قراءات نقدية

قراءة في الشعر السياسي لنزار قباني

jafar almuhajirالشعر الحقيقي هو الشعر الذي يغور في أعماق الإنسان ويعبر عن خلجاته بكل إخفاقاتها ونجاحاتها، وسعيه الدائم للوصول إلى عالم تسوده قيم الخير والمحبة والجمال. وعندما يختط الشاعر هذا المسار يجب عليه أولا أن يدرك واقع مجتمعه، ويعيش طموحاته وآلامه وآماله بكل دقائقها لكي لايتحول شعره إلى عبارات لفظية مبهمة تأتي وتذهب ولا تترك في نفس المتلقي أثرا يذكر بحجة (تفجير اللغة من الداخل) أو(الحداثة) والحقيقة إننا نقرأ اليوم الكثير من التهويمات والرموز والإشارات والطلاسم التي تنقلنا إلى بئر مظلمة خالية من أية نقطة ضوء أو مضمون يدل على الشعر الحقيقي.

لكن الشاعر الراحل نزار قباني إبتعد عن هذا المسار، فكان معظم شعره أبعد مايكون عن التعقيد والغموض ومن خلال (السهل الممتنع) الذي كتب به قصائده. فكون له من خلال تلك القصائد جمهورا واسعا على مستوى الوطن العربي وخاصة في قصائده السياسية من خلال مقولته:

(لو لم أكن ملتصقا بواقعي لآختفيت من خريطة الشعر من زمان بعيد.)

وغالبا مايقترن إسم نزار قباني بأنه (شاعر المرأة) نظرا للكم الهائل من القصائد التي كتبها عن المرأة .ويتوهم الكثيرون بأنه تناول المرأة جسدا فقط واتهمه البعض بأنه (متهتك) في قصائده الغزلية . ورغم كل ماقيل في هذا المضمار علينا أن لانغفل أن نزار قباني تناول أيضا في الكثير من الشعر الذي تركه عالم المرأة الإنساني والقيمي والروحي وعندما يطلب الحرية للمرأة والوطن والكلمة فأنه يطلبها بمفهومها الشمولي والمطلق من خلال قوله :

(الحرية التي أطلبها للمرأة هي ممارسة خياراتها وإنسانيتها وتركها في مواجهة إنسانيتها دون أن يقطع رأسها وترمى في صندوق الزباله.)

ونحن متذوقوا الشعر لايمكننا أن نقولب الشاعر وقق مفاهيمنا ومعطياتنا الخاصة بنا ولا يمكننا محاكمته على تلك القصائد الغزلية التي تضمنتها دواوينه رغم اختلافنا معه، وتعارض أفكارنا مع أفكاره وعلينا أن لانجلد الشاعر الكبير نزار قباني لقصائده الغزلية التي كتبها في فترة معينة من عمره الشعري ونركز عليها فقط ونقول هذا ماكتبه الشاعر وأن ننسى الغزل الذي كان غرضا من أغراض الشعر الرئيسية في الشعر العربي وكل شاعر له حججه وأفكاره ومفاهيمه التي ينظر بها إلى هذا الموضوع . ولست في موقع يؤهلني لتصيد هفوات الشاعر نزار قباني وهو في العالم الآخر.

إن الشاعر نزار قباني شاعر كبير ولد من رحم أمته، وغاص في أعماق الشعر واستخرج منه دررا ثمينة تركت بصمات واضحة على الخريطة الشعرية في الوطن العربي فهو لم يكن شاعرا عبثيا كما صوره بعض النقاد ولم يكن بعيدا عن هموم أمته وتأريخها وإرهاصاتها وتطلعاتها وما تعرضت له من ويلات على أيدي الغزاة والحكام المستبدين الذين تعاقبوا عليها ويحكمونها بقوة السيف إلى يومنا هذا . يقول نزار في أحدى قصائده النثرية:

جئتكم من تأريخ الوردة الدمشقية

التي تختصر تأريخ العطر

ومن ذاكرة المتنبي

التي تختصر تأريخ الشعر

جئتكم من أزهار النارنج

والأضاليا والنرجس والشاب الظريف

التي علمتني أول الرسم

جئتكم من ضحكة النساء الشاميات

التي علمتني أول الموسيقى

وأول المراهقة

ومن مزاريب حاراتنا

التي علمتني أول البكاء

ومن سجادة صلاة أمي

التي علمتني أول الطريق ألى الله

إلى أن يقول :

في قلبي شيء من أحزان أبي

وفي عيني

قبس من حرائق ديك الجن الحمصي .

