قراءات نقدية

(جبت كل العراق وجيت) ملحمة الأديب والشاعر العراقي الدكتور خير الله سعيد .. وقـفــة وتأمّــل

qusay askarقبل كل شيء أودّ ان أنوّه الى ان طريقتي في النقد هي ان التقط كلمة او جملة تستفزني في النص فأتوسع في دراستها من حيث استقطابها للكلمات والصور الاخرى، لكن هذه الطريقة تنفع فقط في القصيدة ولا يمكن تطبيقها في القصة والرواية فكيف وانا الان امام عمل مميز هو ملحمة، ثم ان هذه الملحمة مكتوبة أساسا باللغة العراقية او باللهجة العراقية !!

لذلك وجدتني أباشر الموضوع من عدة زوايا غير زاوية الكلمة النواة التي ألفتها في دراسة القصيدة ومعالجتها وتحليل صورها، والحق اراني امام عمل طويل يعلن عن نفسه بملحميته المتدفقة في اكثر من إطار وحقل معرفي يشير إليك ان توغل باعماقه لتغوص في مكنوناته، هذه الحقول يمكن ان أضعها وفق العنوانات التالية:

 

اولاً: الجانب الزماني والمكاني او فلسفة الزمن والمكان.

تتجلى هذه الفلسفة في البدء الذي اختاره الشاعر لملحمته، ولو انعمنا النظر جيدا لوجدنا اختياره يقع على الفعل "نگلت" او "نقلت" . للوهلة الاولى ندرك اننا امام فعل ماض،فاعل وفعل ماض وهنا يأتي السر الملحمي في الكشف عن الديمومة، فالفعل ماض مستمر في الماضي مثلما هو موغل ايضا في المستقبل لان الملحمة تنتظر حركة زمنية اخرى مستقبلية لها جذر في الماضي . ان استمرارية الفعل الماضي التي لها شبيه في الانكليزية بالماضي المستمر past continue نجد لها شبيها في لغتنا العربية خلال فعل الامر الذي يعبر عن الاستمرارية في قول الشاعر:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى   ما الحب الّا للحبيب الاول

كم منزل في الارض يألفه الفتى     وحنينه أبـداً لأوّل منـــزل

ان الشاعر استوعب المستقبل عبر فعل الامر، اما لغتنا العامية فكان بإمكانها ان تستوعب المستقبل من خلال استمرارية الماضي، تلك الاستمرارية التي لا تنقطع فجأة لان الشاعر نفسه نقل خطواته ليجلب تلك الأشياء عبر صورة تؤطر الزمان بمكان .

والصـرّة على متـــوني

استمرار في الماضي أعقبه دخول مكاني مميز ، لنتخيل أنفسنا امام تمثال وعلى كتفي التمثال كيس فيه أشياء كثيرة، انه استنساخ لشخص يقف حاملاً كيساً من قماش على كتفيه، ماذا نحتاج الى تأمل التمثال؟ نحتاج بالتأكيد ان نلف حوله ونتطلع في أية زاوية من زواياه بضع دقائق او ثوان، فالتمثال اصبح زماناً ومكاناً في الان نفسه اي زمنكان ان الشاعر ينتقل من استمرار بالماضي الى زمن ومكان ثم يدخل الى الحاضر بحيوية:

جايب صورة محبّين

لم يباشر الدخول بفعل مضارع، لكنه وفق الصيغة العربية يستخدم اسم الفاعل الذي يعبّر في كثير من الحالات عن الفعل، فمثلما يدخل المضارع في جوهر الاسمية ليصبح اسما كأن نقول لحظة يفكرون، اي لحظة تفكيرهم يتحول الاسم الى فعل بالمعنى (جايب) لان الشاعر بدا ملحمته بماض دخل الحاضر ثم جمع في السطر التالي الزمان والمكان ليدخل عبر الاسم الى المضارع، وعن هذا الطريق يستدرج الحاضر الى الماضي فيجعلهما يتقابلان ليمثل كل منهما الآخر. ثم هو مع ذلك لا يغفل عن وحدات الزمن. التي تساعده في رسم صوره ومنحها عمقاً يقول:

على الفطرة اجيت بليل

أدور عَل الأصيل ادوار

لگيته يــدوّر اخباري

بليل وفجر ويَّ انهــار

ان الزمن، الجزء الذي هو الليل، احتلّ كل الازمان فلعلنا نسأل: لم اختار الشاعر البحث ليلاً ؟، انه بلا شك يبحث عن شيء ثمين والليل ذو عتمة فيكون البحث فيه اصعب والجهد المبذول اوفر، بحث اقرب الى المحال، الأصيل الذي نبحث عنه هو الوطن والنَّاس والانتماء، بتعبير اخر كل ما يثبت الهوية، واظن الاصالة تعني الوطن والنَّاس في هذا الموضع. تلك الاصالة التي. لم يجدها الشاعر في مكان اخر بل في وطنه فحسب، بالمقابل تفرّع ليل البحث المضني عنده فيما بعد الى زمان مطلق، فالوطن، الأصيل، بحث عن الشاعر في كل الازمان اي الفجر والنهار والليل، كل منهما يبحثان، الشاعر نفسه منهمك بالليل والآخر المبحوث عنه يبحث ايضاً في كل الأوقات. ليتم التوافق بين زمني الملحمة الجزئي والكلي.

 

ثانيا: فلسفة التركيبة اللغوية في الملحمة:

الملحمة كتبت باللغة العراقية الدارجة التي نطلق عليها اللهجة العامية، وأظنها ابتعدت كثيراً عن صيغ وقواعد سارت وفقها لغتنا العربية في إعرابها ونطقها وتوليفها، فأصبحت - العامية-أشبه باللّغة المستقلة. لهجتنا العامية لها عدة منابع يجب ان تراعى فيها وهي:

المنبع العربي القبلي القديم، لغة قريش والقبائل الاخرى.

المنبع السومري والبابلي .

المنبع الفارسي .

المنبع التركي ثم الإنكليزي.

هذه المفردات المهاجرة مثل الأسماك من جداول مختلفة، نجدها شكّلت صور الشاعر، فلم نشعر بغرابتها حتى الكلمات التي لا نعرف معناها نفهمها من سياق الجملة والصورة الشعرية، لدينا مثالان على تفاعل الصورة من خلال المفردة بقدمها التاريخي مع وجودها المعاصر، يقول الشاعر:

جبت لك هم بثيث وياي،

وصـم زعـتر والمــــربّى

جبت لك صوغه ݘف حنّه،

وهــم ياس إوّرد،

والسَمِـــنْ والمنّه .

ان كلمة زعتر في الأصل عربية، أصلها: كما توضح القواميس: صعتر بالصاد او سعتر لكن اللّسان في اللغة الشعبية حوّل حرفان من حروف الكلمة الفصحى الى حرف لين يسبق العين هو الزاي، لكي تبدو الكلمة مقبولة في النثر والشعر، فبدا جمال الكلمة من خلال تغيير في. تركيبتها أضيف إليها لاحقا وتجلى الإبداع من قبل الشاعر في ربط الكلمة التي طرأ على نطقها تغيير بكلمات ذات مدلول قديم، فكري وديني، ككلمتي مَنٌّ وسلوى المرتبطتين بقصة موسى وبني اسرائيل وتكوين الطبيعة للأشياء من دون تدخل الانسان، مع حصر شكل الصورة بكلمة محدودة واسعة مثل " صَم" وتعني قبضة اليد او ما تعبر عنه اللغة الانكليزية بكلمة ( handful) .

