قراءات نقدية

بوح الوجع رواية الحب الذي لا ينتهي

657-munaصدر للرّوائي الجزائري "محمد الأمين بن ربيع" رواية جديدة بعنوان "بوح الوجع"، أتذكر جيّدا كيف كان لقائي بحروف هذه الرواية، كان لقاءا مليئا بالفضول لمعرفة ما تحمله هذه الحروف من أسرار !

قرأت ماجادت به قريحة الروائي من قصص جميلة تحمل ألم الحب، الفراق، الصراع للبقاء على دين الحب في عمق كل شخصية سكنت معمار الرواية، فكانت فصول الرواية تبقينا في هيئة التأهب المستمر لمعرفة ما سيكون مستقبلا عبر رسائل متنوعة؛ منها الرسائل الإذاعية ومنها الرسائل الهاتفية القصيرة المركزة التي لا تقبل التحليل البسيط أبدا، فقد اندمجت بنص الرواية بشكل يعكس تماما مدى قرب الرسائل من بنية النص الحكائية.

 

1- الفكرة / الفهم:

657-munaعالجت بوح الوجع موضوعا لا يمكن القول عنه أنه لم يُعالج من قبل، ولكنه يختلف تماما من حيث التجربة؛ فهي رواية تنقل أوجاع المحبين، أوجاع أناس كانوا ولا يزالون لحد الساعة يؤمنون بمقولة أرسطو: إن الحب الذي ينتهي ليس حبا حقيقيا. تستنطق الحدث الإنساني من أفواه الحقيقة، من معاناة عاشت بين جدران عازلة في موطن حزين اسمه القلب. فكان الموضوع الذي رسمت صورته هو الحب، فكانت معالجته معالجة عن قرب إذ نجد الروائي يقترب شيئا فشيئا أثناء بناء الشخصيات ليتمكن من السكن في عمق كل منها على حده بطريقة هادئة متماشية مع طبيعة اللغة الهادئة المعالم الملغمة الخبايا، هدوء يسبق العاصفة التي تنقلنا إلى مضمار أبعد: إنه التوجس من كلمات أصبحنا نحن من يسكنها؛ فالحروف التي بنت النص الروائي بطريقة بسيطة سطحيا ما تلبث حتى تسكن القارئ دون استئذان.هنا أصبح القارئ دون علمه أحد الشخصيات المحورية المحركة لقلب الحدث السردي، هو العاشق المتألم، هو المظلوم هو الظالم، هو الوحيد المتألم في العالم يكفكف الدمع الذي كان حصاد تجربة مؤلمة مع من يُحب.

أخبرنا "أفلاطون" إن حباً ينتهي ليس حبا لأن الحب شوق إلى الخلود، أجل يحدث أن تلامس تجربة أقرب الناس لنا شغاف القلب فنكون بذلك المتحدث الرسمي عن أكثر شيء جعلهم يدخلون الإنسانية من أوسع أبوابها، إلا أن عملية النقل لهي من أكبر التحديات التي لا يمكن لأي مبدع خوضها مهما كان رصيده واسعا على مستوى الخبرات الفنية، فالعاطفة من أكثر المواضيع التي لا يمكن التكهن بمدى صدقها ودرجة الانفعالية التي تصاحبها وحتى النتائج التي قد يصل إليها الإنسان جرّاء خوضه لتجربة الحياة كما أسميها؛ فهي توترات لأفق الإنسان هو ذاته لا يفقه مكمن تحركها، إنها كما يخبرنا عنها سقراط شوق النفس الإنسانية الملّح إلى الجمال الإلهي، نبع الحب الحقيقي الذي لا ينضب والذي لا غاية له إلا الحب.

 

2- الكتابة/ الحقيقة / الواقع:

تفصل بين الكتابة الفنية (الروائية) والحقيقة أي الواقع منطقة لا يمكن لأي قارئ استيعابها إلا إذا أدرك حقيقة فنية مفادها: إن الروائي قلم يريد رصد الحقيقة ويريد تحقيق معادلة المشاركة الفعّالة القريبة طبعا من النفس البشرية. لاجرم إذن لو قلنا إن وظيفة الكاتب تتعدى الوظيفة الفنية لتنتقل إلى الوظيفة الإنسانية، فكل إنسان في الحياة يتخير لنفسه نمطا مناوئا لغيره ليثبت مدى إنسانيته.

هكذا جرت الحال مع الروائي في مولوده السردي بوح الوجع، فكان قلمه ينتقل بين توترات وعواصف العواطف المختلفة لأناس حقيقيين جرى بناء الشخصيات الفنية على أساسهم ليكونوا بذلك المحركين الفاعلين في تمفصلات الحكي، فأضحت كل مقطوعة سردية تعبيرا عن حالة إنسانية لها خصوصيتها وكينونتها المستقرة في فلك الكتابة.

