قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. ذات (4)

madona askarمن العسير أن يقف الإنسان أمام ذاته بصدق ليكتشف شوائبها ويقبل بها محاولاً معرفة موقع هذه الشّوائب من نفسه ومحيطه. غالباً ما تأخذه الكبرياء وتتسلّط عليه وتعاند ضميره  فيستسلم لعنفوانها وسلطتها. لكنّ المتصالح مع ذاته هو ذاك الّذي تواضع أيّ نظر إلى ذاته على مستوى بصره وبصيرته، فعرف أنّ الإنسان يحمل في ذاته الكثير من التّناقضات يصعب الاستدلال عليها أو فهمها، ورغم ذلك تجرّأ على المثول أمامها بصدق وشجاعة لا ليفهم وحسب، وإنّما ليعلي شأن ضميره الإنسانيّ وبالتّالي إنسانيّته.

إنّي صادق، فلماذا يبدو وجهي كاذباً؟

أيّهما الزّائف، المستتر أم الظّاهر؟

ثمّ أجد العذر بأن لعلّه شعور الخجل بهذا الصّدق يرسل إلى المحيّا ظلال جهد التّملّص منه.

يجعل أنسي الحاج السّؤال الأوّل ملتبس المعنى، أي أنّ السّؤال لم يكن: إنّي كاذب، فلماذا يبدو وجهي صادقاً؟. وإن دلّ هذا الأمر على شيء فهو يدلّ على معرفة أنسي بذاته المتناقضة (إنّي صادق/ وجهي كاذباً). ونستدلّ إلى هذه المعرفة في السّطر الثّالث (لعلّه شعور الخجل بهذا الصّدق)، ليعبّر أنسي عن إدراك للتّناقض الدّاخلي الّذي لا يظهر للعلن، واعتراف بأنّ الصّدق غير تامٍ في النّفس، بل هو إلى حدّ ما صدق ناقص. تحيلنا هاتين العبارتين إلى قول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل رومة (19:7): " الخير الّذي أريده لا أعمله، والشّر الّذي لا أريده أعمله.". هذا التّناقض العاصف الحاضر في النّفس يحتاج للكثير من التّأمّل والتّبصّر حتّى يتمكّن الإنسان من استيعابه أوّلاً، والتّعامل معه ثانياً. ما سنقرأه في السّطور التّالية لأنسي الحاج:

"عندما تقول طبعاً إنّ أشدّ ما يؤلمنا هو الكذب، تقصد طبعاً كذب الآخرين. ألا نكذب نحن أيضاً؟ وهل نشمل بمرارتنا آلام الآخرين من كذبنا؟"

يضع أنسي الحاج ذاته على مسافة من ذاته ومن الآخرين. ويبدو لنا تمام الصّدق في اللّغة الأنسيّة. إذ إنّ تحقيق الإنسانيّة يفرض تعاملاً مع الآخر كما مع الذّات، وبالتّالي فالألم الّذي يصيب الإنسان من كذب الآخرين، يصيب الآخر بسبب كذبه. هذه المعادلة خطوة نحو الأمام أكثر منها مراجعة للذّات وفحص للضّمير. فمراجعة الذّات تبقى عند حدود التّمييز بين الصّائب والخاطئ، وأمّا تبيّن وتلمّس الألم المتساوي بين الإنسان والآخر يدفع الإنسان إلى اكتمال إنسانيّته.

ولئن كان هذا الاكتمال خطوة إلى الأمام استلزم من الإنسان تفهّماً لكذب الآخر مقابلة مع الذّات. والتّفهمّ هو غير التّبرير، فالأوّل يحمل الكثير من المحبّة والاعتراف بالحدود والضّعف الإنسانيّين، وأمّا الثّاني فهو بمثابة غضّ النّظر عن الخطأ، وليس هذا ما أراده أنسي الحاج.

"كرهت كثيرين لا لأنّهم كذبوا عليّ بل لأنّهم "أصابوا" منّي بكذبهم مقتلاً. وانتقمت من بعضهم. وندمت على الكراهية وعلى الانتقام لأنّ التّأذّي بهذا المقدار من الكذب، يضاهي الحماقة." بمعنى آخر، لا يجدر بنا أن نكره من يكذبون علينا لأنّنا بذات القدر نكذب ونؤلم. وثمّة كثيرون يكرهون الكذب، وينتقدون الكاذبين، وآخرون يعبّرون عن أنّ أكثر ما يرفضونه الكذب. ولكن، كلّنا نكذب، وكلّنا نؤلم ونتألّم.

"ولكن ماذا عن كذبي أنا؟ لقد كذبت، حتّى لو لم تطاوعني كبريائي هذه اللّحظة في تحديد أكاذيبي. إنّ قوّة عاصيّة تأبى عليّ أن أقرّ بهذا العيب، ولو تغلّبت عليها لاستطعت أن أرى طويّتي بصفاء. لكنّي كذبت، على الأقلّ مجاملة أو خوفاً أو تحناناً، وأحياناً استرسالاً مع نزعة إلى التّمثيل، وإيغالاً في أنانيّة لا ترحم ضحاياها ولا محبّيها وإن كانوا أنصافاً لذاتي. وكم كذبت على نفسي لأؤجج فيها بغضاً تحت ستار الحقّ، ولم يكن وراء السّتار غير حساسيّة مرضيّة". 

في لحظة صدق راقية مع الذّات وضعنا أنسي الحاج أمام ذواتنا وحرّك فينا روح الانقلاب على الكره والانتقام. وبيّن لنا كذبنا الحقيقي الّذي هو ادّعاء المثاليّة والكمال. "قولنا إنّ كذب الآخرين يؤلمنا لن يأخذ براءته إلّا حين لا يعود يعني أنّ ما يؤلمنا هو أنّ الآخرين أيضاً يريدون الخداع".

 

...................

- كان هذا سهواً- أنسي الحاج- ص 66،67

 

 

في المثقف اليوم