قراءات نقدية

الشعر والألم يتصارعان على صور القصيدة في ديوان (نغم على وتر القلوب) للشاعر صادق البعاج

hasan albasamصدر ديوان (نغم على وتر القلوب) للشاعر الدكتور صادق البعاج عن مؤسسة (دار كلمة) في مصر / 2015 احتوى على 64 قصيدة وجدانية ووطنية في 160 صفحة .

وقد إرتأيت أن أقرأ ديوان الشاعر قراءة تذوقية فقد لامست وتغلغلت سخونة القصائد وعواطفها الجياشة وموسيقاها الباذخة الى شغاف القلب ..إهتم بالموسيقى إهتماماً ملحوظاً وقد أولى جميع القصائد عناية واضحة للوزن والقافية، وهي من قصائد التفعيلة ..معتمداً على دربة أذنه الموسيقية لكون ذائقته تربت في أرض خصبة بالشعر والأدب في منتدى البعاج / الوالد، فانطبع الشعر بموسيقاه الأخاذة على أوتار أذنيه وهي يافعة، ليوظف عاطفته المشبوبة ويطفئ إحتراقها، وإن ألم الشوق والقلق أصبحت من سمات القصائد وعلاماتها الفارقة ..بوح شجي حزين وأمنيات ترتدي ثوب الوحشة بغياب الحبيب، يحترق كعود طيب يترك بصمات العطر على المكان ..وقد استحضرت تلك العلاقة الأزلية بين الشعر والطب ولم أستطع أن أحدد ماإذا كان طبيباً شاعراً أم شاعراً طبيباً فإن منبتهما في أعماق التجربة الطويلة، وقد وجدت إن الألم هو السمة المشتركة بينهما، ألم الجسد في الطب وألم الروح في الشعر .. وفي الإثنين تتجلى الرحمة والعاطفة والإلهام والخيال والموهبة ..لايمكن أن يكون الطبيب بلا رحمة أوشاعر يخلو قلبه من الرحمة .لايمكن للطبيب ان يكون غير ملهَم او دون خيال خلاق يقوده لاكتشاف الأسباب او النتائج يميزه عن رجل المختبر الذي يعتمد نتائجاً رقمية ..نتائجاً ملموسة وليست حسية .. إن الشكوى المتكررة في خطوط البوح هي شكوى منتجة للشاعرية وليست لإرهاق المتلقي فهو لايبث نجواه ولواعجه،توجعه وألمه لكونه معني وحده بالألم إنما هو تعبير عن الذات الإنسانية في اختلاف مشارب العشق ..هي ليست مقتصرة على ذات الشاعر ليرهقنا بأنينه وشكواه إنما هي حالة إنسانية متوالدة لاتقف عند جيل أو زمن أو حالة ..وهذا ماجعل الغزل شعوراً عاماً والهيام بالحبيب صفة العاشقين والشكوى لازمة المخلصين الذين أذاب مهجهم الجوى ..وإن إختلف الأسلوب الا أن البوح من رئة العشق ذاتها ..وقد عبر الشاعر باسلوبه المائز بتعبير صاف وخيال خصب أقرب الى الصوفيين الذين هذبوا مشاعرهم بالألم والصبر.

يقول محمد الخليلي في كتابه معجم الأدباء والأطباء (إن الطبيب والشاعر يجتمعان معاً في استعمال الحدس الصائب والتعمق في دقائق المحسوسات وذلك لأنه لايبني فنه الا على المنطق والمحسوس وإن منطقة هذا ليس سوى حدس وتخمين في الابتداء فهو بذلك كالشاعر الذي يتكلم بلسان الحدس والعاطفة) .

