قراءات نقدية

مجرد رأي حول الكتابة الشعرية

أن نكتب القصيدة العمودية أو قصيدة الحداثة أو ما بعدها أين المشكل؟

من خلال حضورنا للأماسي الشعرية المختلفة لاحظنا بأن في بعضها تجرى معركة محتدمة وحامية الوطيس كما يقال بين من ينتصر لشعر الحداثة أو لشعر ما بعدها وبين من يحاول كبح اندفاع أصحابها والمصحوب عادة بهجوم شرس على القصيدة العمودية بحيث يشعر المتتبع بأن هناك من نـَّصبَ نفسه عدوا لها ومن دون داع وعندما نتتبع مسار بعض أنصار هذا الاتجاه - ونحن هنا لا نعقد محاكمة لأحد وإنما نحن نرصد وندرس الظاهرة فقط - نجد بأن القراءة المتأنية لهذا الموقف له عدة خلفيات وقراءات وأولى هذه القراءات تتمثل في ذلك الصراع بين المحلي متمثلا في القصيدة العمودية وبين الوافد الذي أصل ذاته وهذا من خلال قصيدة التفعيلة وبين ذلك الذي لا يزال يبحث عن شرعية مفقودة وإلى اليوم متمثلا في قصيدة النثر وهو صراع وفي أحد جوانبه وعند استبطانه نجد بأن خلفيته تقوم على ما قاله ابن خلدون من أن المغلوب مولع بتقليد الغالب بكل ما لديه من منتجات براقة تغوي وتغري في آن واحد ومن منا لم يقع ولو لمرة واحدة في أسر منتجات الغرب الساحرة والمعجزة والمبدعة في آن واحد وفي مقابل هذا نجد بأن الثقافة العربية اليوم وهي ثقافة مهزومة ومغلوبة وثقافة هوامش وأطراف لا ثقافة مركز تماما كما كانت الثقافة اللاتينية في العصور الوسطي ولا يخفى على أحد منا بكاء الراهب الإسباني ولومه لقومه الذين هجروا آدابهم بل إنهم وكما يقول هو قد برعوا في كتابة الشعر العربي براعة تفوق العرب أنفسهم وعليه وكما هجر إسبان العصر الوسيط ثقافتهم اللاتينية فكذلك هناك اليوم من يهجر الثقافة المحلية ولو كانت له القدرة على الكتابة بغير اللغة العربية أو لو علم بأن كتاباته سيكون لها جمهور لأن الجمهور هو سمكة الشاعر على وزن الشعب هو سمكة الثورة لما توانى لحظة واحدة في سلوك هذا الدرب ونحن هنا لا نعقد وكما مر أعلاه محاكمة لأحد ولا نحاسب أو نخطئ أحد حتى لا يساء فهمنا فهذا ليس من حقنا ولا يجوز لنا فعله ومتى فعلناه نكون قد ارتكبنا خطيئة محاكم التفتيش البائدة وإنما مهمتنا هي النقد البناء والدراسة ولا نتجاوز هذا لأن كل شاعر لديه مشروع يعرضه على الجهور والقرار يبقي لهذا الأخير بعيد عن أي ممارسة لأستاذية زائفة من قبل هذا الطرف أو ذاك كما وأننا فقط نرصد الظواهر الثقافية بهدف الوقوف عليها لما لها من دور في دفع عجلة الموروث اللامادي للمجتمع قدما مما يحقق له حضورا وازدهارا أدبيا يقدم به ذاته للآخر ويحجز عبره مكانا له بين أمم العالم وهذا كله يجعله يساهم في بناء الموروث الإنساني العام والمشترك ونحن وفي مقالنا هذا لا نناقش أي لون شعري من حيث هو فكرة وظاهرة وهذا ما نجده في مختلف المؤلفات التي تصدت لهذا الموضوع وإنما نحن هنا نحاول الوقوف على الخلفيات الكامنة وراء الانتصار لهذا اللون الشعري أو ذاك .

