قراءات نقدية

الصور الرومانسية في شعر الشاعر جميل حسين الساعدي

goma abdulahيستخدم الشاعر اسلوب ولون خاص متميز به، في عالمه الرومانسي، وثراء مضامينه الحية والنابضة بالرغبات الروح والوجدان الذاتي، ويصوغها في شفافية رقيقة كخيوط الحريرية، بكل انفاسها وهواجسها الطافحة في الرؤية الجمالية والانسانية، الحالمة بعالم الحب، خال من الواعج والاهات والمحن والعذاب، بل يغمرها في اناشيد رومانسية جميلة، من خصب الخيال الشعري، في الصور الفنية الحية والمتحركة بتفاعل وثيق، بانه يعطيها احساس وقيمة وشأن، رغم ان الواقع الفعلي، مملوء بالمطبات والعثرات والانكسارات وحتى الهزائم . تتجسد في مرارة العواطف الجياشة، لكنها لم تنزل الى الاستلاب والمسخ والتشوية بالقيمة الانسانية، بل يضعها في هالة من الجمال الرومانتيكي في اطار شعري حديث وباسلوب المتجدد والمعاصر، اي انه يحاول ان ينزع من لونه الرومانسي القديم، بغطاءه التقليدي والكلاسيكي، حتى لا يكون مجرد ناسخ للاخرين، او مقلد للاطر الرومانسية المألوفة في تقاليدها القديمة، اذ انه يحاول ان يشق او يرسم طريق خاص به في عالمه الرومانسي، بكل صفاته ومقوماته، وبخصوصية خاصة في تجربته الشعرية، التي تميز بها، كصوت رومانسي كالطائر الكروان، يغرد في كل محطاته الرومانتيكية، في رحاب التأمل بافكاره وتصوراته وخياله الشعري الخصب، بأن يضع اللبنة الاولية في الانتماء الى الواقع الفعلي والملموس، في تجاربه الاستكشافية، في عالم الحب والهيام والغرام والوجد . لذا نتلمس بوضوح بأنه يعطي قيمة للمرأة العاشقة والمحبوبة، ويضعها في مكانها المناسب والصحيح، بالثراء الشعري الغض، الذي يمزق التصنيف الشائع في الشعر الرومانسي، الذي يصنف المرأة العاشقة او المعبودة، بالتقسيم السائد : اما ملاك أو شيطان . وانما يكون موقف ودور المرأة العاشقة او المحبوبة يكون بصورة مختلفة ومتنوعة، من قصيدة الى اخرى، ومن حالة الى حالة اخرى مختلفة، مما يعطيه صفة التخيل الشعري المتولد بسعة الخلق والديمومة والنماء والخصب والتجدد، ضمن الواقعية الفعلية والموجودة، دون تكلف وتصنع، او دون اسفاف وتشهير مغرض . بل ان حلمه الرومانسي يجعله يغرد في الفضاءات العالية، قد يخرج عن الواقع الموجود، لكنه حلم وجداني اخضر، في عالم الحب المنثور بالازهار والمروج الخضراء، وهذا الحلم يتقاطع مع الواقع الملموس ومساراته، التي تجعل الحبيب او العاشق، يتجرع كأس العلقم والسهام الطاعنة والجحود والتبرم والشكوك، قد نجده في الكثير من الاحيان الضحية الذي يحترق بهشيم ملتهب بحمم النار، والصفة التي يتميز بها الشاعر، بأنه يحاول بمثابرة دؤوبة، كسر الاغلال التي تكبل رابطة الحب بالقيود، بجعل الحب حراً منطلقاً من قفصه نحو الرحاب الواسع دون قيود وشروط، لكن هذا الانطلاق يأخذ صفة الموضوعية والواقعية بوجهها الابيض الناصع، دون الطعن بقيمة الحب والغرام، كما وأنه يبتعد عن التزلف والتملق والنفاق، بل يعطي قلبه بالبياض كالزلال الصافي والنقي، بأن يقدم قلبه المغرم على طبق جاهز في راحة المعبودة او الحبيبة . هذا الجمال الرومانسي الذي يتسلق على اغصانه لعله يقطف ثمرة من ثماره اليانعة ، هذا الخيال النابض بالتصور والمعبر بحيوية عن جدلية الواقع، في اللغة الرشيقة في بلاغتها، والبناء الشعري الواضح في مرامه والرنة الموسيقية الصادحة في انغامها، التي تشعل النار في المشاعر المرهفة في عواطفها الوجدانية، ليجعلها تدخل القلب مباشرة، بهذا التجلي المتفاعل يشعر بالانعتاق والتنفس الصعداء، في اطلاق هواجس عواطفه الجياشة، بكل ما تحمل من آمال وآلآم وجدانية وانسانية، ويحاول ان تكون المرآة الذاتية بما تعكس باشعتها من انعكاسات ضوئية، التي تغلف روافده الرومانسية المتنوعة والمتعددة، وهي لا تبتعد عن مسار الزمن والمكان والموضوعية، وتتجنب كثيراً من الانجرار الى الفنتازيا الرومانسية، بل يحاول ان يكون واقعي ومتواضع في طلبات القلب وهمومه، بأن يجمع قلبين على طريق واحد، ليغرد بترانيم وانغام الطائر الكروان، لذا من المفيد استقراء الظواهر الرومانسية وصورها الفنية المعبرة في :

