، فاروق صالح العُمر، علي الوردي ... الخ.

ما يُحسَب للباحث هو الغوص والحفر العميق في الموضوع المدروس. ولم يقتصر على الوصف فقط، بل تَدَخّل تَدَخّلاً كبيراً في التحليل والرفض والقبول.

إستهل الباحث دراسته بمناقشة المصادر والمراجع المُعتَمَدَة، فقسّمها لثلاثةِ أقسام:

1- المصادر المهتمة بسرد الوقائع التاريخية التفصيلية أكثر من التحليل.

2- المراجع التي تُقَدّم تحليلاً للأحداث.

3- المراجع الموجهة للأحداث بتحليلات تحميلية لتحقيق أهداف آيديولوجية (1). وقد قَدّم الباحث أمثلةً لكل قسم، فقد وضع كتاب محمد مهدي البصير "تاريخ القضية العراقية"، وكتاب حسن الأسدي "ثورة النجف ضد الإنكليز"، وكتاب مس بيل "فصول من تاريخ العراق القريب" ضمن القسم الأول.

ووضع كتاب عبد الله النفيسي "دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث"، وكتاب أحمد الكاتب "تجربة الثورة الإسلامية في العراق 1920 ـ 1980"، وكتاب د. عبد الله فيّاض "الثورة العراقية الكبرى 1920"، وكتاب د. علي الوردي "لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث"، وكتب عبد الرزاق الحسني، ضمن القسم الثاني.

بينما نجده قد وضع كتاب د. وميض جمال عمر نظمي "ثورة العشرين" ضمن القسم الثالث (2).

أما "المصادر الماركسية" فلم يُكَلّف الباحث نفسه عناء مناقشتها! بل إكتفى بترديد الديباجات المألوفة التي يتداولها الخصوم! إذ نجده يقول:

(أما الكتب الأجنبية، الواضحة في تحميل الأحداث ما لا تُطيق، فأبرزها كتاب الكاتب السوفيتي "كوتولوف": "ثورة العشرين التحررية في العراق". وذلك لأنه يعتبر إندلاع ثورة العشرين يعود الى أسباب الصراع الطبقي والعوامل الإقتصادية) (3).

وما علينا الآن إلاّ الرجوع لباحث لا يُشَكُ بمكانته الأكاديمية ومهنيته المضيئة، لنتأكّد من زعم د. محمد  جواد مالك. يقول "أستاذ المؤرخين" د. كمال مظهر أحمد:

(تبقى دراسات وبحوث ليبيديف ولوتسكي وليفين وميرسكي ولاندا ولازاريف ودانتسك وفيدجنكه وعشرات غيرهم نقاطاً مضيئة في عالم الإستعراب، لأنها تُحدد أولاً وقبل كل شيء، وعلى أساس مادي، الطبيعة العادلة للنضال العربي، كأي نضال تحرري، وتعطي الجماهير ـ دون أن تُنكر دور الفرد ـ حقها في خلق وتطوير أحداث ذلك النضال. وفي هذا الإطار بالذات قَدّم الإستشراق السوفيتي في أواسط عام 1975 إنتاجاً علمياً مهماً لمستشرق معروف هو الدكتور ل . ن . كاتلوف الذي أتحف منذ نهاية الخمسينيات مكتبة الدراسات الشرقية بعدد من البحوث القيّمة سواء عن "ثورة العشرين" في العراق، أو عن قضايا النضال الجماهيري والتطور الإقتصادي ـ الإجتماعي في بعض الأقطار العربية) (4).

حَدّدَ الباحث أهدافه من البداية وهي:

معرفة جذور التحرك الإسلامي المعاصر، ومعالجة "الحقبة التأسيسية" معالجة موضوعية (5). وعليه فقد كان هَمُّ الباحث هو "الكشف" عن الخيوط الإسلامية في هذه الحقبة التأسيسية (6).

وقفة نقدية سريعة مع الباحث:

حظيت "القراءة التاريخية القومية" مُمَثّلَةً بالدكتور وميض نظمي، بنقد قاسٍ جداً من الباحث. فقد وقف عندها كثيراً، وبيّنَ "زيفها" و "بُطلانها" و "تحميلها" للأحداث ما لا تحتمل:

(فإنه [وميض نظمي] بالرغم من إهتماماته الكثيرة لتلك المرحلة، إلاّ أن بحوثه متوجّهة نحو صَبّ الأحداث لصالح الإتجاه القومي ـ العربي، وتجده  أحياناً يُفرِط في تحميل أحداث التاريخ توجهاته القومية الى درجةٍ لا تُطاق، فمثلاً يصف ثورة العشرين التي قادها الإمام الشيرازي والحَرَكيين الإسلاميين من أبناء المدن والعشائر، بأنها قومية! ويصف وحدة المسلمين "شيعة وسُنة" تحت رايات الجهاد الإسلامي بأنها وحدة قومية!! ويتطاول أكثر ليرسم للقوميين العرب دوراً قيادياً في ثورة العشرين، بل دوراً مؤثّراً على قائد الثورة!) (7).