 

نعود ونقول بأن اليهود مثلا وفي فترة العصور الوسطى المسيحية وخلال ازدهار الثقافة العربية الإسلامية بالأندلس والتي اندمجوا فيها بصورة كلية وتحت تأثير الشعر العربي فيهم فقد ظهر لنا شعر عبري يستخدم كل البحور الشعرية العربية والتي وضعها الفراهيدي كما أوجدوا قافية وروي عبري بكل بساطة شعر عبري بطبعة عربية ونسخة عبرية طبق الأصل للشعر العربي وهذا منذ منتصف القرن العاشر الميلادي وهنا وللتدليل نستحضر أسماء بعض الشعراء اليهود الذين برعوا في هذا اللون الشعري ومنهم على سبيل المثال لا الحصر موسى بن عزرا ويهودا اللاوي الطليطلي و دوناش بن لبرط ولولا ضيق المجال هنا لعرضنا نماذج من شعرهم وهذا النوع من الشعر والذي كان نتيجة التأثر المباشر بالشعر العربي كما هو شعر التفعيلة اليوم محصلة مباشرة لتأثير الشعر الغربي في الشعر العربي وهذا ليس عيبا ونحن لا ندينه لأننا مع ولسنا ضد أي تلاقح فكري وأدبي بين أبناء العائلة الإنسانية الكبيرة نعود ونقول بأن هذا النوع من الشعر العبري قد أدين وبشدة من قبل أنصار الشعر العبري التقليدي كما هو موجود في مزامير داوود على أساس أن هذا التجديد يلحق الضرر بذلك الشعر العبري وهي نفس الحجة التي يستخدمها معارضو شعر الحداثة وما بعدها اليوم من أنصار القصيدة العربية الكلاسيكية . علما بأن الكلمة الأخيرة قد كانت للتاريخ حيث انقرض هذا النوع من الشعر العبري ولم يعد له من وجود سوى في الدراسات الأكاديمية المؤرخة للأدب العبري وهذا يعطي لنا درسا مفاده لا للتعصب لهذا اللون أو ذاك وعلى أنصار شعر الحداثة وما بعدها أن يضعوا كل الاحتمالات الممكنة فكما يمكن للتاريخ أن تكون كلمته الأخيرة لصالحهم فكذلك يمكن أن يكون مصيرهم هو نفس مصير هذا الشعر العبري المنسوج على نسق ومنوال الشعر العربي التقليدي وعلينا أن نترك دوما هامشا حتى لا تفاجئنا تلك الاحتمالات الممكنة والتي لم نحسب حسابها وتضيع منا سنوات أعمارنا في معركة وهمية كان الأولى بنا أن نوجه خلالها قدراتنا لما فيه خير لثقافتنا . ونحن هنا وعندما نستخدم مثال الشعر العبري فإننا لا نهدف إلى أي تطبيع ومهما كان لونه مع الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة حتى لا يساء فهمنا ولو أننا وجدنا مثالا آخرا لوظفناه ونحن هنا نتعامل مع موضوع تاريخي لا علاقة له بالحركة الصهيونية ولا بالكيان الذي أقامته .

