قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. ذات (1)

madona askarكي تفهم أنسي الحاج عليك أن تصمت وتصغي. فالمتكلّم صامت ومتوغّل في ذاته إلى أبعد حدود. تحتّم جلالة الصّمت إصغاء وفيّاً من القارئ ليتبيّن أعماق أنسي، وليظهر له نقاء أنسي الشّفيف. أنسي الحاج يكتب من صفاء عالمه الممزوج بالألم والوحدة والهروب. فأتت افتتاحيّة القسم الثّاني من كتاب "كان هذا سهواً" نصّاً تجريديّاً احتجبت فيه ذاتيّة أنسي الهاربة من القدر. هكذا يصف ذاته في نصّ "مفتاح القدر"(1): "الرّجل الهارب من قدره الغائص في عذابه، الّذي قرّر ألّا يعود".

لكنّ هذا الرّجل الهارب من القدر والّذي "كلّما أمعن في الهرب أمعن في العودة"، ينتظر "ابتسامة امرأة لا تعرف الهزيمة"، بل هي المفتاح الّذي سيقتحم القدر ويغيّر حركته كيما يدخل الرّجل الممزّق إلى خدره ملتئم الجراح.

الرّجل الّذي قرّر الهرب من قدره أغلق بابه لكنّه احتفظ بالمفتاح، ما يجعلنا نفهم إمعانه بالعودة كلّما أمعن في الهروب، وما يدلّنا على انتظاره لتلك المرأة المنتصرة بابتسامتها. هذه المرأة تسكن وجدان الشّاعر وليست خارجة عنه، إلّا أنّ بينه وبينها مسافة تيه وانتظار وحبّ. "كان الباب مغلقاً، ومفتاحه في جيب الرّجل، والرّجل تائه في الشّارع، ممزّق بسكّين الخفّة، خفّة امرأة معبودة، مكروهة، جنّيّة لا تعرف ابتسامتها الهزيمة".

ويعود أنسي الحاج ليؤكّد التّيه والبعد في ما يلي:

"كان الباب مغلقاً والرّجل والمفتاح في التّيه، بعيداً.

والرّجل عازم على الانفصال. والطّوفان غمر العالم.

وجاءت المرأة من بيتها إلى بيته وطرقت الباب فلم يجبها الرّجل.

الرّجل الهارب من قدره الغائص في عذابه، الّذي قرّر ألّا يعود."

لم يجب الرّجل ليس لأنّه غير موجود بل لأنّه عازم على الهروب، هو حاضر بالجسد وأمّا الأعماق فهاربة. "وظلّت تطرق الباب الّذي ظلّ مغلقاً، فلا أحد في الدّاخل، ولو النّور مضاء". بالمقابل تبعث لنا هذه الجملة إصرار المرأة على انتشال الكاتب من الطّوفان، من الغرق والامّحاء. هي القدر ومفتاحه، بابتسامتها اللّطيفة القويّة. تؤسّس لما بعد الطّوفان، لرحلة الجمال في أرض جديدة وسماء جديدة.

"وانتظر.  لن تذهب دون أن تراه." تُراها القدر الّذي قرّر الهروب منه، أم تُراها المخلّصة؟ يندرج مفهوم الانتظار هنا ضمن انتظار الخلاص، إذا ما قارنا مبدأ الانتظار بهروب الكاتب وقراره الصّارم بالبعد. لأنّه "كلّما أمعن في الهرب أمعن في العودة". الهرب يتّجه نحو الخلاص، والعودة تحاكي الحرّيّة، الحالة الخلاصيّة المنتظرة. فهو ينتظر والمرأة بدورها تنتظر، لكنّها ما لبثت أن "فجأة سحبت من حقيبتها مفاتيحها، مع أنّ مفاتيحها هي لبيتها في بلد آخر، ولا يعقل أن تصلح لهذا البيت."

"جرّبت المفتاح الأوّل فلم يفتح، والثّاني فلم يفتح، وأمّا الثّالث فقد دار بصعوبة، ولكنّه فتح الباب". الكاتب ممعن بالهروب والمرأة عازمة على تبديل الحركة الحياتيّة. وإن رمزت المفاتيح إلى أمر فهي ترمز إلى المحاولات المتكرّرة دون ملل، والإصرار على فتح باب الخلاص.

"ولمّا عاد الرّجل الممزّق، وجد بابه مفتوحاً والمرأة في البيت تنتظره، جنّيّة ابتسامتها الّتي لا تعرف الهزيمة." 

 

.......................

(1) مفتاح القدر- ذات- كان هذا سهواً- ص 57.

 

في المثقف اليوم