1 - وهج الحب : تتنور العواطف الجياشة بانوارها المتوهجة في فضاءات الروح، تجعلها تبحر بكل لهفة واشتياق وبكل عنفوان في بحر الحب، ليرتل القلب اناشيده المضيئة، كأنه في حنينة الازهار والعشب الاخضر المزينة بانوار الغرام والهيام، ليسكب فواحة رياحينه في هذا اللهيب الوجداني، الذي يفيض في جمالية انعتاق الروح، هذا هو عالم الحب الحقيقي راضياً ومرضياً لا يعرف التبدل والفصول، فكل فصوله ربيع

أنا قد وهبْتُ هواكِ كُلَّ مشاعري

             قدراً رضيتُ بـهِ وحُكْمـــاً مُنزلا

أنا مَنْ جعلْتُ القلْبَ محراباً لهُ

             ومنحتــهُ بيــْنَ الأضالعِ مَنْــــزلا

الحـبُّ عندي مثْلُ جذرٍ راسخٍ

             لا كالفصــــولِ تقلّبـــــــاً وتبدّلا

فتخيّلي ما شئْتِ انْ تتخيّلــي

             إني أحبــكِ فوقَ أَنْ أتخيّــــــلا . من قصيدة

(الحب الدائم)

2 - هواجس الشك والحيرة والتبرم: ان الحب الحقيقي يسمو على المظاهر الحياتية المزيفة، التي تتشبث بقيم المال والثراء والجاه، وان قيم العشق الصادقة لا تباع ولا تشترى . لذا فان بواعث الشكوك والتبرم، تجعل القلب يحترق كالرماد، لذا فمن حق العاشق ان يطالب بالحساب الموضوعي، فأي اتجاه يسير بندول الحب نحو المواصلة، ام المقاطعة وقطع الجسور

 

لو قلتِ لـي يومــا كرهتُكَ ربّمـــــا

               أنسى هواك ِ وأستردُّ صفـــــــائي

هيَ كلمة ٌ لو قلتِــها ليَ مــــــــرة ً

               لأرحتِنــــي من حيْرتــي وعنائـي

إن كنْت ِ بالمالِ الوفيــرِ ثريّـــــة ً

               فأنــــــــا الثريُّ بفنّيَ المعطــــاءِ

الحبُّ عندي غايـــــةٌ فــي ذاتــه ِ

               لا سلّـــمٌ للمجــدِ والإثـــــــــــراءِ .