وحتى لا نطيل لأن هذا مقال وليس دراسة أكاديمية نقول بأن تأثير الثقافة العربية الوسيطية قد تجاوز حدود الأندلس التاريخية وأصبحت مناطق واسعة من أوروبا الجنوبية هي مجال حيوي ومنطقة نفوذ للشعر العربي والذي تجلي بوضح في شعر التربادور ونكتفي بهذا المثال تماما كما هو حال وطننا العربي اليوم فهو منطقة نفوذ تتسع أو تضيق للقادم من الغرب بمعناه الحضاري وهنا قد يتساءل البعض ولما كانت هذه الهيمنة وهذا الحضور القوي للشعر العربي في ثقافات شعوب وأمم من عاصروهم هنا الجواب نجده وحتى لا نكثر من الاستدلالات فيما قاله بعضهم من أن : " لسان العرب بين الألسنة كزمن الربيع بين الأزمنة " وقس على هذا مختلف منتجاتهم الأدبية والفكرية وهنا ندخل إلى النقطة الموالية والتي عادة ما نسمعها تردد والقائلة بأن اللغة الفرنسية هي لغة الشعر ولغة شعرية بامتياز والكل متفق حول هذه النقطة تماما لأن اللغة كائن حي ينمو ويتطور وهذا ما كان للغة الفرنسية حتى اليوم – وللغة العربية قبلها وللغات السابقة عليها كاليونانية والفرعونية والبابلية والسريانية – ذلك أن الغرب اليوم يعيش دورته الحضارية في حين نجد أن العرب في أحط دركات التخلف والانحطاط وهذا بعيدا عن عملية تجميع لمنتجات الحضارة الغربية بتعبير مالك بن نبي واللغة العربية قد تخشبت في حقب تاريخية معينة وأصبحت مثل الزهرة الميتة والتي لا يلثمها النحل بتعبير أبي القاسم الشابي الشاعر التونسي الشهير وهنا لا يجب أن نغفل على أن الكلمة الجميلة موجودة عند كل الشعوب والأمم بغض النظر عن الدرجة التي تحتلها في سلم التمدن والتحضر بعيدا عن أي تعصب لغوي أو ثقافي مدمر هو مسلك انتحاري لصاحبه .

كما لا يجب أن نغفل عن دور العامل الاقتصادي والإعلامي بمعنى جعل الشاعر نجما في دفع الشاعر صوب لون شعري معين فالأفراد وكما هو معلوم تحركهم الدوافع الاقتصادية والتعطش للشهرة وللمجد الاجتماعي وبوابة المال والشهرة اليوم هي الغرب وليس العالم العربي وهما يتجسدان في شكل جوائز وتكريمات وترجمات وحضور إعلامي حتى ولو كانوا في إسرائيل وكما نجده في تصريح لأحد الأدباء الجزائريين والذي صرح عقب زيارته لهذا الكيان في العام 2012 بأنه قد عاد منه غنيا وسعيدا ونحن هنا لا نذكر الاسم لأننا لا نتخذ موقفا معينا مع أو ضد هذا التصريح فكل شخص حر في مواقفه ونعيد ونكرر بأنه ليس من حق أي فرد أن يعقد محاكمات تفتيش لأي كان وإنما نحن عرجنا على هذه الحادثة للاستدلال فقط وهذا ما يتبناه بعض أنصار قصيدة الحداثة من مجاراة وتماهى مع الآخر بهدف الوصول إليهما أي المال والمجد الاجتماعي مما يعطي لصاحبهما سلطة وما دامت هذه هي الغاية فلا تهم الوسيلة وخاصة عند من يكتبون نظما لا شعرا وعند من كانت موهبتهم الشعرية محدودة فيركبون أية موجه تحقق لهم أهدافهم طالما هم يعلمون مسبقا بما يخبرنا به جورج سانتايانا من أن وظيفة الدعاية هي أن تجعل الأسوأ يبدو وكأنه الأفضل .