وقد أجاب الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي على سؤال (طب وشعر كيف يجتمعان ؟)بقوله :

والناس تسأل والهواجس جمة

طب وشعر كيف يتفقان

الشعر ملحمة القلوب وأسره

هبة السماء ومنحةالديان

والطب مرحمة الجسوم ونبعه

من ذلك الفيض العلي الشان

لاتحتاج أن تنتظر طويلاً وأنت ترمي بسنارتك في مياه القصائد العذبة الشفافة لتصطاد أسماكاً ملونة بالعاطفة النقية فهي واضحة للذائقة ومرحة أو حزينة تتقافز أمامك وتشاكس قلبك الذي تخاطبه بلسان واضح وباسلوب مباشر يرتدي البسة مزركشة بالورود والغدران ومشرقة في خطاباتها ..واحذر من أن ترمي بسنارتك بقوة سوف تستفزها وتتقافز بعيداً عن أنامل القلب ..إنها تسبح في مياه الحلم دافقة المشاعر طعامها البنفسج وهواؤها العطر تغري القلب بالمسرة رغم وشاح الحزن ونبرة الألم الذي تعاني منه الا أنه حزن منبعث من قلب عاشق يشكو من هجر المعشوق أو غيابه أو بخله .

رفعة الانسان ان يكون موهوباً ..هي ميزة خصها الله إنسانا دون آخر، يتحول الى مايشبه النخلة في عطائها متدلية ثمارها يانعة شهية ناضجة، وإن ديمومة العطاء دليل على أصالة الموهبة الدافقة ..ذلك هو الشاعرالدكتور البعاج الذي خصه الله بشمسين في افقه ليشرق في الطب والشعر.

مسكون بالمراة حد الإختناق أو الغرق، وهي واقع جميل أو حلم يحاول الإمساك به حيث براعة الشاعر تمكنه من إستدعاء الحلم الى بساط كلماته الشفافة ..وأعتقد إن فرط الصدق في مناجاته وبوحه وأحلامه يتشكل من نسيج حقائق معاشة وتجارب ساخنة لم تبرد بعد لحظة كتابتها، وأحاسيس حقيقية قد فاضت تجرتها من حواشي القلب ولم يستطع كتمانها فانكشف سرها على يد القصائد ليعالج إزدياد وجيب القلب وتسارعه المضطرب وإزدياد خفق القلب، بعشب الشعر وبمشرط الحروف لامتلاكه إسلوباً طيعاً تتغلب عليه سهولة بنضوج المشاعر وتناسق الموسيقى وحميمية المشاعر وسخونتها .

بدأ الديوان بقصيدة (الهوى ذباح) العنوان فيه مبالغة عرف بها العاشقون، ليصب صراخه في آذاننا كي نتعاطف معه :

هذا الهوى / في خافقي ذباح / ان الجوى / ياصاحبي أقداح

وتذوب ذات الشاعر وتضمحل ليفتدي بها الحبيب:

روحي فديتك / خافقي مع مقلتي / يامن لعشقك / تُفتدى أرواح

ثم يختتم القصيدة بأمان أسرجت القلب لتندفع نحن آفاقها الرحبة :

أواه مابيني / وبينك أبحر / القلب مُدمى / والبكاء نواح

وفي قصيدة (حب الفؤاد) يتجلى الألم في ذروته إذ تبتدئ بالبكاء:

بكى منك الفؤاد / هوى وطابا / وقد متعت / بالحب الشبابا / فياألق الدنى / في كل زهو / سألت وابتغي / منك الجوابا

إنه الضباب الذي يتزايد على حدقة العشق،كلما فتح عينيه واتسعت لهفة على غياب الحبيب او قلقاً على مصير نسيج المشاعر من التبدد على غفلة من القلب :

فكم من خافق / قاسى وعانى / ولاقى من / احبته العذابا / وكم من عاشق / لم يلق خلاً / واصبح عشقه / حلما سرابا / وعانى فيكِ / من سهد ووجد / وفاض صبابة / عمرا وذابا

ولكن رغم فيوضات عذاباته إلا أننا نجده يقول:

ولاتزرع بذوركَ / دون سقي / فمن لم يسقِ / زرع الود خابا

وفي قصيدة (عشق الروح) يكاد يجرفه سيل العشق على الرغم من أن جذوره ضاربة في أعماق السنين :

عشق تغلغل / واحتواه فؤادي / من بعد ما / خط المشيب سوادي

لكن يعود ثانية الى حاضنة الألم الى ماتضمره ذاكرته من خشية ووجل :

ولقد تعبت / لما رأيت من الهوى / فسددت داري / وارتضيت بعادي / ولقد ضنيت / من الهوى ومن النوى / والقلب جمر / حائل لرماد

وعلى الرغم من ان الجمال كان النافخ في رماد السنين:

ماكان لي / هذا الجمال لأحرفي / لو لم يكن / خضر العيون مدادي

لكننا نرى الدموع تتحول الى دماء شوق ولهفة من عصيان الزمان وعناده في قصيدة (سالت دمائي):

سالت دمائي / من عيوني أدمعا / والقلب أصبح / في شجوني مولعا

ويخاطبها في قصيدة (حواء) معاتباً ..الا انه يعود في خاتمتها في غنائية جميلة قائلاً:

ياظبية أهلكت / في الحب من نفر / ان تطلبي الروح / في كفيك ألقيها

إنها صوفية العاشق الذي تبتهل روحه الى الذوبان في روح المعشوق او أن تضمحل ذاته في ذات الآخر ..حياته تتحقق في متعة الفناء فيه .

ونجد الهجر أو الفقد في قصيدة (شطآن بحرك) تشغله وهو سارب في دروب الهوى ملتذاً بتحليقه إلا إن القلق يشغله :

وكيف يزوغ / حبك من فؤادي / ونبض الوجد / يغمر خافقينا

وإن مخيلته المكتظة بالحنين تصنع له قفصاً قضبانه ساخنة بالشوق وهو لايتمكن من نسيان اللوعة والاسى والعتاب المر:

ولقد أتيت / أزور عرشك مرغماً / يامن بأشواق / الغرام سجنتني / ولقد وهبتك / أحرفا من جعبتي / فسلبت ورد / العمر ثم تركتني

وفي قصيدة (حلمي الأخضر) يناجيها أن ترد له قلبه وهو يتأسى لوعة على غدر الزمان ويرجو الله ان يشرق الصبح وهو يحمل الجديد:

قد يكون الصبح آت بجديد / قدر الأصباح فيها تتمهل

وفي قصيدة (الموت وفراق الاحية) كتبها الشاعر متأثراً بحالة صديقه التي توفيت زوجته بعد زواجه منها بثلاثة أشهر سبقتها خمس سنوات عشق ووجد :

انت ياحلمي وياعمري / الذي ضيعته بين / بكاء وأنين / لم يكن عندي / بالحسبان يوماً ترحلين

وتتسامى عاطفته في قصيدة (قصة حب) وهو يصور نسائم الحب كيف تقلب أوراق الرؤى :

قد أثقل الشوق / مسار الحب / حتى أثقلت أعناقنا / وأتى خريف العمر / يعبث في رؤى أوراقنا / ياأنت يابدر السما / وياجمال الطيف في ازماننا

ويختم قصيدة (نجم السماء) بنبرة حزينة واستسلام لقدر الرحلة رغم إنه متشبث بالحلم :

وأعلم أني / قتيل هواك / ونورس حبي / يوماًيغادر / دعيني لأحلم َدوماً / وقولي بحقيَ / كهل مغامر

وقصيدة(اين الرحيل..؟) إستنكارا واستغرابا فقد كان في غير أوانه:

ياغادتي الحسناء / من قلبي المتيم والعليل / ولقد روينا وردنا / بدموعنا / ..وتعانقت / أرواحنا فوق النجوم

ونجده معترفاً بتضرج حياته بالعذاب وهو يتوسل قطوفها الدانية:

أنا احيا / في عذابات غيابك / ساهراً ليلي / على محراب بابك / طالباً وردَ / شفاه مع رضابك

وتوالد خفقات القلب ألماً في دفق القصائد المفعمة بالمناجاة والشكوى والتذمر والألم ..ففي قصيدة (أحبك) يدعو الى كفكفة الدموع لانه يرتجي من الله الرحمة :

فكفكفي الدموع ثم لملمي الاحزان / علّ حبنا ترحمه السماء / يوماً من الأيام

وتتجلى سخونة العتاب في خطاب القصيدة الشجي (يامن جرى):

توجت رأسكِ / ألف تاج بالهوى / لكنها ضاعت عليك / أسفي عليك.. أسفي عليك..

ويشتد العتاب والأستغراب ويتدفق نزيف الألم في قصيدة(ماذا دهاك..؟):

كم قلت لي / في القلب مأواك الجميل / لاياتي اليوم الذي / انساك فيه مستحيل مستحيل / ماذا جرى محبوبتي / لِمَ تدّعين بانك ستسافرين

 

20-4-2015

في المثقف اليوم