هل يمكن أن نؤكد مقولة الحقيقة الواقعية في ظل وجود الحقيقة الفنية؟

إن انتقال مشاعر القارئ نحو عيشه التجربة أثناء القراءة لهو أكبر دليل أن النص لم يعد حقيقة واقعية، بل نصا فنيا يحسبه كل قارئ نصه الذي تكتبه الحياة لا المبدع،هنا يكبر حيز الفنية والتلقي المتعلق بالإنسانية معا، ليجعل من الشخصيات المكتوبة على الورق نابضة بالحياة في قلب كل قارئ. من العجائبيات القرائية عند الإنسان الانتقال من قصة تُسيرها أحداث سردية إلى أحداث محايثة للحياة الزمنية القرائية. إذ تبلغ رغبة القارئ في عيش القصة برمتها ذات زمن فتكون العلاقة بين القارئ والنص الإبداعي وفق معادلة مفادها: وجود نص يحمل حمولة إنسانية اضافة إلى قارئ يُنتج لنا في آخر المطاف نصا حقيقيا آخر يعيش في قلب كل قارئ، هكذا كانت تسير تفاصيل الرواية داخل حياة القارئ.

 

3- تيمة الحب/ تيمة البقاء:

من دخل سر الحب لامس الحقيقة وعاين من خلالها الذات الإنسانية الأصيلة والنبيلة المرتبطة بما هو أبعد من الجسد والحواس، كما أنه أيقن إن الإنسان كتلة حب متحركة غاية وجودها الوحيدة هي الحب من أجل الحب، لأن الحب كما يراه أفلاطون وسيلة للخلاص.

هكذا كان الحب يسكن جدران الحكي داخل بوح الوجع، ذلك النص العميق الذي حاول بنجاح نقل جل التوترات العاطفية عن قرب.إذ القارئ للرواية يجد أمامه -من خلال الرواية طبعا- تخطيطا قلبيا فنيا يؤرخ لقصص جميلة ومؤلمة في ذات الوقت غايتها في الحياة أن تجعل الحب دينا ومنهجا ، حياة واقعية وشخوص من ورق وحروف من حبر تحمل التجربة من العمق إلى السطح لتسكن روح القارئ بكل قوة.

يحدث أن يكلمنا صديق قريب عن تجربته في الحب، ولكننا نعجز في أكثر المرات أمام نقل بوحه وشدة ألمه خاصة إذا تعلق الأمر بنقل التجربة للآخر/ صعب المراس والتقبل والمختلف من حيث الذوق والفهم، فالتحدي هنا يكمن في نقل معاناة الروح البشرية لروح بشرية أخرى تريد الحياة، ذات الحياة التي قتلت أحدهم ذات زمن.

الأمر جلل على قلم يريد البوح بوجع غير صريح، غير معروف المكامن، هنا يصبح نقل الألم مشاركته وعيشه قبل كتابته فلعنة الكتابة أكبر بكثير أمام البوح؛ لأن معالجة تيمة الحب داخل النص الروائي لم تعد معالجة عادية ضمن أحاديث بسيطة إنما أضحت ذات أبعاد فنية تريد أن تعيد للقصة التي أدهشت حساسية الكاتب الحياة من جديد لتستقر طبعا داخل وعي القارئ.

 

4- النص/ التقبل/ الرفض:

معظم النصوص التي تتناول مواضيع حساسة كالحب والجنس والسياسة والدين تكون نصوصا مهددة بحكم الذوق، الذوق القرائي الذي يتكون لدى القارئ جراء مجموعة من المحصلات القرائية       في مختلف المجالات: السياسية والدينية والثقافية وحتى النقدية، إلا أن النظرة الأولى التي تلامس النص هي النظرة النفسية، فالقارئ يحب ما اقترب من روحه وأشبع لذة تطمح لها مخيلته الواسعة، وينفر من النص الذي يجافي اللذة التي يطمح إليها. لذا كان النص الأكثر قربا من القارئ هو ذلك النص الذي يعتمد على تقديم الموضوع الروائي بلغة فنية تجعل النص الإبداعي يتخطى حدود التجربة النقلية لأحداث موجعة ذات زمن دهشة.

عبرت بوح الوجع عن تجربة الحب بطريقة مزجية للأجناس الأدبية، إذ يجد القارئ نفسه داخل عالم الرسالة التي تحمله بخياله إلى تأثيث الفكرة بحقائق ذاتية أكبر مما يحملها السرد في حد ذاته.

تتواصل الرسالة في الظهور على مستوى مساحات السرد للكشف عن مجريات الحدث الرئيسي لتوقع القارئ في فخ جميل هو بناء نهاية لمجريات الأحداث، فلا ينفك يقرِّر أثناء القراءة مصير الشخصيات، وتراكمات الأحداث، واستعجالية السرد أثناء تباطئه وتوقفه لوصف يثير القارئ على ركوب جناح السرعة القرائية لمعرفة ما إذا كان المصير المحبوك أثناء الزمن القرائي هو ذاته المصير المحبوك زمن كتابة النص في حد ذاته.وهناك من يجد ذات النتيجة و هناك من يجد تدميرا لأفق توقعاته فتكون نتيجة مخالفة تماما للبناءات القرائية التي نسجتها مخيلته، فالوتر الحساس الذي تحمله الرواية داخلها يتلاعب بمدى حساسية القارئ تجاه مواقف مشابهة أكثر من اللعب على ميزان التأثر بالتجربة في حد ذاتها.

 

إعداد الأستاذة: منى صريفق

 

في المثقف اليوم