قراءات نقدية

حول دورالملهمة في حركة الإبداع الشعري

adnan albaldawiلاشك في ان وراء كل إبداع أدبي حوافز خلاقة تولد وتعيش داخل الكيان الذاتي للشاعر، ويتوقف عمرها الزمني على مدى حيوية وحياة المسبب المرتبط بها، ولأن العوامل المحفزة للإبداع كثيرة، ما بين اجتماعية ونفسية واقتصادية وروحية وغيرها، فقد اخترنا لموضوعنا عاملا فاعلا في ولادة وخلق الإبداع، وهو الملهـِم والملهـِمة، والطرف الملهِـِم هو الذي يتجسد فيه ما كان يبحث عنه الشاعر من قيم ومثل وجمال ومواهب ومواصفات متميزة تثير كوامن الإبداع، فإذا ما استمكنت تلك القدرات من قلب الشاعر وخياله، تراه قد حلّ في أجواء شاعرية ذات حركة غير طبيعية، إنها حركة ذات حيوية تهدف الى تقديم الأفضل والأجمل من الصور والمفردات، لترقى بها الى مستوى ذلك الملهِـِـم المتميز، لأن الملهـِمة بطبيعة فاعليتها في إيقاظ الحواس واستنهاض الكوامن، تنقل الشاعر الى عالم مفعم بالحركة والحيوية، وربما الى جو لم يعهده من قبل، ومع بروز دور المرأة، فقد تعددت حالات الإلهام في حياة الشعراء، مخلفة وراءها بصمات واضحة في السيرة والنتاج، وقد أكد ذلك التعدد ضعف بعض التصورات غير الدقيقة التي تقول ان وراء إبداع الشاعر كله امرأة واحدة تلقي في روعه افكارا وصورا غاية في الجمال والإثارة، ونحن وإن كنا لاننفي ذلك نفيا قاطعا، لكننا لانؤيد حصوله مع جميع الشعراء وفي جميع القصائد، بحكم تنوع المسببات واختلاف مصادرها، ومن ثم تدخل الطروف والأحداث .

وحتى الذي يتأثر بملهـِمة واحدة، فلا يعني يعني ان ذلك ينعكس على جميع قصائده وما لديه من نتاج هنا وهناك، إذ كثيرا ما نجده متأثرا بجانب معين، كأن يكون جسديا او خلقيا او شخصيا او ثقافيا، يحتل وصفه مجموعة من النصوص الشعرية في الديوان.

إن الشاعر قد يتأثر باكثر من ملهـِمة فيأخذ من كل واحدة قبسا معينا مما يلفت نظره او يثير اعجابه، وربما يجد بعض مايريد في ملهـِمة ما ولكن جذوة الإنفعال قد تتضاءل او تخفت بعد اختفاء او رحيل تلك الملهمة، وهناك من الشعراء من تهيمن عليه الملهمة (س) مثلا ولكنه لايراها ولايجلس اليها ولايكلمها، كأن تكون امرأة رمزية هو الذي يخلع عليها من الجمال وحسن الخيال ما يتمنى ان يجده في امرأة حقيقية.

وعلى الرغم من اختلاف الاتجاهات وتعدد الأذواق، فإن الأمر لايقتصر على تأثير ملهـِمة ما في حياة شاعر دون غيره، فهناك حالات أخرى ولكنها تختلف في طبيعتها وأجوائها ومصادرها، كأن تهيمن ملهمة واحدة على مجموعة من الشعراء وذلك لما تتمتع به من طاقات وجوانب جمالية متعددة، وقد أكدت المصادر حصول هذه الحالة في مختلف العصور الأدبية.

ومع ذلك فإن سيطرة او تأثير الملهمة في المجموعة مهما بلغ لايعني تشابه نتاجات أعضاء المجموعة تشابها كليا، فقد يكون لكل عضو في المجموعة تصوراته الخاصة وتأثره الخاص بجانب او أكثر من جوانب الشخصية الملهـِمة.

ان ادبنا العربي المفعم بالنصوص الإبداعية قد حظي بأمثلة كثيرة لذلك النموذج، وتعد كليوبترا على سبيل المثال من المتصدرات لكوكبة الملهمات.. حيث قال كل المعجبين بها أنشودته فيها أمثال بلوتارك وباسكال وهوراس وغيرهم من أدباء وشعراء الغرب، كما ألهمت جوانب منها بعض شعرائنا أمثال احمد شوقي الذي كتب مسرحية خاصة بها سماها (مصرع كليوبترا) وكان ذلك سنة 1927م، وقد سبقه شكسبير الى هذا العمل المسرحي في مسرحيته (انطونيو وكليوبترا)ومسرحية الشاعر الفرنسي جودل التي بعنوان (كليوبترا الاسيرة)وهي اول مسرحية فرنسية عن هذه الملكة وكان ذلك سنة 1552 م .

وعلى ذكر كليوبترا وهي الملكة الملهمة من ملكات مصر القديمة، يحدثنا التاريخ عن امرأة اخرى ولكنها جارية من جواري العصر العباسي اسمها عنان، وكانت الى ظرفها وفصاحتها وسرعة بديهتها جميلة فتانة، حتى قالوا ( انها لم يكن فيها شئ يُعاب،فطلبوا لها عيبا حتى لاتصيبها العين، فأحدثوا بظفر خنصر رجلها شيئا..)

اما العصر الحديث فلم يبخل على الأدب بملهمته التي كانت مصدر الإبداع لكثير من الشعراء والأدباء والباحثين، ونذكر على سبيل المثال نص اعتراف العقاد بحبه لـ (مي) قائلا: أحببت في حياتي مرتين، أحببت ( سارة) وهذا ليس اسمها الحقيقي وإنما هو اسمها المستعار، اطلقته عليها في قصتي المعروفة بهذا الاسم، وأحببت (ماري زيادة ) الأديبة المعروفة باسم (مي) : الأولى كانت مثالا للأنوثة الدافقة الناعمة الرقيقة، لايشغل رأسها إلا الاهتمام بجمالها وأنوثتها ولكنها كانت الى ذلك مثقفة، وكانت الثانية وهي (مي) مثقفة قوية الحجة، تناقش وتهتم بتحرير المرأة وإعطاء حقوقها، وكانت جليسة علم وفن وأدب، وزميلة في حياة الفكر..)

ان مساهمة الملهمة في تحقيق عملية الإبداع لم يكن حديث عهد، فهو دور متوغل في القدم،لاسيما من خلال النصوص التي وصلت الينا منذ العصر الجاهلي، تلك النصوص التي أفصحت ان وراء أصحابها ملهمات ساهمن الى حد كبير في استخراج او إنماء الخزين اللغوي الذي مكن الشاعر من خلق صور مبدعة أصبحت خالدة بحكم قوتها وجاذبيتها، فدخول عبلة مثلا في حياة عنترة قد احدث تغييرا مثيرا في مسار حياته، والتحاف قلب جميل بروح بثينة قد حول أجواءه الى أغان شعرية عفيفة استمدت مفرداتها من سيرة تلك الملهمة ذات الصفات الجمالية والخلقية المتميزة التي جعلته يؤمن بأصالتها ونقائها، ودخول (عزّة) في حياة (كثير) كقوة سحرية الى جانب قوة عقيدته الدينية قد ساهم في إذكاء جذوة التفوق والابداع،والامثلة كثيرة ..

اما دخول أكثر من ملهمة في حياة الشاعر فهو أمر طبيعي يخضع لظروف معينة وميول نفسية مختلفة اغلبها تتجه الى حب الجسد أكثر من الروح ولهذا تفتقر مضامينها الى عنصر الصدق والعفة كما ورد في حياة الشاعر امرئ القيس والشاعر عمر بن ابي ربيعة وغيرهما من شعراء العرب.

اما الذين انشغلوا عن ملهـِمات الدنيا بالحب الإلهي كـ (ملهـِم) وجدوا فيه مبتغاهم وارتاحت اليه نفوسهم،فهم قلة وذلك لما في هذا النوع من الإلهام من مواصفات خاصة، ومنهم على سبيل المثال الشاعر ابن الفارض ورابعة العدوية.

وعندما تتوغل العقيدة او المبدأ في العمق النفسي والفكري وينشغل القلب بها دون غيرها تصبح ملهـِما ذا أثر كبير في حركة الإبداع، وقد برزت في هذه الأجواء أسماء معروفة أمثال الشاعر الطرماح بن حكيم وعمران بن حطان وقطري بن الفجاءة ودعبل الخزاعي والكميت بن زيد الاسدي القائل:

طربت وما شوقا الى البيض اطرب

ولا لعبا مني وذو الـــــــشيب يلعب

ولم تلهني دار ولا رـــــــسم منزل

ولم يتطـــــــــــّربني بنان مخضب

ولــــكن الى اهل الفضائل والنهى

وخير بني حـــــواء والخير يطلب

الى النفر البيض الذيــــــن بحبهم

الــــى الله فيمـــــا نابنـــي أتقرب

بنــــــــي هاشم رهط النبي فانني

بهم ولهم ارضى مرارا واغضب

إن الشخصية العربية قد جبلت على النبل والكرم والنخوة والشهامة وحب الخير إقتداء بالسلف الصالح، ومن الشعراء على سبيل المثال الذين ألهمتهم الشخصية العربية المثالية فأوحت اليهم بالكثير من الإبداع الشاعر ابو الطيب المتنبي الذي أحب كما يحب الناس ولكنه حب كما يبدو لكثير من الدارسين ممتزج بتطلعات عربية مصيرية كان يراها الشاعر أهم من الحب وأسمى فلم يسمح للمرأة ان تكون وحدها هي الملهمة بل زجّها مع الخيل والليل والسيف والقرطاس والقلم والولاية والسيادة وعزة العرب، وقد تحمّس الى ذلك اكثر عندما وجد أغلب المبادئ والمثل التي يؤمن بها ويحبها متجسدة في شخص سيف الدولة الحمداني الامير الذي صار ملهـِم الشاعر.

ولأن المقال لايسع الى ذكر المزيد نخلص الى مايأتي:

1- لقد شاع في الحياة الادبية ان المرأة هي المؤثرة وأن لها دورا فاعلا في خلق تلك القوة وانها الملهم الوحيد الذي وقف ويقف وراء ولادة النصوص المبدعة،ولكن الدارس المتتبع يجد غير ذلك ..انه يجد بعد تحصيل حاصله واستنتاجات تأملاته ان الحب الإلهي والوطن والبطل والعقيدة والعبقري والوالد والوالدة ،وغيرها من المتساميات هي ملهمات اخرى تسهم في ولادة الإبداع الى جانب المرأة .

2- ان بعض الشعراء يستلهم قيما معينة ويعشقها، فيظهر اثر ذلك في ثنايا نتاجه،كحب الحرية والعدالة والإنسانية فيتخذ مثلا احد الرموز الإنسانية ملهـِما له دون ان يحجبه عن تحقيق ذلك دين ذلك الرمز او قوميته .

3- ان ارتماء الشاعر في أحضان الإلهام واحتواء أحاسيسه،يستنهض فيه أقصى همة البحث عن كل جميل، يصوغ منه أرق وأسمى تعابير الإعجاب، ولاشك في انه يحتاج الى تحقيق ذلك رصيدا لغويا وخلفية ثقافية تعين موهبته على إعلان ولادة النص الإبداعي الذي نحس بمتعة بالغة ومؤثرة كلما عدنا الى قراءته، وهذا هو سر خلود النصوص المبدعة.

4- من خلال الوقوف عند عملية الإلهام لدى شعراء الغرب، ومن خلال تأمل نتائج العملية نفسها لدى الشعراء العرب، يتضح للدارس ان الشاعر العربي يتفوق في هذا المجال على الشاعر الغربي، في ان الشاعر العربي ملهَم ومُلِهم في الوقت نفسه، فهو ملهم(بفتح الهاء) بما جادت عليه حضارته وما جبل عليه من أصالة ونقاء، وهو ملهم (بكسر الهاء) للاجيال بما جاد شعره من إبداع مداف بمثُل العرب السامية .

5- إذا اراد الشاعر أن لايضيّع ملهمته المتواصل معها و التي جادت عليه بالروائع،لابد ان يفكر في مستلزمات الحفاظ عليها من جميع النواحي،وتتجسد هذه المحافظة أولا في سلوكه معها الذي يجب ان لايخرج عن الحب الروحي العفيف مهما تكالبت الغريزة صوب الجمال الجسدي الذي أصبح جمالا تقليديا كثيرا ما يفسد جذوة الحب بعد وساوس الاختراق اللامشروع.. وثانيا عليه إشعار الملهمة بأن الله تعالى قد أودع فيها قدرات تستدعي ان تحافظ هي الأخرى عليها من مسببات الابتذال او أي عامل مخرب آخر،وبهذين السلوكين من الملهـَم والملهمة يكون قد حظي المجتمع بإحدى لبنات بناء الأسرة المثالية، ولاشك في ان تكرار او زيادة مثل هكذا لون متميز في مجتمع ما يعني الارتقاء الى مصاف الأمم الراقية المثقفة ثقافة حقيقية قد ولدت في رحمها وليست ثقافة مستوردة مقصودة التصدير...!

 

عدنان عبد النبي البلداوي

في المثقف اليوم