وهنا ندخل إلى نقطة أخرى مهمة وهي أن بعض ممن ينتصر لقصيدة الحداثة وما بعدها وهذا ليس عيبا ولا خطيئة ولا نقيصة ولا ميزة أيضا وإنما الأمر المرفوض هو التعصب لها وإلغاء وإقصاء الآخر والوصاية عليه وعلى ذوقه لأنه قاصر أدبيا ونحن من يجب علينا توجيه ذوقه وتشكيله وفق ما نريد وهذا أمر مرفوض فما لديك يا سيدي الكريم هو منتج بشري يحتمل نسبية الخطأ والصواب وهذا ما يعطى لنا هامشا لتقويم ذواتنا الأدبية وبصورة دورية . وربما نستطيع تشكيل قارئ وفق تصوراتنا ما دام أفقه الأدبي محدود ولكنه وعندما يتخطى مرحلة المراهقة الأدبية إلى مرحلة النضج فهنا سيكتشف زيف نبوتنا وتكون ويكون في هذا الكشف لعنتنا وهجرنا الأدبي وإلى الأبد . واليوم لا يمكن أن ننكر حجم المعركة بين مختلف الألوان الأدبية والتاريخ فقط وكما هو معلوم هو من سيحكم لصالح قصيدة النثر أو لصالح قصيدة التفعيلة أو للقصيدة العمودية فيما يشبه عملية انتقاء وإن لم تكن مطابقة لمفهوم داروين للانتقاء الطبيعي . ويمكن القول بأن القصيدة الكلاسيكية يمكن أن تذوي وتذبل وتتقهقر للخلف ولكن الشيء المؤكد أنها لن تموت ولن تنقرض فالتاريخ يشهد بأن القصيد العمودي ورغم النكسات التي أصابته إلا أنه قد كان دوما باستطاعته تجاوز محنه ودورات الخمول . كما وأن الأفكار ودوما نركز على هذا الأمر لا تموت وإن هي قد تختفي ثم تتجدد ودليلنا هنا هو الآداب الإغريقية والرومانية والتي اختفت ظاهريا طوال فترة العصور الوسطي وأصبحت خلالها ثقافة منبوذة ومغضوب عليها ومدانة ولكنها انبعثت من جديد وهذا خلال عصور النهضة وما تلاها ربيعا جديدا متجددا لتكون اليوم مفخرة للغرب وللإنسانية جمعاء وهذا الأمر أي نبذها ثم العودة إليها مجددا يرتبط بظروف اقتصادية واجتماعية وفكرية حضارية ودينية وهو نفس الأمر مع ما يحصل اليوم مع القصيدة الكلاسيكية وقصيدة الحداثة وما بعدها في ثقافتنا العربية والمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات وهذا ما لا يجب أن يغفله أنصار أي من القصيدتين .

كما يجب أن لا ننسى بأن الإنسان يسكن فكرا ولا يسكن جسدا فقط وبالتالي فعندما يكتب أحدنا لونا أدبيا معينا فهذه الكتابة هي رسالة منه للآخر فإما هو مع هذا اللون الأدبي أو ضده والمشكلة هي أن بعض أنصار النص الحداثي يكتبونه وينتصرون له ليبينوا للغير بأنهم مستنيرون وحداثيون وحضاريون و غير متعصبين وكأنهم هنا يتبرؤون من الآخر المتعصب للأسلاف ومن مظاهر تعصبه هو دفاعه عن القصيدة الكلاسيكية لأنه هو الآخر يسكن فكرا لا جسدا فقط وعليه فقد ارتبطت القصيدة العمودية في مخيال بعضنا وفي يومنا هذا بأصحاب اللحى الكثة والمنفرة والمستفزة وبالمتدينين المزيفين أعداء الحداثة بمفهومها العام لا في شقها الأدبي فقط وباختصار هم يعيشون في وهم إعادة إحياء المجد الغابر ونحن هنا نؤيد بعض هذه المعايب التي تؤخذ على بعض أنصار القصيدة الكلاسيكية وعليه يقول لسان حال أنصار قصيدة الحداثة وما بعدها نحن نكتبها كبيان رسمي manifeste أو Statement منا للآخر مفاده أننا لسنا منكم ولا ننتمي إلى منظومة قيمكم المفلسة والمعادية للحياة ولكل أشكالها ولا إلى مشروعكم المنتمي إلى العصور الوسطى البائدة والذي تريدون أن تختطفوا إليه مجتمعاتنا وهو مشروع يدعو لظـّـلامية وبمختلف أبعادها وإن كانت هذه الأحكام ليست كلها تجني على بعض أنصار القصيدة الكلاسيكية وهم حقا يعادون فتوحات عصر الأنوار وما تلاه من معجزات علمية مذهلة كما وأنهم يستخدمون الشعر الكلاسيكي لتمرير رسائل تهدف إلى تلميع صورة مشروعهم المنتحر والمفلس . وفي مقابل هذا يخبرنا المعسكر الآخر بأن كتابته لقصيدة النثر أو التفعيلة ما هي إلا رسالة طمأنة للمجتمع مفادها بأننا لسنا مصدر تهديد له ولقيمه ولوجوده وهذا أمر يحز في النفس فالشعر عامل ارتقاء بالسلوك البشرى وهو حرب على الهمجية وعلى البربرية ويكتب لتهذيب الذوق العام مهما كان القالب الذي يصاغ فيه أو كان من كان قائله ولا يجب إقحامه في معاركنا العقائدية لأنه سيخسر الكثير في الأخير وهذا متى أدلجناه فيحنط بهذه الأدلجة ويبقي حكمنا هذا نسبيا .