إذن هو أبن بيئته التي تنسم عبير أزهارها الشامية الفواحة، وترعرع في تربتها المليئة بالخصب والنماء والانبهار والعنفوان والتأريخ الحافل بالشعراء والقصص الإنسانية والحكايات الشعبية.

لقد كتب نزار قباني قصائد سياسية ووطنية متميزة تركت صدى واسعا وإعجابا منقطع النظير تداولتها ملايين الألسن المصادرة في الوطن العربي لأنها وجدت فيها التعبير الحقيقي عن واقعها المزري المعاش . وكانت تلك القصائد الوطنية السياسية كالسياط الحارقة التي ألهبت ظهور الطغاة والجلادين الذين وجدوا فيها تحريضا للجماهير المضطهدة في أوطانها للخروج من حالة الظلمة والقهر التي تعصف بها من قبل أصنامها التي لاهم لها سوى التسلط بالقوة والبطش على رقاب الملايين .

يقول نزار في أحدى مقالاته: (أن الشعب العربي خارج لتوه من سراديب التخلف والسحر والشعوذة . وعلى الشاعر العربي في نظري أن يساعد على إضاءة الطريق وجعل الشعر شمسا تشرق على كل الضائعين والخائفين والمستلبين والمعذبين في الأرض).

ويقول أيضا في أحدى مقابلاته: (كنت أبحث عن الإنسان بصرف النظر عن لونه وجنسه أو غناه أو فقره أو موقعه الاجتماعي وكل شعر لايتجه إلى الإنسان ولا يصب فيه هو شعر عبثي وهامش الإنسان هو محور هذا العالم وهو القضية الكبرى التي تستحق النضال من أجلها والكتابة عنها.) ولا شك أن الإنسان العربي في طليعة المقهورين في هذا العالم وهو منذ قرون مستلب الإرادة، مهدور الكرامة، تتعقبه عيون العسس في كل شبر من وطنه. والخروج على الحاكم المستبد هو خروج عن طاعة الله كما يدعي السلطان وأعوانه. ليبقى جاثما على صدور الملايين إلى أن يقطع الله أنفاسه. وهم يسخرون كلام الله لخدمة السلطان من خلال الآية الكريمة:

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

لقد كتب نزار قباني قصائد وطنية متأججة ترفض الظلم والقهر وأدان مايقوم به سلاطين القمع وأصنام الجبروت من خلال قصائد كثيرة منها (السيرة الذاتية لسياف عربي) ويقال أنه كفر عن خطيئته بمقابلة الطاغية (صدام حسين) في هذه القصيده بعد أن اتضحت له الحقيقة البشعة لذلك الدكتاتور وقصيدة (أحمر أحمر أحمر) وقصيدة (أبو جهل يشتري فليت ستريت) وقصيدة (تقرير سري جدا من بلاد قمعستان) وقصيدة (لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان) و(هوامش على دفتر الهزيمه) و(قراءة ثانية لمقدمة بن خلدون) وغيرها وكل تلك القصائد كانت صرخة مدوية في وجوه الحكام العرب الذين تسلطوا على شعوبهم دون وجه حق وعضوا على كراسيهم بالنواجذ إلى النفس .

