قراءات نقدية

قصة تشيخوف (البدين والنحيف) والصراع الطبقي

كتب انطون بافلوفيتش تشيخوف هذه القصة القصيرة عام 1883، عندما كان طالبا في الكلية الطبية بجامعة موسكو، وكان عمره آنذاك 23 سنة. لقد كتب تشيخوف في تلك السنة الكثير من القصص القصيرة، ونشرها في المجلات الفكاهية الروسية من الدرجة الثانية وحتى الثالثة، وذلك من اجل الحصول على بعض النقود لتعينه في حياته و اكمال دراسته ليس الا، كما هو الحال بالنسبة لكل القصص القصيرة الاخرى، التي كتبها تشيخوف في بداية حياته الادبية آنذاك .

تقع قصة (البدين والنحيف) هذه في أقٌل من صفحتين فقط في مؤلفات تشيخوف الكاملة باللغة الروسيٌة (وكذلك طبعا في مؤلفاته المترجمة الى اللغات الاخرى، بما فيها بالعربية)، وتتحدث عن لقاء عابر- حدث بمحض الصدفة - في احدى محطات القطار بين شخصين درسا بمدرسة واحدة في بداية حياتهما الدراسيٌة، وافترقا منذ ذلك الحين، وتذكرا بعضهما البعض في ذلك اللقاء بعد كل هذه السنوات التي مضت، وكان هذا اللقاء طبعا حارٌا وصميميا ومليئا بالعواطف الجيٌاشة بين صديقين درسا معا ايام الصبا، وتحدٌثا بتفصيل وتلقائية عن مسيرة حياتهما وذكرياتهما اثناء فترة الدراسة تلك، ولكن ما ان عرف النحيف (وهو موظف صغير في احدى مؤسسات الدولة) بالموقع الوظيفي الكبيرالذي يشغله صاحبه البدين، حتى اختلفت سحنته وتبدلت لهجته وأخذ يتكلم معه بصيغة رسمية وبخوف وهلع شديدين وبشكل مصطنع جدا، على الرغم من محاولات زميله البدين بالاعتراض على هذا التصرٌف الغريب، وايقاف هذه الصيغة المفتعلة بالحديث معه، ولكن عبثا، اذ لم يتوقف النحيف من الكلام بهذه الصيغة، وهكذا افترقا مرة اخرى، و هكذا تنتهي القصة القصيرة تلك.

 لقد تم ترجمة هذه القصة القصيرة الى العربية منذ فترة طويلة، وقام المترجم المصري القدير الدكتور ابو بكر يوسف بترجمتها ايضا في المؤلفات المختارة لتشيخوف ب (4) أجزاء، التي اصدرتها دار النشر السوفيتية المعروفة (رادوغا)(قوس قزح) في ثمانينات القرن الماضي بموسكو، و تناول المتخصصون الروس والاجانب (بما فيهم العرب طبعا) هذه القصة القصيرة وتحدثٌوا عنها وعن خصائصها واهميتها ومكانتها في الكثير من الاصدارات والدراسات عن تشيخوف، وهي معروفة جدا للقراء العرب، بل انها حتى خضعت مرة الى تعليقات حرٌة ومفتوحة للقراء العرب، والذين قالوا ما قالوا بشأنها من آراء سلبية وايجابية (ما انزل الله بها من سلطان !) كما يقول التعبير العربي الطريف، وقد كتبت انا شخصيٌا تفصيلات واسعة عن هذه القصة القصيرة في احدى مقالاتي عن تشيخوف، وتناولت تعديلات تشيخوف حولها عندما أدخلها في احدى مجموعاته القصصية آنذاك - (انظر مقالتي بعنوان – حول قصص تشيخوف المبكرة)، ولكننا نريد في هذه المقالة العودة اليها مع ذلك، لاننا وجدنا بعض الآراء الجديدة حولها في بعض المصادر العربية، والتي تحاول ان تطرحها باعتبارها قصة قصيرة تتناول الصراع الطبقي في المجتمع الروسي وتجسٌده، وبالتالي طبعا، ينعكس هذا الرأي (اي الصراع الطبقي وتأثيره ودوره واهميته) في مجتمعات انسانية آخرى، بما فيها مجتمعاتنا العربية بالطبع .

