قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في قصيدة: القربة على الصحراء لطالب عبد العزيز.. فاعلية القراءة تروج المعنى الآخر

haidar abdullradaلا شك أن القارىء لقصيدة (القربة على الصحراء) للشاعر طالب عبد العزيز لربما سوف يتفهم بشكل فوري مدى اشتغالية آلية هذه القصيدة عبر تناوبية تفاعلية متداخلة بين المد الانفتاحي للمكان ثم انسراحه الأحوالي من خلال حالاته المتصلة اتصالا حيويا نحو مساحة معادلة توصيفية توافقية راح الزمن الشعري من خلالها يقترح لمشاهده العابرة الآنية ثمة فضاءات حركية لدوال أخذت تتمكن فيه من تدوين متخيلاتها اللاقطة لأدق مجالات الأنفاس والهمسات والتركيز والأحتمال .

نقطة على البرية، بين سوق الشيوخ والبصرة

قرب مسجد بمنارة، هي الأطول في الريح

من هنا يتداخل الأفق المكاني ارتباطا موقعيا لاستجابة ما تحتمل صوريا ألتقاط الحالات والمشاهد التي راحت تصل عين الشاعر بوسائط تناوبة متداخلة بين الانفتاح على نافذة دال (القربة) وبين فضاء مفاصل الموضعية الجغرافية في دليل (الصحراء) لذا فأن المعاينة القرائية راحت تتبع بمعنى ما ثمة قطبين يتجاذبان صناعة البديل الأحتمالي ومساحته الكتابية الوصفية وعلى نحو راح يجعل من حركية الدال في بؤرة النص كما لو أنه عبارة عن مقولة تمهيدية لجولة أخرى تستكمل حلقات المتن النص وتستظهر استجابته التحاورية إزاء دلالة جملة (يتوقف الجنازون بها) وتبعا لهذا الشكل من معادلة المسار التصوري الذي يبدو أكثر عمقا وتكثيفا وتركيزا وصولا منه الى خطية أفق دلالة الصفة الأستيعابية في الخطاب والتي من وراءها نهجس مدى انفتاح عدسة كاميرا فاعلية التركيز لدى الشاعر وهو يستثمر خطوات المكان الزمنية تمكينا لظاهرة عتبة ذروة العنوان (القربة / الصحراء) بعد أن تبلغ الصورة السردية الوصفية مبلغها في إثارة اشكالية (الخارج / الداخل) و(الواقعي / الذهني) و(المصور / المتخيل) وبهذا التركيز اللحظوي الخاطف من ثراء موجودات مسارية الحالات عند الشاعر، نعاين حدود الدالين المتضايفين للعتبة العنوانية (القربة + الصحراء) بيد أنهما راح يشتغلان بخصوصية عالية التمركز في بؤرة تمفصلات دليل الموضوعة التي هي الأخرى أضحت لنا بوابة مؤدية نحو تجليات الفعل القولي داخل صفات مسيرة الحكي في القصيدة .

 

الأشياء تعيد أنتاجها في الداخل المنزاح

تبدأ القصيدة بفعل توصيفي ينقله لسان الراوي عن الآخر المكاني (نقطة على البرية) وحيث لا يكتفي الراوي الشعري بنقل الآخر المكاني الذي يحتمل ان يكون قوة تصويرية حادة ووضعية من وضعيات الزمن القناعي الذي يتضمن توجه ما نحو حاضنة تشكيلية ما من شأنها أولا إحالة التدليل التصويري ثمة فتحه على فضاء تداخل (قرب / بعد) حالات الأشياء . وحين ينفتح الدال الأستنتاجي البيني بجملة (بين سوق الشيوخ والبصرة) يتم العمل الأفهامي القرائي بأن واقعة (القربة على الصحراء) تتضمن طاقة استشرافية في دعم محاور الدوال الكامنة في نشاط حالات الأشياء وهي تعيد أنتاجها في الداخل المنزاح . أي بمعنى ما نلاحظ بأن أساس دال (القربة) في بناءها الأنشائي توفر لدى قراءتها حالة من الاستنتاج الأحتوائي والاستقبال . وما أن يدخل مدلول (الصحراء) حتى يتضح لنا بأن مستوى ذلك الأحتواء الطرقاتي الكامن في جوف ملفوظات الحال (مسجد بمنارة / يتوقف الجنازون بها / هي الأطول في الريح) هنا يتضاهى ويتعامد ويتوازى حقل دوال (القربة + الصحراء + النقطة + البرية + بين = منارة = الريح = البرهنة على فروض فضاء الزوال والموت معا) . لذى فأن المراد الاستفهامي والأستدلالي في مسار دلالات ومشاهد (القربة الصحراوية) لربما يستهدف الشاعر من خلالها حالة حصولية ما ناتجة من وراء جدلية تقارب الأجواء والكينونات التي راحت تشتغل بالتقاط فاعلية الخارج والداخل معا كقول الشاعر اللاحق في القصيدة .

صاعدين الى النجف

أو قادمون منها ..