من قصيدة (الى المرأة الثرية)

3 - الحنين والاشتياق : العطش الروحي يزيد ضرباته الموجعة، كلما شعر القلب بوحشة الحنين، فأنها تبحث عن الارتواى الروحي بهذا الاشتياق، الذي يرطب شغاف القلب، لذا تظل الاحاسيس متيقظة الى هذا الارتوى، حتى يكسر جدار معاناته التي تضيق بها الحروف، وتترك القلب لعبة في يد طفل، يتمرغ بها دون رأفة وعطف، ان الحنين يكسر بواعث المساء الموحش

مســـــــائي موحشٌ لمّـــــا جفــــاهُ

                 ضيــا قمـــرٍ توارى في الخســوفِ

حنيـــــنٌ في ازديـــادٍ واشتيــــــاقٌ

                 أحالانــــــــي الــى عودٍ نحيــــــفِ

فرفقــــــا ً بالمشــــــاعرِ لا تكوني

                 كمنْ يرمي الورودَ علـى الرصيفِ .

من قصيدة (حنين واشتياق)

5 - هواجس الرغبة والامتلاك: في دوامة الغزل الصوفي، الذي يدخل في لهيب الاحتراق، يكفي في محراب الحب والمعبود، الرضاء ليفوز بالخلود الهوى والهيام، انه كنز الامتلاك الروحي

أنـــا فـي لهيبِ الوجْــــدِ مُحتــرقٌ

               أوّاهُ ممّـــــــــا يفعــــلُ الوجْــــــدُ

صـوتٌ مــن الأعمـاقِ يهمسُ لي

               مــــــــا مِنْ هـــواكَ ونـــارهِ بــدّ ُ

أنـــتَ الأمـــــــاني كلّهــــا وأنـــا

               لهـَــــفٌ كمــــوجِ البحْــرِ يمتــــدُّ

لا أبتغــي في الخُلـــــــدِ لي سكنا ً

               يكفـــــي رضــــــاكَ فإنّـهُ الخُــلدُ .

من قصيدة (ابتهالات في محراب الورد)

 

6- الهروب الى احضان الحب: هذا الاندفاع الرومانسي، بان يجعل الحب هو المأوى الامن، والدفئ الضامن في قناديله المضيئة في بيتها المتوهج بحرارة العشق والدفئ، بأن يكون بمثابة مقام الوطن الضامن في الحياة المسعورة بالتنافر والتناقض، المعبد الوحيد الذي يحقق امنية الروح الوجدانية لديمومة البقاء الابدي، ليظل محافظاً على تراتيل العشق

قالت صحبت َ العشْــق َقُلْــ   ــتُ وفيهِ يوما ً مُنتهــايْ

فصــــلاةُ عشقي لنْ يكـــو نَ وضوؤها إلاّ دمـــايْ

أُمْنيّتــــــي يــا نجمتــــــــي   أنْ تسمعي يوما ً نِـــدايْ

أنْ تتركي الفلك َ البعيــــــــ   ــد َ وتنزلـي حتّى سمايْ

ما عادَ لي وطـــن ٌ أحـــثُّ إليـــــه ِــ مُشتــــاقا ًــ خُطــــايْ

مــا عاد َ لِيْ وطــن ٌ ســوى   عينيـــك ِ أُنبئه ُ أســــايْ .

من قصيدة (تراتيل في العشق)

7 - الوحدة والعزلة والقلق: وهي تدق في اوتارها الحزينة، بالهموم والقلق الموحش، من جراح الوطن الجريح وفراق الاحبة والاهل، بهذا القلق الذي يدق بطرقات عنيفة ومؤلمة بالالم الموجع وهو يفيض بهذا الفيضان المتصابية بالشجون والقهر

 