يرتبط مصطلح (الصراع الطبقي) بالنسبة للوعي الاجتماعي العربي الحديث بالحركات السياسية اليسارية بشكل عام، والتي ظهرت في العالم العربي بعد الحرب العالمية الاولى ليس الا، والتي تحاول تفسير كل الظواهر الاجتماعية على اساسها، و لا زال هذا المصطلح جديدا نوعا – ما لحد الان بالنسبة للمسيرة الفكرية لمجتمعاتنا العربية عموما، ولا زلت اتذٌكر انطباعات المؤرخ والمؤرشف المعروف المرحوم عبد الرزاق الحسني في مهرجان المربد في سبعينيات القرن الماضي بالبصرة عندما تحدٌثت معه حول كتاب الباحث السوفيتي كوتلوف عن ثورة العشرين في العراق (يسميها كوتلوف بالنص الروسي – انتفاضة، وقد قام بترجمة الكتاب عن الروسية المحامي الدكتورعبد الواحد كرم، ثم اعيد طبع الكتاب ثانية بمراجعة الحسني نفسه، نتيجة بعض الاخطاء الكبيرة في اسماء العشائر العراقية التي جاءت بالطبعة الاولى، والعشائر - كما هو معروف - هم الذين كانوا عماد تلك الثورة ضد الاحتلال) . لقد قال لي الحسني عندها، انها المرة الاولى في حياته التي قرأ فيها، ان هذه الثورة قد حدثت نتيجة الصراع الطبقي في المجتمع العراقي آنذاك، وقد كان الحسني متعجٌبا جدا ومستغربا من ذلك الرأي، الذي ورد – بشكل او بآخر - في كتاب الباحث السوفيتي ذاك !!

 ليس عبثا اني تذكرت موقف الحسني هذا في سياق هذه المقالة، اذ اني تعجبت واستغربت مثله ايضا عندما اطلعت على الرأي القائل، ان تشيخوف قد انطلق من موقف (الصراع الطبقي) في قصته تلك، والتي كتبها – كما اشرت اعلاه – في ذلك العمراليافع من اجل الحصول على قروش تعينه في معترك الحياة .

ان البدين والنحيف في هذه القصة الساخرة القصيرة هما من طبقة اجتماعية واحدة في روسيا، و انهما درسا سوية في مدرسة واحدة، وكانا صديقين حميمين اثناء دراستهما معا، ولم يكتب تشيخوف اكثر من ذلك في قصته، ولا توجد اشارة من الكاتب - لا من قريب ولا من بعيد – الى انهما من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين (كي يتصارعا !)، حيث تمتلك كل طبقة خصائصها الذاتية وامتيازاتها ومصالحها المتعارضة مع الطبقة الاخرى، وكلاهما اصبحا بعد المدرسة موظفين في مؤسسات الدولة ليس الا، وان مناصبهما لم تأت نتيجة وضعهما الطبقي ابدا. لقد جسٌد تشيخوف في قصته تلك ظاهرة تناولها الادب الروسي منذ (ناظر المحطة) لبوشكين و(المعطف) لغوغول و(المساكين) لدستويفسكي، وتناولها تشيخوف في الكثير من قصصه الاخرى مثل قصة (موت موظف) الشهيرة . تسمى هذه الظاهرة في الدراسات النقدية الروسية، اذا اردنا ان نترجمها حرفيا - معاناة (الانسان الصغير) في المجتمع الروسي، الانسان المسحوق دائما، والذي لم يتحرر من جذور العبودية في اعماقه، وقد كتبنا عن هذه الظاهرة تفصيلا في عدة مقالات حول الادب الروسي، ومنها مقالتنا بعنوان – (تشيخوف وغوغول)، واعطينا ترجمتها العربية التفسيرية وخصائصها، ولا نريد اعادة ذلك هنا، اذ ان ذلك اصبح معلوما للقارئ العربي حول وصف معاناة الانسان المسحوق وخوفه الدائم امام السلطة الغاشمة في اي مجتمع انساني.

ان اقحام مفهوم (الصراع الطبقي) في تفسير قصة تشيخوف القصيرة (البدين والنحيف)- من وجهة نظرنا - يعد محاولة مفتعلة جدا وبعيدة عن النظرة الموضوعية السليمة الى تلك القصة، والى كل ابداع تشيخوف الجميل والرشيق بشكل عام .

 

أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم