قراءات نقدية

جنون الأسئلة في مجموعة كريم جخيور: ربما يحدق الجميع

rahman khodairabasعن دار تموز للطباعة والنشر. صدرت مجموعة شعرية، للشاعر العراقي كريم جخيور تحت إسم (ربما يحدّق الجميع). والمجموعة برمتها، تسفح اسئلة وتطرحها على طاولة الخيبات اللانهائية، لزمن تحجرت أحاسيسه وتكلست مشاعره . كان إيقاع الأسئلة رتيبا ومتكررا، تحيطه الدهشة والإنكسار، كما يغلب عليه روح من الحزن العميق، والشعور بالمرارة والإحباط .

تنتصب لوحة على غلاف المجموعة لأمرأة: تحدق بذهول وهي ترفل بالألوان البرتقالية الحادة، بينما شعرها يذوب في السحب الداكنة . إنها لوحة الغلاف للفنان فيصل لعيبي . والتي وُضعت كغلاف للمجموعة الشعرية . أدركت أنها (ألزا البصرية) التي غيبها الموت عن حبيبها الشاعر، وكأنه يتقمص جنون أراغون أو ديك الجن أو حتى حزن يوسف الصائغ ، والذي احتفظ بالتفاحات الأربع التي اشترتها في طريق العودة (الزاه أو زوجته) قبيل أن يدركها الموت في حادث إنقلاب السيارة في طريق عودتهمم الى الوطن من تركيا، والذي أودى بحياة زوجة الصائغ فقط من بين الجميع !، فكتب قصائد رثائية جميلة وحزينة، أسماها (التفاحات ألأربع) .

في مجموعة (ربما يحدّق الجميع) تأتي الأسئلة مثخنة بالجراح، إسئلة حادة تشكل جوهر القصائد التي جمعها الشاعر وبوّبها وحملها كحقيبة تحمل رائحة القلق والدهشة والإنكسار . إنها الأسئلة التي ترفرف بين فجوات النص . إسئلة مفجوعة، تفيض بالوجع العميق .

" ايها القلب . هذا الذي تطير به،

هل كان حبا "

ولم يكرس الشاعر كريم مجموعته للرثاء فقط، بل تصدى للهموم الحياتية اليومية، وللعثرات والإحباطات وضياع الوطن والغزو ودخول المارينز والهزيمة وتشظي المجتمع . ولكن القاريء يهجس أنّ ثمة حزنا دفينا يرفرف بين الكلمات والحروف . وثمة لوعة ترفع اشرعتها بحياء وبإباء الرجل الذي فضّل أن يكتم لوعته،وأن يختفي تحت ضباب الصبر الجميل .

في قصيدته الأخيرة والتي كرّسها للفقيدة، من خلال عنونتها (ورقة اولى في الرثاء) والتي يستهلها بعتاب رقيق مع الرب والذي يتشكل على هيئة سؤال :

" أيها الرب وانت الكريم،

هل كان الهواء شحيحا في خزائنك، حتى بخلت عليها "

وهنا يحاول الشاعر ان يتلافى مفردة الموت،فمرة يعبر عنها بإنعدام الهواء،ومرة يعبر عنها بالكأس

"مبكرة كأسك " وفي المقطع الموالي، يصف لحظة الدفن الحزينة، فقد جعل من الآخرين في واد عاطفي وهو في واد مناقض . فبينما كانوا يهيلون التراب عليها ببرود، كان يهيل الدمع عليها وكذلك القبل التي امطرت لحظة الدفن . ثم يصفها بالشمعة التي تغسل الغياب . وهذا يعني انها لم تغب فستظل مضيئة للليل الشاعر . ولأستخدام الشمعة شجون في الزجل المغربي فقد كتب الشاعر المغربي محمد بن إعلي ولد رزين قصيدة (الشمعة) في القرن التاسع عشر، التي أصبحت من أشهر القصائد المغناة في الطرب التقليدي المسمى بالملحون، وفيها يضفي على الشمعة ملامح وصفات بشرية ويجعلها تتألم وتسهر، ثم يقارن بين حزنها وبكائها وبين حرقته، وتمتد القصيدة لمقارنات فنية تغور في عمق الألم الإنساني . وشاعرنا كريم جخيوريلجأ الى الشمعة أيضا والتي لاتمنح الضياء فقط وانما تعاني في عملية إنتاجه، وتبكي دموعا تنهمر على حوافها . ولكن رثاءه يبلغ اوجاعا حادة حينما يصف معاناة الفقيدة وهي تعيش دون بيت في أرض الوطن، حتى تموت محرومة من قطعة أرض، وكإيغال في السخرية المرة، يهنؤها على أنها حصلت على قطعة أرض !

"هنيئا لك،

فبعد كل هذا الطواف من بيت الى بيت

ومن قبو الى آخر

حصلت على قطعة أرض، أسمها القبر "

ولكن المقطع الأخير من القصيدة كان محمّلا بتدفق هائل من الأحاسيس العاطفية المثيرة للشجن،ولكي يستوعب فداحة الغياب يضطر الى التلاعب بالكلمات والمعاني .

"نامي مطمئنة، فرسائلك الملأى بالأخطاء،

والمكتظة بالحب

مازلت أحفظها، طرية، في خزائن القلب "

في قصيدته (مدائح لسيدة واحدة)، تستشعر نزف الفجيعة، وشجن الغياب فالأرض أصبحت ضيّقة، وعينا الحبيبة سماءً، ورغم إنشغاله الثانوي في محاورة الأب عن العقوق في المقطع الموالي، فإني أراه مقطعا فائضا عن حاجة النص، لأنه يُخل بالتسلسل العاطفي للقصيدة، وكأن الشاعر قد إستدرك ذلك ، فيعود الى السياق الطبيعي، واصفا أن جمالية السماء مرهونة بضحكتها .. وأنه سيعمل المستحيل لجعل شفتيها مبتلة بالرطوبة والندى والماء. ويجعل من عينيها أكثر ثراءً من الأنهار وأحق بالقرابين ُ . ثم يصف مفاتن جسدها :

" مثل بيرق منتصر فوق هزائمنا " . ويرى عينيها كآلهة الجمال التي تسحر الجميع .

وفي قصيدة أخرى يجعل الغائبة معادلا للكون، ويغدق عليها كل سحر الطبيعة وغموضها، كما يلجأ الى تفسير الأشياء بشكل مغاير، فمواعيد المطر والمد والجزر والبرق ومنابع الأنهار وجرار الخمر وقوارير العطر، ماهي الا صدى خافت لروحها التي غابت عن الحضور، ولكنها حلّت في ذرات الطبيعة المحيطة به :

"سأقول لهم : لماذا نهارنا بشمسين، وليلنا بقمرين

وعلى دروبنا تتناثر النجوم

سأقول لهم كل هذا،وأنا أشير اليك "

لم يلجأ الشاعرالى الطرق التقليدية في الوصف، والذي يعتمد عادة على التشبيه المباشر، وإنما جعل الحياة مضيئة ومتلألئة لأنها تحت اشعة الحبيبة التي بدت كالقمر والشمس . وإنّ هذا الإستغراق في الفيض العاطفي يعكس معاناة الشاعر وحجم أحزانه، وعمق تعلقه بتلك المرأة التي عبر عنها بقصائد اخرى (فقلبه يرتل لها، ويدعو الملائكة للسعي أنْ تكون حوريته في الأرض، والأرض اكثر دفئا لأنها - اي الفقيدة- قد أشرقت هناك، وليس هناك من بهجة، فكل شيء قد أفل،وجرار الدمع الذي تبقى من حصاد القلب،وأنْ تغفر لهذه الفراشة، ماتقدم من حرائقها وما تأخر ..) الخ من العبارات التي إلتقطتها من قاموسه الشعري المتسربل بالحداد، والذي يجعل القاريء ينحني إجلالا لروح الوفاء الذي تميز به شاعرنا إزاء زوجته التي غادرته الى الأبد .ولكنها لم تغب عن حياته وذاكرته، فهاهو يستنشقها لحظات الأرق والعسر والحزن، وحتى في الفرح الطاريء.