أن المحورية الشعرية هنا لا تستهدف حصولية الإجابة حول طبيعة ذلك التجوال في دائرة مصور فضاء البرية، بل أنما يتركز حول المعنى (الفنائي) في تجليات بواطن ذلك الخطاب الوصفي : (القربة ـــ الصحراء ـــ قرب مسجد بمنارة ــــ هي الأطول في الريح ـــ الجنازون بها ــــ الى النجف ـــ أو قادمون منها = دلالة استمرارية الصفة الفنائية = الموت = الرجوع = الى تخوم نقطة الصحراء = الجنازون =القربة) وما يتمخض لاحقا عنها من طاقة تصويرية توصيفية تعبر عن تحاور الأمكنة الجامدة (طريق مندثر للحجيج / ومطعم صغير / يخرج يتيما من ضلع المسجد / واجهته خشب وزجاج يتصدع دائما) الخطاب هنا يتوقف لألتقاط ملامح الرجوع من مدينة النجف وذلك ما يتمثل بقول الشاعر الأستدراكي والأخباري بالعودة (أو قادمون منها) أو يجوز أن يكون وصف الشاعر قد جاء على نحو الصعود الى (مدافن الأموات) في وادي السلام . على أية حال لا فرق بين الأمرين سواء أن كان صعودا أو نزولا لاسيما وأن طبيعة المكان والزمان غير مؤشران ومحددان في كائنية المعطى الحسابي للزمن والمكان لدى الشاعر . وما هو أهم من ذلك هو ناصية اداة الصورة اللحظوية الخاطفة التي في عداد آلية الصور والمشاهد والأحوال الأحتمالية في مقياس نشاط الأبصار بعوامل الزمكانية الصحراوية وما تعبر عنه صورة القصيدة من حدية وضعيات الأجواء الفنائية فيها . ويقودنا هذا الأستنتاج الى اكتشاف ثمة فضاء مباشر موصوف يحيل بمستوى رمزي معين على فاعلية احتواء هذه المغايرة والانزياح الذي خضعت له بنية الدوال بتركيبها اللفظي وانتاجها الدلالي .

يأخذ صاحبه اللحم طريا من الرعاة .

في المطعم الذي تزاحمه البيد من كل الجهات

يتبادل العابرون الدموع والضحك

والنعوش الفارغة .

و أمام هذه اللحظة الترقبية البانورامية التي تقودنا نحو تمظهرات الإثارة في مشهد دلالة (اللحم طريا من الرعاة) حيث يساورنا المحتمل المؤول بأن نقطة هذه البرية (القربة على الصحراء) ما هي إلا فضاء ومسرح ترقب النعوش العائدة والصاعدة نحو مقبرة النجف . وأمام قراءة تراجيديا دلالة (اللحم طريا / الرعاة) لربما تساورنا مشهدية وأحتمالية ومؤول طراوة لحم الأجساد البشرية في جوف تلك النعوش المترقبة لحظة دفنها البرزخي على أيدي  (حفاري القبور= الرعاة) وعلى النحو الذي يضع الأشياء في نصابها المخالفة احتمالا والتباسا وإثارة . أي بمعنى ما لم لا تكون مستوى انعكاسية مصورات الشاعر على النحو الذي يجعل من صورة (ضلع المسجد) بمثابة المؤول (البرزخي) أو بمثابة العين الفنائية المراقبة لمشهد تلك النعوش الحاملة لجثث الموتى والمتهيئة للدفن في أرض القربة الصحراوية الأخرى . وعلى النحو الذي يكون فيه الرعاة هم من أهل حفر القبور لمحمول تلك النعوش.

يتسامح الرعاة مع اضحياتهم

فيما العشب لا يزال أخضر على ألسن النعاج .

إلا أن فاعلية دليل الحكي ما تلبث أن تخرج بمعيق اشكالي يضع دلالة (الرعاة) في صورة المتعاطف إزاء (اضحياتهم) لاسيما وترقب منظر العشب الأخضر على ألسن النعاج .أن الشاعر راح يسعى في هذا المنحى نحو فاعلية تفتح السياق الصوري على فسحة تأمل آخر إلا أنها تنتقل في الوقت نفسه نحو فاصل تواصلي أحادي المعنى والقصدية . فالرعاة تتسامح وتتعاطف إزاء (اضحياتهم) وحفاري القبور تتلقف الجثث الى جوف القبور بليونة وبرقة وحذر أيضا . والرعاة يشاهدون العشب الأخضر على ألسن النعاج فيما يشاهدون حفاري القبور ذوي الجثة وهم (يتبادل العابرون الدموع) .

 

تعليق القراءة

يتجه الشاعر في سياق معين ومهم من سياقات كتابته الشعرية لقصيدة (القربة على الصحراء) الى منطقة القراءة المفتوحة على التأويل والأحتمال المستمر حتى حدود لحظة الإقفال اللغوي والصوري :

فالبطحة قربة،

لا تبعد عن الغراف طويلا

وهي منذ ألفي تصر من

مقيل الرعاة .. سلوان الريح

مفازة العائدين من النجف

مبكى القادمين من البصرة

وفي الأخير لابد لنا من القول بان هذا النوع من القصائد الشعرية لا تقدم نموذجها الاحوالي المحمول في موضوعة النص دفعة واحدة أي بين القصيدة وتشكيل فعلها . أي بمعنى ما أقول أيضا أن من المحال أن تكون رؤى النص عبارة عن صورة تذكارية جامدة راح يصف من خلالها  الشاعر أجواء بقعة برية بطريقة الرحال الوثائقي الغاطس بمقرراته وصوره الفوتوغرافية حول محض أحساسه العابر ببريق هذه البقعة الصحراوية الرابطة بين البصرة وسوق الشيوخ . قد يبدو لنا الأمر إجمالا وتفصيلا من العبث والفراغ لو كانت فضاءات القصيدة مقتصرة في حدود شفراتها على هذه المواطن الطرقاتية والجغرافية الظاهرية وحدها ودون الإضافة الحقيقة والقصدية من الشاعر في دعم القصيدة في غير دلالاتها الظاهرية أي بمعنى ما ولوج المعنى الشعري نحو محاور الآخر من الإيحاء الشعري في المقصود الشعري الآخر .

 

في المثقف اليوم