(ولا بُدّ أن نُشير الى أن بعض القوميين العرب، يقتنص ألفاظاً دالةً على الشعور القومي، مُتسرّبَة من أفواه وبيانات العلماء، ومن بعض آراء وسلوكيات رؤساء العشائر، ليتخذ منها ذرائع لفظية، مؤيدة وداعمة لتحليله المُنطلق من الفكر القومي لحركة الجهاد الإسلامي، فمثلاً، حينما يتناول تشكيل الحكومة المحلية في النجف وكربلاء بعد الهزيمة في الشعيبة، يصفها بأنها معادية للأتراك، وقدّمت العون والمساعدة للإنكليز، ثم يُعمم ذلك الى زعماء العشائر في الفرات ليجعلها ظاهرة عامة منطلقة من التوجه القومي العربي) (8).

ثُم يتطرّفُ في النقد ليجعل نفسه داعيةً للقراءة الموضوعية في خطابه المُوَجّه للقوميين:

(ولنا إلتفاتة أخيرة، لدُعاة القومية العربية، ندعوهم ـ أدبياً ـ ألاّ يُحَمّلوا أحداث التاريخ أكثر مما تتحمل، فإن التفسير التحميلي القاسي يُسيء لهم أكثر مِمّا ينفعهم. فالأحداث هي اللسان المُعبّر عن خلفياتها الفكرية، ومنطلقاتها الحركية) (9).

ما علينا الآن إلاّ الرجوع لكتاب د. وميض نظمي، لنتأكّد مِمّا أثبته د. جواد مالك:

يُقرّ نظمي ب"خصوصية" حالته، فالعيب الأساسي في أكثر الكتابات عن الثورة أنها كانت "أُحادية النظرة" تميل لتضخيم دور هذا الفريق أو ذاك من أطراف الحركة الوطنية على حساب باقي العناصر، أو بالأحرى على حساب الحقيقة (10). وبشأن المصادر فهي غزيرة ومتوفرة بالعربية والإنكليزية، لكن ـ كما يبدو لنظمي ـ أن أغلب الباحثين العرب لم يتمكّنوا من الإطلاع على المصادر الإنكليزية، في حين إن أغلب الباحثين الإنكليز لم يتيسر لهم الإطلاع على المصادر العربية (11). وقد قَدّمَ نظمي أدلّةً على مُدّعاه "قومية الثورة"، وحصرها بثمان نقاط (12). وبرأينا أن "الإستنتاج المتوازن" سِمة بارزة عند نظمي:

(لا يجب المبالغة بالقول بأن الثورة كانت قومية محضة، كذلك فإنه من قُبيل التبسيط المفرط الإدعاء المقابل بأنها كانت مجرد إنفجار عشائري فوضوي وعشوائي، أو الزعم بأنها كانت مجرد إستجابة دينية لبعض الفتاوى) (13).

فهل فعلاً كانت دراسة د. نظمي كما رأيناها عند الباحث جواد مالك؟!

ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدَ! بل وجدنا عدم دقة د. جواد مالك في النقل! يقول:

(للأسف نجد أن الأستاذ د. وميض نظمي، إستجابة لعصبيته الفارغة، يهرب من تفسير الأحداث بالمنظار الواقعي ويبدو عليه بعض التخبط، فيذكر شيخ الشريعة الأصفهاني بقوله: "كان شيخ الشريعة الأصفهاني، وقد ساهم بنشاط في الجهاد الذي أعلن ضد الإنكليز بعد غزوهم العراق إلا أنه تفاهم معهم بعد ذلك! وكان من مناصري الدستور الأشداء، وكانت له صِلات مبكرة مع الإنكليز .. وقد أصبح المجتهد الأول في منتصف الثورة ولعب دوراً مهماً ولكن وسيطاً في تلك الأحداث" .. من دون أن يُشير الى مصدر واضح) (14).

بعد رجوعنا لكتاب د. نظمي، تَبيّنَ لنا أن جواد مالك قد قام برفع عبارة مهمة جداً! يقول نظمي عن شيخ الشريعة الأصفهاني:

(وكانت له صِلات مبكرة مع الإنكليز ]من[ خلال كونه أحد موزعي "وقف أودة") (15). فقد "أهمل" محمد جواد مالك عبارة: من خلال كونه أحد موزعي وقف أودة! ولا يخفى على القارىء الذكي أن هذا الحذف سيجعل كلام نظمي مُعَلّقَاً في الفراغ بلا دليل! وهذا ما أراده جواد مالك!.

