قراءات نقدية

نص (ليليات حديقة الخواص) وتحليق الشاعر بعوالم الكون المثالي

wejdan abdulazizحينما يكون الحديث عن نتاج ما فقد تتبلور رؤية معينة تتبدى من خلال قراءة ذلك الانتاج الابداعي، لكن عندما يقترن النتاج باسم له حضور وتاريخ ابداعي متأصل فلابد من استحضار وعي نقدي تحليلي متأنٍ يفهم النص في سياقاته الشعرية، وبالتالي صلته بالتجربة الابداعية لمبدع مثل الشاعر والكاتب عبدالزهرة زكي الذي لايبتعد كثيرا عن المقصدية.

ومن هنا جاءت قراءتي لنص (ليليات حديقة الخواص) الذي نشره الشاعر مؤخراً، وهي قراءة انطلقت من الخاصية العامة الى الخاصية الخاصة لتلتحم من طرف خفي مع معنى يحاول الشاعر الوصول اليه من خلال التخفي وراء الكلمات. إنه معنى لخلق فلسفة جمالية ممتعة في التعبير عن الذات الشعرية القلقة عبر الزمان ..

في هذا النص يكون الجميع في حديقة الخواص لمتعة عابرة سرعان ما ينفضوا من حولها بانتهاء الفترة الزمنية المحددة، غير ان الشاعر يؤصل لمتعة خاصة تكون فواحة تغطي مجموعة اكبر من مجموعة حديقة الخواص التي اشار لها الشاعر.

ان نص (ليليات حديقة الخواص) اتصل بالجماعة وافترق عنها .. الافتراق عن جماعة حديقة الخواص واللقاء مع جماعة الشاعر في حديقة خواصه هو (وهي جماعة تضم الشحاذ الاخرس وامرأة رواية فرنسية، والمعلم، وارملة عاقر، وجندي، وفتى عاشق، وملك منفي، وموسيقي اعمى، وشاعرة ماتت، وحكيم) . وهذه اسماء تعني اشخاصاً لاغرابة فيهم، لكن يبدأ الشاعر في النص يقرنهم بأشياء تضفي عليهم ما يجعلهم متميزين، يختلفون في تعاملهم مع الحياة وما يوحي تعاملهم في ذهنية الشاعر عن الذين يرتادون حديقة الخواص تماما .. فعن سؤال وجه للاستاذ الدكتور عبدالله الفيفي ..

- يُوصف التحيز بأنه سلبية وجب التحرر منها، هل يمكن للذات أن تعيش حيادية قاتلة لتتحرر من تحيزاتها؟ ألا يمكن اعتبار هذا الحياد تعبيرًا عن أزمة قيمية ومن ثمة معرفية؟

الجواب كان : لا صحّة لوجود حيادٍ في الحياة أصلًا. والمثقّف قبل أن يكون مثقّفًا هو إنسان، وهو مواطن، وهو منشغل بهموم العالَم من حوله. هموم الحياة ليست تخصُّصًا. لقد كان الشاعر العربي في ثقافتنا العربيّة- على سبيل الشاهد- رائدًا، وسيِّدًا في قومه، بما هو مثقف وشاعر. لأنه يحمل الرأي والرؤية والراية، من خلال الكلمة. على أن مفهوم السياسة الحديث قد تلوَّثَ حتى أوشك ان يصبح سُبَّة. والمحكّ في حَلّ المعادلة (المثقف-السياسي) هو في فهم ما نعنيه بهذين المصطلحَين. فإذا كان معناهما يتمحوران حول الحقّ والخير والجمال، فليس ثمّة مِن تَعارُض، ولا تَنافُر. والتجارب في هذا كثيرة. أمّا حين يطغى أحد المكوِّنين في هذه المعادلة على الآخَر، ولا سيما مكوِّني (الصدق، والمكر المتنافي مع الصدق) فهنالك يقع الفصام، فلا المثقف يبقى مثقفًا، ولا السياسي يبقى سياسيًّا. لكنها أزمة لا تقع في كلّ الأحوال. لأجل ذلك، فإن المثقف الذي يسعى ليبيض في بُرجه العاجي، باسم الحياد، مصيره أن يصبح كعنقاء مُغرب، اسمًا بلا مسمَّى.)، هذه الجدلية عاش اجواءها الكاتب والشاعر عبدالزهرة زكي، وظل يتقلب بين اطباقها، والدليل نص (ليليات حديقة الخواص) :

 

(يأتون فرادى في الليل.