إن القاسم المشترك بين هذه القصائد هي أنها تعبر بطريقة السهل الممتنع عن مأساة هذا الشرق العربي الذي أصبح سجنا كبيرا لشعوبه المقهورة التي تحكمها هذه الأصنام وتطالبها بالجلوس على رصيف الصبر إلى مالا نهاية لتسبح بحمدها. لأنها مانحة البركات، وسبل الحياة. وللشعوب الشرف بأن تتغنى باسمها الأعلى ومقامها الأسمى تحت شعار: مليكنا - رئيسنا ياصاحب الجبين الوضاح .. ياوجه السنا والصباح .. سنظل إلى الأبد نفديك بالأرواح .. لأنك الأول والآخر والأنقى والأطهر ولا يوجد أحد في هذه الدنيا يجاريك في عفوك وحلمك وعطفك ومروءتك وسنظل بعدك لاسامح الله كالأيتام في مأدبة اللئام وسيكون مصيرنا الهلاك أن غبت عنا فنحن متمسكون بأذيالك ألى الأبد ياسيد الدنيا . فتطرب لتلك الكلمات أسماع الحاكم الصنم وتزغرد له أجهزته الدعائية ليل نهار كما نشهده اليوم .

يقول نزار في قصيدة (السيرة الذاتية لسياف عربي) عن لسان الحاكم :

أيها الناس

لقد أصبحت سلطانا عليكم

فاكسرا أصنامكم بعد ضلال

واعبدوني

أنني لاأتجلى دائما

فاجلسوا فوق رصيف الصبر

حتى تبصروني

أتركوا أطفالكم من غير خبز

واتركوا نسوانكم من غير بعل

واتبعوني

أحمدوا الله على نعمته

فلقد أرسلني كي أكتب التأريخ

والتأريخ لايكتب بدوني

أنني يوسف في الحسن

ولم يخلق الخالق

شعرا ذهبيا مثل شعري

وجبينا نبويا كجبيني .

أنها قصيدة تضج بالمرارة والألم والغضب من هذا الصنم الذي استولى على كل شيء وصادر كل شيء وهذا هو الواقع الذي يعيشه هذا الوطن العربي المنكوب بأصنامه التي خالفت كل شرائع السماء والأرض في تسلطها وجبروتها وطغيانها .

وبهذه البساطة الشعرية المتميزة عبر نزار قباني عما تعانيه الشعوب المقهورة من عسف وظلم وإذلال على أيدي هؤلاء الحكام وأعوانهم وحاشيتهم . ويقول نزار عن البساطة الشعرية التي اتبعها في قصائده:

(لن أضع الغليون في حلقي وأستعمل مصطلحات النقد الحديث لأثبت لكم أنني مثقف كبير والثقافة لاتتناقض مع بساطة التعبير والبساطة لاتعني أن تكون بهلولا أو سطحيا أو أميا فبإمكانك أن تكون بسيطا وجميلا في نفس الوقت أنا شاعر بسيط أقولها بكل قوة لأنني أعتبر البساطة مصدر قوتي منذ عام 1944 وأنا أشتغل على معادلة لتحويل الشعر العربي إلى قماش يلبسه الجميع وشاطئ شعبي يرتاده الجميع وقد نجحت ومنذ عام 44 حلفت أن لايبقى مواطن واحد في الوطن العربي يكره الشعر أو يستثقل دمه أو يهرب من سماعه أو قراءته وانتصرت.)

ويمكنني أن أدعي أن نزار قباني تعلم أن يقول شعرا للناس بدون وسطاء أو مترجمي طلاسم فدخل قلوب الناس لبساطته وعمقه في آن واحد فانهمر كما ينهمر المطر في الأرض العطشى .

ولا يمكنني أن أنسى ماكتبه نزار قباني في حق زوجته (بلقيس) حين سمع بمقتلها في حادث السفارة العراقية في بيروت عام 1881 واعتبرها الكثيرون من أجمل قصائد الرثاء في الشعر العربي حيث خصص لها كتابا خاصا وأسماه (قصيدة بلقيس) قال في بعض أبياتها:

بلقيس ..

كانت أجمل الملكات في تأريخ بابل

بلقيس ..

كانت أطول النخلات في أرض العراق

كانت إذا تمشي ..

ترافقها طواويس..