هذهِ الليلـــة وحــــــــــدي

مبحـــرٌ عبـــــر جراحاتي القديمــة

مبحرٌ عبْــــــرَ جراحاتي الجديـــدة

أذكرُ الأحبـــــابَ والأهلَ وأصحابي القدامـــى

منْ تُرى يمســــحُ عــن عيني الغَمــــــــــامــا ؟

لأرى تلكَ التــي خلّفتِ القلبَ حُطــــــــــــامـا

مَن تُرى يُطفئُ فـــي النفسِ ضــــــــــرامــــا ؟

8 - الغربة والاغتراب : التشتت والفراق بسيف ظالم، يجعل الروح منفية تناجي جذرها واصلها . حيث الاهل والاحباب، فتظل الوحشة تناجي بعتابها المرير، لان الوفاء من شيم النفس الكريمة، وتكشف المعدن الانساني الحقيقي، بهذه النغمات الحزينة ينشد الم الفراق

كمْ قــــــدْ قلقتُ لبين ٍ قـــــدْ يفرّقنـــــــــا

                   واليوم فقدهــــــــمُ قدْ زادَ إقلاقــــــــي

ينتابنــــــــي ذكْرهم في كلّ آونــــــــــة ٍ

                   فيحرقُ الذكْرُ قلبــــــي أيّ إحـــــراق ِ

أشتـــــــاقُ حتّى ولو في القبْرِ رفقتـــهم

                   فمَنْ سيُذهــــبُ عنّـــــــي نارَ أشواقـي

إنَّ الجـــراحَ وإنْ جلّتْ تهــــــونُ سوى

                   جراحِ قـــــوم ٍ بهذي الأرضِ عُشّـــاقِ .

من قصيدة (ايها الساقي)

9 - الحزن: فاجعة الموت المصير النهائي للحياة، لكن تبقى وحشته بالحزن الذي يعصر القلوب عصراً بالالم والاسى، وتبقى ذكرى الاحبة والاصدقاء مضيئة، راقدة في خزين الذاكرة حية تنبض بالحياة، كأن العزيز الذي اختطفه الموت غدراً وظلماً وعدواناً، حي يرزق بعد مماته، لكن في الذاكرة الحزينة، متفاعل في حضوره الدائم، هذه الحالة الشعورية هي من صلب الواقع . كما ذكرها الشاعر.

الموتُ كذبٌ ها هي الأحــلامُ تولدُ فـــي النهارْ

ويجــئُ صوتك يطرقُ الأسماعَ حيّا ً كالهــديرْ

ويهـــزّني صوتُ البشيرْ

قُمْ مزّق الأكفانَ... موكبنـــا يسيـــرْ

والصبحُ موعدنا

وهذا الليلُ في الثُلثِ الأخيــرْ

10 - التوحد في الوهم: هي حالة واقعية عصفت بالشاعر وهو يعبر عنها بقوله:

(كان الظلام الدامس قد خيم على البحـر، في تلك الأثناء تناهى إلى سمعي صوت منبعث من بعيد من بين الأمواج، ينادي عليَ باسمي، تصرفت لا شعوريا فخلعت ملابسي بسرعة وألقيت بنفسي في مياه الكاريبي، وبدأت أسبح باتجاه مصدر الصوت وابتعدت كثيرا عن الساحل وفجأة اختفى الصوت فعدت أدراجي

إنّــــــهُ البحْـــــرُ يُنادينـــــي فهـــلْ

قدْ سحـــــرتِ البحْـرَ قبلـي فالتقـــــاكِ

لســـــتُ أدري ما الذي يضمــــرهُ

أســـــــرورٌ فيــهِ أمْ فيـــــهِ هلاكــــي

أنـــــا آت ٍ لســتُ أخشـــى ليلــــهُ

فعلـــــــى الموجِ شعــــاعٌ مِنْ سَنــاكِ

أنتِ مِنّــــــي وأنــــا منــكِ فمـــنْ

ذا الذي حوريّـــــــةَّ البحــــرِ دعــاكِ

 

ملاحظة: مصدر هذه القصائد من ارشيف الشاعر في صحيفة المثقف الغراء

http://almothaqaf.com/index.php?option=com_users&Itemid=585&id=2460&lang=ar&view=articles

 

جمعة عبدالله

 

في المثقف اليوم