ان قبضة اليد "صَم" صغيرة لكن الصغر هنا لا يعني القلة، بدليل تعدد الأشياء المطلوبة وتكرار كلمة "جبت" عدة مرات بين فاعل الجلب "الأنا " والمخاطب " انت"، ونجد ذلك في كلمة " بثيث" التي هي اللبن الخاثر المُجفّـف، اي الملموم على نفسه، في حين نجد في اللغة العربية ان " بث" تعني فرق ونشر، فالتصادم هو ما قصده الشاعر باختياره لتلك الكلمات من خلال معناها الخفي الذي يهيمن على مشاعرنا وأحاسيسنا. ان الشاعر تعامل مع الكلمات ذات الأصل العربي تعاملاً حيويّاً، بخاصة مع الكلمات التي اصلها فصيح لكن معناها تغيّر الى مدلول اخر في لهجتنا فقط، كما نجده في كلمة " صوغة" انّها مأخوذة من الكلمة العربية صياغة، من صاغ يصوغ الشيء اي سبكه سباكة، ومنها صائغ الذهب، ولكون الهدية لا تقدر بثمن، مهما كانت، سواءٌ غالية الثمن أم سعرها رخيص، فإنها تشبه السبيكة بقيمتها المعنوية. ان المقطع السالف الذكر وردت فيه كلمات عربية الأصول، تفاعلت مع بعضها لتشكل موسما من مواسم فرح الحنّاء في الزواج والأعراس واللبن الخاثر للربع والصحة والسلامة والمن والسلوى لخير الطبيعة والصياغة والهدايا بين الناس للترابط الاجتماعي، نجده - الشاعر- لا يغفل عن استيعاب الكلمات التي ورثناها عن أسلافنا سكان العراق القدامى التي نعتز بها يقول:

جبت حنطة وشعير

وطابگ وسمݘه

أعلاه نجد ثلاث كلمات عربية الجذر، الحنطة والشعير والسمكة، احاطت إحاطة تامة بمفردة ذات جذر سومري هي طابگ التي يعرفها الشاعر، انها كلمة تعني عند السومريين: رغيف سميك عماد تركيبته دقيق الرز يعمل على دائرة او قرص تسمى طابگ ايضاً، قطرها متر، لنرى سعة الرغيف والمواد التي يضعها أمامنا الشاعر: سمك وحنطة وشعير، وموروث سومري يرد إلينا عبر الزمن، فالصورة ليست جامدة ولا مجرد رسم او تذكار للوحة، بل هي صورة حية اعادها مؤلف الملحمة الى اذهاننا من جديد بصيغة اخرى، فهو ليس مؤرّخاً ولا باحثاً في حقل الاقتصاد او الاجتماع، لكنه فنّـان يشكل لوحته وفق الصورة التي يجدها مناسبة تحقق تأثيراً ما في المتلقي.

 

ثالثا: في الصورة البؤرة والصورة العدسة:

نقصد بالصورة البؤرة، ان يشير الشاعر بكلمة ما الى عادة اجتماعية او فلكلور من خلال كلمة تثير في ذاكرتنا امتدادات احتفالية:

وهم ياس وورد

والسمـن والمنّه

الياس في العراق له تأثير نفسي وديني كبير، ومن إسقاطاته الاحتفالية ان ينتشر بعيد يسمى عيد خضر الياس، يوم الخضر او خضر الياس يقطف الناس مسلمين وغير مسلمين أغصان شجر الآس او يلقونها في الماء، فنعلم ان تلك النبتة تعني المقدس النبي او الرجل الصالح الذي شرب من عين الحياة فنجا من الموت، عدسة الشاعر لم تسجل الصورة الاحتفالية بكل تفاصيلها بل لمّح لها مذكّرا بكلمةٍ، وما على المتلقي إلّا ان يشحذ ذاكرته ليكمل التصوير، نجد ذلك ايضا في الكلمة التالية:

ومگوار اهلنا بثورة العشرين

وقصة المگوار والمدفع في ثورة العشرين معروفة ومشهورة، سجّـلتها اهزوجة شعبية رددتها الألسن حينذاك " الطوب أحسن لو مگواري" وهي واحدة من تلميحات الملحمة الذكية.

وجبت شنّاطة بعيجي

بشعر اسود وخيط معدّل من الصوف

وياهـا طبگ من يجــفي عَل العصفور

وثوبــك من ݘنــت جاهـــل

وانت تخاتل الزرزور

هذه صور تم التقاطها بعدسة واسعة بدقة وتفصيل، فهي تحكي عن قصة صيد الاطفال للزرازير، الطفل يجلب آلة هي عبارة عن خيط من الصوف وطبق وهو وعاء مصنوع من سعف النخل الذي يطلق عليه الجريد يضعه الصيادون في مكان ما ويدسون فيه الشنّاطة وهي خيط يلف عليه مجموعة من شعر ذيل الحصان كما تلف ربطة العنق، فيضع الطفل الحَبَّ تحت الطبق المائل فما أن يأتي العصفور وينقره، فإمّا ان تنطبق عليه الشناطة او ينزل فوقه الطبق ويحبسه، وقد عزز الشاعر صوره بجملتين معترضتين بدتا تقوّيان دقة المشهد وهما:

من يجفي

تخــــاتـل

ولا يغفل الشاعر في الصورة العدسية الإشارة الى الحيوان ونفسيته، فهو لا يتوقف عند مشاعر الانسان فقط بل يتعدى الى ابعد من ذلك يقول في المشهد التالي:

وغطّات الثعالب من تريد تبوگ

ويطير الحِمام وينكشف للهـــور

التعبير عن الاختلاس للثعلب وتلهفه لسرقة شيء ما، واقتناص حمامة حيث يغط تحت الماء لينقضَّ عليها ذلك التصوير الذي نقلته إلينا كلمة غطاء .

 

رابعا: الملحمة القاموس:

لقد سجل الشاعر في ثنايا ملحمته كلمات، بعضها انقرضت والأخرى تكاد تنقرض، وهذا سبق يسجّـل له، اذ ليس من المعقول ان ننسى ونحن ندخل عصر الاتصالات الواسع تراثنا اللغوي القريب، مما يدل على ان الأديب خيرالله موسوعة شعبية لغوية عاصر الكلمة وعايشها، فليست ملحمته مجرد رصف للكلمات ووصف لها، انه ينقل تلك الكلمات الغائبة عنّا والميتة فينا والحاضرة منها إلينا عبر أحاسيسه ووجدانه، لنأخذ كلمة " بعيجي" وهو طائر أسود من فصيلة العصفور، كان يغزو العراق في موسم الصيف بشكل دفعات كثيفة، فتسود السماء من مجموعاته، ولكون البصرة تميل الى قلب الجيم ياء لان اصول سكانها الحاليين من قبيلة تميم وأسد وكعب، وقبيلة تميم تلفظ منذ عصر ما قبل الاسلام الجيم ياءً فتقول دياية عن دجاجة، وريلي عن رجلي وهكذا، فقد قلب أهل البصرة كلمة بعيجي الى

بعيعي، ولعل عادة ما تتعلق بنبات او شيء ما تختفي فترة ثم تعود فتجد الملحمة تذكرها:

واطفال السلف تجمع لك الخرنوب

وتتبادل لعــب بالشيص والخرّيط

الخريط، كان شائعاً في العهد الملكي، ثم اختفى ثم عاد، لكن ذاكرة الشاعر الإيقاظية عادت اليه بإيقاع جديد فادرجته مع نباتات اخرىً مما يدل على خصب الطبيعة العراقية وحيويتها وحيوية الملحمة التي ضمتها بين سطورها كذلك يدل هذا على الاصالة الكامنة فينا فنرجع نتذكر من خلال الملحمة - بخاصة جيلنا-تلك الكلمات والعادات والصور التي رسمها الشاعر عبر الفن وما يرسمه الشعر من كلمات وعادات وصور يظل خالدا ولنا حجة في ذلك شعرنا قبل الاسلام الذي حفظ لنا كثيرا من المعتقدات والعادات والكلمات التي كادت تضيع لولاه.

 

خامسا: الاعلام

مثلما اهتم الشاعر بالمجتمع العراقي وطبيعته الجامدة والمتحركة والاحداث التي عايشها وتفاعل معها، فإنّه لم يغفل الإشارة الى بعض الاعلام والتصريح بأسمائهم، لم يسجل المعاصرين فقط، بل الماضين ايضاً، ذكر الفقير والغني والوطني والمطرب والشاعر ورجل العلم والدين وغير هؤلاء ممن سجلوا حضورهم في ذاكرة المجتمع العراقي،انها عمل ملحمي كان للتسجيل فيه نصيب، لكنه لم يكن تسجيلاً مباشراً، بل هو جزء من صورة قرأنا العراق كله من خلالها، بما فيه من طبيعة وانسان واحداث فتفاعلنا مع تلك الملحمة وانفعلنا بها بكل أحاسيسنا .

 

قُصي الشيخ عسكر

نوتنغهام/ المملكة المتحدة

في ٨/١١/٢٠١٥

في المثقف اليوم