لم نقف عند هذا الحد، فقد رجعنا للطبعة الأولى لكتاب نظمي المُستخدمة من قِبَلِ د. جواد مالك. فمن الممكن أن تكون غير موجودة فيها ومُضافة في الطبعة الرابعة المتوفرة بحوزتنا. فوجدنا العبارة نفسها مع الفارق (وقف عودة) (16).

أما ما زعمه د. جواد مالك بان نظمي لم يُشر لمصدر واضح. فقد وجدنا المصدر واضحاً في حواشي د. نظمي! وهو مصدر إنكليزي مُثبَتٌ بتمامه (17).

صراحة، لن نُطيل أكثر في تَتَبّع هفوات د. جواد  مالك مع القوميين مُمثلين بالدكتور نظمي. إذ يكفي أن نعرف أنه ـ جواد مالك ـ يعتبر أن أطروحة نظمي مُصاغة خدمة للمشروع الإستعماري!! (18).

برأينا أن المنزلق الذي وقع به الباحث هو نتيجة طبيعية لتوجهه الإسلامي المتشدد. فعبارات "المعجم الإسلامي" لها حضور لافت في دراسته. بل إنه يحمل حملة شعواء على "المشروع العلماني"، ويرفض مبدأ "فصل الدين عن السياسة" (19). ولن يتسع المقام للوقوف معه في هذا المجال، إذ توجد "قراءات" أخرى أكثر مرونة للإسلام قياساً بقراءته الأرثوذكسية المتطرفة.

وفي الختام:

نحن لا نستكثر على الباحث تركيزه على التوجّه الإسلامي المعارض في الحقبة التأسيسية، فهو أمر مشروعٌ بكل تأكيد. لكن القراءة المنضبطة المتوازنة هي المطلوبة بعيداً عن التخوين والتجريح. وطبعاً لم يكن غرضنا الإسهاب مع الباحث، فهذا ما يحتاج لوقفة ـ بل وقفات ـ مُطوّلة.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

.....................

الحواشي:

1ـ محمد جواد مالك: شيعة العراق وبناء الوطن / دراسة تاريخية منذ ثورة الدستور حتى الإستقلال 1908 ـ 1932، تقديم: د. محمد حسين الصغير، العراق كربلاء المقدسة ـ العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت ط1 2012 ص22 الى 31

2ـ يشنُ الباحث حملة مُكثّفَةً مسعورة ضد "قراءة د. وميض نظمي"، وهذا ما سنتناوله لاحقاً.

3ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص30

4ـ كمال مظهر أحمد: أضواء على قضايا دولية في الشرق الأوسط، الجمهورية العراقية ـ وزارة الثقافة والفنون، دار الحرية للطباعة بغداد 1978 ص243

5ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص19 و 20

6ـ سيتضح بموجب هذا التوجّه أن الباحث قد أُصيب بنفس الداء الذي أُصيب به غيره! فنقطة الإنطلاق الإسلامية المتطرفة للدكتور مالك، لن تختلف عن "نقطة الإنطلاق القومية والماركسية" المُدَانّةُ من جانبه!!.

7ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص28

8ـ المصدر السابق ص323

9ـ المصدر السابق ص324

10ـ وميض جمال عمر نظمي: ثورة العشرين / الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط4 2020 ص16

11ـ المصدر السابق ص20

12ـ المصدر السابق ص18

13ـ المصدر السابق ص15 وبإمكان القارىء الكريم الرجوع  الى مقالنا الموجَز عن كتاب د. نظمي في:

صحيفة المثقف الألكترونية: د. وميض نظمي وقومية ثورة العشرين، بقلم: معاذ محمد رمضان، نُشِرَ بتاريخ 27 تشرين الثاني 2020

14ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص534 الحاشية رقم 2

15ـ وميض نظمي: المصدر السابق ص121

16ـ وميض جمال عمر نظمي: الجذور السياسية والفكرية والإجتماعية للحركة القومية العربية "الإستقلالية" في العراق، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت ط1 1984 ص121 . ولا بُدّ لنا من تقديم الشكر الجزيل للصديق العزيز "الباحث في تاريخ إيران المعاصر" الأستاذ جعفر بغدادي على إعارته لنا هذه الطبعة من كتاب نظمي.

17ـ وميض نظمي: المصدر السابق ص121 الحواشي الأربعة.

18ـ محمد جواد مالك: المصدر السابق ص834

19ـ المصدر السابق ص830 و 831

في المثقف اليوم