يبدو أن الشاعر كريم جخوير قد وجد في الحزن ملاذا لأزمة روحية . فكل قصائده ترفع راية الحداد . فهو حزين حتى في سخريته المرة التي تلون النص أحيانا، وحتى في ضحكته الطارئة . إنه يمثل الحزن المتأصل الذي اشتهرت به أرض السواد، منذ وصفت بهذه التسمية . لافتة الحزن ترافقنا نحن العراقيين حتى في أفراحنا وأغانينا واشعارنا وأمثلتنا وسلوكنا الإجتماعي . نحن نرفض الدعابة ونعتبرها خروجا عن المألوف . لذا كان الشاعر حينما يطلق السخرية المرة، فإنها تنفذ كطعنة داخل نسيج الحكاية . قد لاتكون الأحداث الطارئة هي السبب . ولكنه جزء من تطويع تأريخي تأصّل فينا، ليكون الحزن وقارا والفرح نقيضه حيث يسقط في قاع التصورات المتوارثة . تصورات البكاء الذي اتسع اكثر من حاجاتنا اليه . لكن للشاعر راي مغاير :

"لكل هذا البكاء، ضريح واحد لايكفي

لكل هذه المنافي حقيبة واحدة لاتكفي

لكل هذا الظمأ قبلة واحدة لاتكفي "

إنه الإيغال في الحزن حتى ثمالته الأخيرة . إنه الجوع الأبدي الى التشبع ببعض فتات القناعة.

إنّ استشراف الوضع الذي يحيط بالشاعر، وبتلك المقاييس الشاذة التي تلامس الأوضاع السياسية والإجتماعية والدينية . جعلته يرفض بقوة تلك الأوضاع المزرية وغير المتوقعة، لذا أعلن رفضه للفوضى التي آلت كنتيجة للتغيير الذي انتظره العراقيون طويلا،بعد دكتاتورية مقيتة، كان الشاعر ومجايلوه من مبدعي الحرف ضحايا لها ولحروبها ولقمعها . ولكنه لم يعتقد انه بين أمرين بين دكتاتورية مجرمة وبين فوضى مدمرة .

" حريتي فوضى،

الفتى يمتشق مدفعه

ويطعن الصباح فتزدهر العتمة،

أما نحن، فما زلنا نكرر فعلتنا، لنؤكد إنطفاء العقل "

إنها صرختة لأدانة الفوضى، التي أتت بحرية مكبلة بكل عوامل الإنحراف .الا يمكن أن نسمي ذلك احتجاجا في ارتفاع مناسيب الفوضى التي سفحت الدم العراقي، بحجة الثأروالإصلاح .

ولكنه في ذات الوقت يتهكم من الدكتاتور وما آل اليه وضعه بعيد الأطاحة به من قبل (الحاجة أمريكا) كما يحلو للشاعر أنْ يسميها،ورغم أنه يسمي قصيدته بالمرثاة، ولكنه يعني عكس ذلك، فهو يريد أن يشمت من رجل تصور نفسه فرعونا، فبعد ان يمطره بسيل من الأسئلة : (اين جنائنك المعلقة ؟ أين كؤوسك، أين عرباتك الملكية ..) ثم ينهي مطارق اسئلته بهذا المقطع الذي ينبغي أنْ يستفيد منه جميع من يتبوأ حكما، يظن أنه أبديا !

"وبقيت وحيدا، تجلس على دكة الإسمنت

تأكل قلبك دمامل الصدأ

تنظر الى المارة وهم يرمونك بقشور الموز وأعقاب السجائر "

كريم جخوير لايمتلك – اسوة- بأقرانه من المثقفين والشعراء لايمتلكون الآ صوتهم المبحوح . وقلمهم الذي لايصل الى محيطه الجمعي . وفي قصيدته (خيانات كونية) نلتقط منه تعريفاته لمفهوم الوطنية ومفهوم الخيانة . مما يتلائم وروحه المتمردة والتي أعلنت عصيانها على المألوف من الإستكانة.

"الخيانة لآتبدأ دائما بالوطن،

فحين تكسر بفأسك قلب الشجرة،

فهذه خيانة للهديل ..