وتتبعها أيائل ..

بلقيس .. ياوجعي ..

وياوجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

هل ياترى ..

من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟

وله قصيدة أخرى في رثاء أبنه الشاب .

وهي من قصائد الرثاء التي تضج بالألم والوجع الأبوي الحقيقي

إن الشعر الحقيقي قنديل أخضر لايعرف كسوفا ولا خسوفا إنه أبحار دائم في عالم الكون والحياة والإنسان وحين يحترق الشاعر به ويحوله إلى جمر متوهج يأتي شعره صادقا نقيا بعيدا عن التكلف والغموض والتعقيد وهذا مافعله بوشكين وأحمد شوقي وبابلو نيرودا ولوركا ووالت وايتمن وغوته ومايكوفسكي وأليوت وبدر شاكر السياب وخليل حاوي ومحمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ومحمد الماغوط وأنسي الحاج ومحمد الفيتوري وأحمد عبد المعطي حجازي وفاضل العزاوي وجبرا ابراهيم جبرا وابراهيم ناجي ونازك الملائكه وبلند الحيري ومعين بسيسو ورشيد سليم الخوري وجبران خليل جبران وحافظ إبراهيم ومظفر النواب وعبد العزيز المقالح والقائمة طويلة. وكل هؤلاء الشعراء رغم اختلاف مدارسهم وأساليبهم الشعرية إلا أنهم إبتعدوا عن قول الطلاسم والتعقيد والوحشي من الكلام الذي لاينفذ إلى أعماق المتلقي مهما امتلك من المعرفة والثقافة والإطلاع. حيث هاجم الدكتور الناقد صلاح عدس الذي درس الأدب العربي والغربي مايقوله أكثر شعراء الغموض والإبهام الذي لاطعم فيه ولا لون ولا رائحة . وكما قال عنه أحد الشعراء :

عجبت لقوم جددوا الشعر ضلة

فجاءوا بشعر سائب متناثر

تجافوا به عن كل معنى وفكرة

كأن المعاني حجبت بستائر

ويصغي إليهم سامع القول قائلا

أذلك شعر أم تعازيم ساحر؟

رحم الله الشاعر نزار قباني الذي لم يكن من هؤلاء البعيدين كل البعد عن جمال اللغة العربية وأساليبها الفنية الرفيعة بل غاص فيها واستخرج منها لآلئ خالدة . ويبقى الشاعر نزار قباني مثار نقاش وجدل الكثيرين بعد وفاته لما يحسب له أو عليه وما قاله من شعر على مدى نصف قرن من الزمن .

نزار قباني في سطور:

تخرج نزار من كلية الحقوق في الجامعة السورية، وعمل بالسلك الدبلوماسي في بداية حياته.. لكنه تفرغ للشعر الذي حقق له انتشارا كبيرا بين القراء العرب، وأصبح من أعلام الشعر العربي المعاصر، وصاحب مدرسة شعرية أثارت الجدل في الأوساط الاجتماعية والثقافية، وخاصة ما يتعلق بأشعاره عن المرأة وموقفه منها.

وقد كتب نزار في كل صنوف الشعر، إلا أن وفاة زوجته بلقيس في انفجار خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أحدث انقلابا في موضوعه الشعري، ودفعه لتركيز أكبر على الشعر السياسي، بعد أن كانت المرأة وقضاياها هي المحور الأساسي في شعره.

وقد تسبب هذا التحول في عداء بعض الأنظمة والحكومات العربية لشعره، وفي منعه، ومنع قصائده من دخول تلك البلدان.

أصيب نزار في 1998 بأزمة قلبية، أدخل على إثرها غرفة العناية الحثيثة في أحد المستشفيات الأميركية .

توفي نزار قباني عن خمسة وسبعين عاما في 30/4/1998 وأعيد إلى وطنه سوريا في كفن، وتحولت جنازته إلى مظاهرة للشعر شارك فيها آلاف الرجال والنساء.

 

جعفر المهاجر - السويد .

1/5/2015.

 

في المثقف اليوم