في كلِّ ليلة،)

 

(حين يكونُ الشاعرُ وحيداً في حديقةِ خواصِّه.

 

يأتي شحّاذٌ أخرسُ مسكين،

وتأتي امرأة يعرفها

من روايةٍ فرنسيةٍ من القرنِ التاسع عشر،

يأتي معلمٌ له بوجهٍ واحدٍ وبعشراتِ الأسماء..

تأتي أرملةٌ عاقر

كانت قد ماتت وفي نفسِها شيءٌ من ولدٍ لم يولد،

ويأتي جنديٌّ

كان قد قُتل آلافَ المرات في آلافِ المعارك،

يأتي فتىً عاشقٌ

قضى ولم يكن له من عشقِهِ

غيرُ جُرح يداريه بالشجن،

ويأتي ملكٌ منفيٌّ

لم يبقَ له من مُلكِه غير الروح،

ويأتي موسيقيّ أعمى،

وتأتي شاعرةٌ ماتت كمداً بالشعر،

ويأتي حكيمٌ

اعتزلَ الناسَ فماتت معه حكمتُه،

وقبل أن يكتمل الجمعُ

ترفّ روحٌ فريدةٌ في الفضاء

فيأتي طفلٌ

كان قد طارَ أخضرَ في عاصفةِ حربٍ منسية.)

 

هذا الصراع القلق الذي ظل يتصاعد في كل مراحل حياته، ليكون الشاعر في داخله ذاموقف وهدف على خلاف الذين (كلّ ليلِ/يأتون كثيرين يعرفُهم / وكثيرون سواهم يأتون، يعرفونه فلا يعرفهم)، اذن الذين يعرفهم هم اصحاب استحقاق حياتي وعند الشاعر في النص اعلاه يلتئمونَ جميعاً مثل ملائكةٍ على مائدته، وهم علة انهمار قريحته حالما يودعهم، يعود ليلتقط َ من المائدةِ، ما بقي عليها من كلامٍ، كلام مقترن بالضوء والخبز .. اذن (الشعر مغامرة جريئة، وفعالية عقلية راقية ومن نوع خاص، تحاول أن تفسر العالم، أو بالأحرى، أن تعطيه معنى، وأن تجبره على البوح بشيء من حقيقته. قد يبدو الأمر غريباً، لأن الناس اعتادوا أن يتركوا هذه المهمة إما للفلسفة أو للعلم، ولم يعتادوا أن يفسحوا المجال أمام الشعر ليحدثهم عن رؤيته ورؤياه كتفسير للكون وللوجود، مع أنه قادر على الذهاب أبعد من الفلسفة وأبعد من العلم... يقول الشاعر الصيني (لوتشي):‏ "نحن الشعراء، نصارع اللاوجود لنجبره على أن يمنح وجوداً، ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى. إننا نأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق، ونسكب طوفاناً من القلب الصغير في مساحة بوصة..."* نقلاً عن ماكليتش في الشعر والتجربة.* الشعر يعطي للحياة معنى مختلفاً، وهو طريقة من طرائق تفسير الحياة.. بل إنه كثيراً ما كان أعمق الطرائق حتى في الحالات التي يبدو فيها مشاغباً ومضاداً للحياة نفسها. وأزعم بأنه كان في الحالة الأخيرة أعمق منه في الحالات الأخرى، وأصدق، وأكثر فعلاً وتأثيراً.‏)، فكانت محاولات الشاعر عبدالزهرة زكي تمتلك وعيا وقصدية في رسم الموقف ومحاولة ترسيخه في ان الشاعر داخله يمتلك حلما احتماليا في التحليق بعوالم الكون المثالي ..

 

ـ نص (ليليّاتُ حديقةِ الخواص) للشاعر عبد الزهرة زكي

 

وجدان عبدالعزيز

 

في المثقف اليوم