وحينما تنام على سريرك بلا حلم، فهذه خيانة للحياة

وحينما يأخذك الوطن الى ساحات القتل ولايمنحك

حفرة تنام فيها،

فهذه خيانة الوطن لك "

وهنا يختصر الشاعر آلام الآلاف من الذين ضحوا في سبيل الوطن، دون ان يحصلوا على ما يستحقون . ويُبرز لنا المآسي والإنتهاكات التي مارستها القوى التي تسلقت حيطان السلطة بعد التغيير، والتي اطلقت العنان لنفسها للنهب، وتوزيع المغانم، دون أنْ ترتقي الى المسؤولية الأخلاقية في السلوك السياسي . لقد تناول الشاعر ذلك بلغة شعرية معتمدا على الإشارة والرمز، ودون أن يسمي الأشياء بأسمائها .

تتمرد بعض النصوص، وكأنها تعلن عصيان الشاعر على ما يجابهه من انتهاكات مرة، تتجاوز كيانه الشخصي . إنه اعلان رافض لما يحدث . لم يشأ أنْ يفصح عن ماهيته، ولكنه أشار بدلالات لاتقبل الدحض : ثمة رذائل كبيرة ترتكب بإسم المقدس . والذي قد يكون معتقدا او مذهبا أو طريقة . لكن الشاعر لم يشأ الصمت بل أعلن رفضه بصوت عال :

"سوف أقف عاريا، معتمرا رأسي

ذلك الذي أدمن معصية الطاعة، داعيا أسلافي

أنْ يحملوا ما تبقى من أحلامهم، ويرجموا معابدكم بالحجر "

ولاأعتقد بأن الشاعر يقف وحيدا، فهو يسعى الى الى كل الفئات المهمشة والذين " إنتعلوا أيامهم، وأستقبلوا الريح، على ظهورهم قفاف الحجر " لقد إختارهم بعناية، من أطفال وقتلى الحروب والأرامل والأمهات والعشاق والشعراء . هؤلاء الذين ألحوا في جنون الأسئلة معه . أسئلة حارة وصادقة رغم فورة إنفعالاتها، والتي تشكل طعنة في من أتخذوا من الإله الرحيم العادل لافتة لظلمهم .ولكن الشاعرينزه الأله الكريم الرحيم العادل من أفعالهم، التي ترتكب بإسمه، وقربانا له:

"كلهم جاءوا ليطرقوا باب الله

فراعهم أنه بلابيت، فقد استحوذ الملوك على أملاكه "

ولكن الله العادل لم يرقه وضع عبيده، الذين استعبدوا أنفسهم الى غيرهم من البشر، فتبرأ منهم .

وفي قصيدة أخرى، تأتي ضمن السياق في بحثه عن ميزان الحق، وبعد جهد يشتري ميزانا لزوجته التي تبحث عن الحق وحينما يشتري ميزانا، لم تجد فيه (الحق) .

يوغل الشاعر في سخريته السوداء إزاء فجاعة مايحدث، ولكنه يستنجد بالرموز الإنسانية التي تشع عدلا عبر التأريخ، وقد إختار الخليفة علي بن ابي طالب كمثال وقدوة:

" فإصطفاك الإله بيرقا لكل الأزمنة

هذا هو أنت، باحة من جلال

تقوى وصراط أمين "

كما أنه من زاية أخرى يعلن إعجابه ببعض الثورات الإنسانية التي غيرت وجه العالم . ومنها الثورة البلشفية التي جعلها تحقق بعض أحلام الإنسانية في مسيرتها الطويلة.

"لقد اتفق الرواة، على إختلاف مشاربهم

أنّ البلاشفة إذا دخلوا قرية

زادوها جمالا، وعلموا أطفالها مفاتن الورد ."

رغم أنّ مجموعة كريم جخوير تنضح بدموع دافئة صادقة، لكننا نستشف منها تعلقا بالحياة، وقدرة على المواصلة . إنها القصائد التي تبكيك من أجل أن تستل من روحك غبار الحزن، كي تنطلق في رحاب الحياة .لأن الشعر هو الشغف بكل التفاصيل من أجل السمو عليها .

 

رحمن خضير عباس

اوتاوة /كند

 

في المثقف اليوم