وهنا نصل إلى عامل آخر والمتمثل في دور السلطة القائمة في أي بلد والهادف إلى إنتاج المفكر الحداثي ولذا فلا يجب علينا أن نغفل عن دورها هذا أي السلطة وأداتها القوية والضاربة هنا هي المدرسة والجامعة ودور الثقافة المختلفة والتي تشكل المثقف وفق ما يخدم مصالحها كما هو الأمر مع الطبقة التي أنتجها الاستعمار الفرنسي في الجزائر خدمة لمشروعه وهذا الأمر ليس بسر وإنما كل الدول والمجتمعات تعمل على تكوين أفراد وطبقات يضمنون الدفاع عن عقائدها وهويتها فها هو الفيلسوف الألماني الكبير يوغن هابرماس يخبرنا بأنه هو شخصيا منتج للمدرسة الألمانية ما بعد الحقبة النازية ولمنظومة قيمها وقس عليه مختلف الأعْلام وفي مختلف المجالات وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة الابتعاد عن التعصب ومن قبل كلا المعسكرين – معسكر القصيد الكلاسيكي ومعسكر قصيدة الحداثة وما بعدها – وعن التبريرات الساذجة فالأمور ليست فقط أبيضا وأسودا وإنما هناك أرضية لإمكانية التقاء الكلاسيكي بالحداثي بعيدا عن فكرة القطيعة فما هو حداثي اليوم فسوف يصبح كلاسيكي في قادم الأيام ويأتي الدور عليه .

أما القول بأنني أكتب بلغة عصري ولا يهمني رأي الآخر وهي عبارة لا بد من الوقوف عندها كثيرا لتفكيكها حتى لا تكون لغما قد يتفجر في أي لحظة والمجال لا يتسع هنا لعملية التفكيك هذه ويمكن العودة لها في مناسبة أخرى وإن كنا نراه كلام يوشي بنرجسية قاتلة وبعقلية استعلائية تحتقر الآخر وتعانق عقدة الفوقية وتنظر للآخر بدونية إن لم نقل باحتقار لكونها ترى في نفسها طبقة مميزة لا يمكن أن تتساوى مع الرعاع والقطيع ولا ترى في الآخر شريكا وإنما ترى فيه خصما لا يمكن أن تحقق مجدها إلا على جثته ومن تتبنى مثل هذه الرؤى من طبقات مثقفة نراها فاقدة للقدرة على الإقناع تستقوي على الآخر بآخر وكلنا يعلم بأن القوة تهاجر من ضفة إلى أخرى وهذا تبعا للدورة الحضارية وهذا ما سيجعل مستقبل المتعصب للون أدبي معين سيخسر المعركة في قادم الأيام وهذا عندما يتراجع الطرف المستقوي به لأن مشروعه يفتقد أصلا لقوة الدفع الذاتية ولقوة الحضور المستمر في الزمكان وبصورة ذاتية أيضا . ولأنه أيضا قد اكتسب الحق في الوجود على حساب الآخر وبالقوة وكلنا يعلم بأن الحق الذي يكتسب بالقوة ويزول بزوالها ليس بحق وإنما هو اغتصاب .

ومن جهة أخرى لا يمكن أن ننسى بأن قصيدة الحداثة وما بعدها ما هي إلا فصل وجزء من المشهد الإبداعي العربي تتجلي فيه وبوضوح عملية التلاقح الحضاري بين الشعوب والأمم لأن الله خلقنا شعوبا وقبائلا لنتعارف على منتجاتنا وفي شتي مجالات الحياة وهذا عمل خلاق يتجاوز الفروقات الشكلية بين بني البشر ويثري التجربة الإنسانية عموما وهذا هو التدافع الحضاري الذي يتحدث عنه النص القرآني ونحن هنا لا ننطلق من منطق ديني وإنما لو وجدنا المصطلح المناسب في الماركسية لاستعرناه منها نعود ونقول بأن هذا التدافع هو من يضخ دماء جديدة وفي مختلف الآداب التي تتشارك في رقعة التواجد في الزمن مما يضمن دفقة ودفعة جديدة للعنصر البشري . ولهذا فلا داعي لكي نخلق معركة وهمية كمعارك دون كيشوط نبدد ونهدر فيها وقتا وعمرا ثمينا نقولها ونكررها علما بأنه لا يمكن لأي لون أدبي أن يلغي لونا آخرا وليس من مصلحة الإنسانية إلغاء أي من اللونين فهذه عقلية محاكم التفتيش البائدة والمستندة إلى فكرة امتلاك الحقيقة وهي عبارة مفلسة وفارغة من أي معنى بل الرأي الأصوب هو أن نقبل بمبدأ تعايش كل الألوان الشعرية والتاريخ نعيدها ونكررها هو وحده الحكم تماما كما تعايش بالأمس وفي الأندلس القصيد العمودي مع الموشح مع الزجل ويتعايش اليوم مع الشعر الشعبي والنبطي فلما فقط نحجر على لون معين وما يدرينا ماذا سيكون موقفنا منه غدا لأن القضية قضية قناعات وقد تتبدل في أية لحظة . ولذا يجب علينا جميعا أن ندرك أن هناك حقيقة واحدة وهي اللاثبات وأن الثابت الوحيد هو المتغير كما يشهد بهذا التاريخ ويخبرنا به الفيلسوف الإغريقي هيراقليدس .

كما وأننا نعتقد كذلك بأن عصبية واندفاع بعض أنصار قصيدة التفعيلة والنثر مرده شعور بعضهم بأن هذا اللون الذي يتبنونه يفتقد إلى الشرعية وإلى الحق في الوجود على أرضية الأدب العربي على الرغم من أن صوته اليوم هو الأعلى ولكن يبقى هناك دوما شعور بافتقاد الشرعية ونحن نضن بأن هذا الشعور في غير محله فلا يمكن لأحد بأن يزايد أو يناقش شرعية أي لون أدبي وحقه في الوجود وهذا انطلاقا من ذوقه والخلفية الفكرية التي يستند إليها والتي هي أصلا فيها نطر ومسألة مطرحة للنقاش وليست أمرا محسوما . كما وأن البعض ممن يكتبون قصيدة الحداثة وما بعدها يرون بأن علاقة هذا اللون الشعري بالأدب كما لو أنها غير شرعية أو هي غير مؤسسة أخلاقيا وهي تماثل العلاقة الجنسية المبنية على الاغتصاب لا على الحب والعطاء المتبادل بين طرفي العملية الجنسية ونحن نرفض هذا الحكم للاعتبارات التي ذكرناها في هذا المقال كما وأننا ومن جهة أخرى فنحن اليوم بحاجة إلى أن نملأ فضاءاتنا بالأشياء الجميلة بدل تلك القبيحة مادية كانت أو معنوية والتي نصادفها يوميا وهذه هي رسالة الشعر في بعض أوجهها بغض النظر عن القالب الذي نكتبه فيه .

 

سمير خلف الله بن امهيدي

والأستاذة القاصة صليحة كرناني

الطارف عنابة / الجزائر جويلية 2015

في المثقف اليوم