قراءات نقدية

حيدر عبد علاوي: يوليانا.. رواية الهامش

 haidar abdalwialzaydi(تحيرني القديسة يوليانا كثيراً، فججو يقول إنها تُحِب القُبلات، وأنت تقول إنها تعيش في بيت ياسمين .. هل تطَّور الربّ إلى هذه الدرجة،  أم أنا المتخلِّف في علم اللاهوت)؟!  الفاضل نوئيل يلدا السادس

 يقول رومان بارت: (ان التاريخ ليس سوى ممر تحايل).

 

يتحدث التاريخ المسيحي الدموي عن بربارا ابنة احد حكام الاقاليم الوثنيين التي آمنت بالمسيح، وحكمت عليها الدولة (والدها) بالموت هي وخادمتها التي تبعتها، نفذ الحكم بقطع رأسي السيدة والخادمة.. اصبحت بربارة قدسية كبيرة في بلدة كرمليس في ضواحي الموصل، ويحتفل اهالي الموصل من المسيحيين بعيدها السنوي في الرابع من كانون الاول من كل عام ....

اما يوليانا وبعودة الى مصادر التاريخ المسيحي، ما الذي بامكان هذه المصادر والمدونات التاريخية ان تسعفنا به لاستجلاء تاريخ وشخصية يوليانا الخادمة، هل سنجد وثائق عن شخصيتها وظروف استشهادها وهي تقدم نفسها قرباناً على مذبح العقيدة، مذبح الايمان بالمحبة وبالرب يسوع ...

هذه الرواية للكاتب العراقي نزار عبد الستار والصادرة حديثاً عن دار نوفل هاشيت ٢٠١٦ تستخدم قصة الخادمة بربارا ممراً لعالم آخر، شيد فيما بعد وحيكت حوله قصصاً واحاديث، هي رواية وان اتخذت التاريخ والجغرافية هنا ممراً لتسريب ومعالجة افكار وقيم ومعتقدات عصرية وحديثة ولدحض افكار وقيم تكفير الاخر وتدميره ...

وهذه الرواية تتخذ من الخادمة يوليانا بطلة، ولكنها بطلة من نوع اخر، لاتتجسد في الرواية كشخص بل هي تمنح الرواية بين الحين والاخر روحاً جديدة فتنقلها من عالم الى اخر، عالم يختلف عما مضى وان كان في سياقه جغرافياً وتاريخياً ...

يوليانا تمثل الهامش والظل والمستلب، هي خادمة، مهمشة، تابعة، قتلت مع سيدتها، النصوص التاريخية قد لاتسعف لدراسة حالتها، والاهتمام ينصب - كعادته- على رؤوس القوم، بربارة هي الاساس ويوليانا تابع، بربارة هي الشفيعة القديسة ويوليانا ترقد بجانبها بسلام...

من هنا تكون الرواية قد بدأت، ونزار عبد الستار يقترح بديلاً اخر للخلاص،  انه الهامش والمخفي والمتخلف والمهمش، البطل السلبي والمستلب، بطل الرواية المفترض هو ججو ابن بنيامين وولده حنا، عائلة فقيرة تتوارث العاهات والاحزان والفقر، عالم من السذاجة والحمق والنحافة ومرض السل والعرج..

كان ججو عندما يزور قبر القديسة بربارا (شفيعة كرمليس) يطبع قبلة حارة على ضريح خادمتها وشريكة نكبتها يوليانا، وبمرور الايام اصبحت قبلته لخادمة القديسة طابعاً لابد منه لانجاز واستكمال طقسه الروحي كل يوم احد ...

ومن هنا، كانت القبلة مفتاحاً، توسعت به تلك العلاقة، كان ججو المريض والمهمل والمنبوذ يتخيل الحب والعشق مع تلك القطعة من الرخام فوق القبر، فالقبلة من جانب اخر كانت احتضان ولمسات شبق وحنان، هل هي تعادل الاختلال الذي يعصف به تقول يوليانا في احدى ظهوراتها لججو :

• وأنت تُنظف رُخامة قبري كنت تلصق جبينك بحجري، فأتحرَّك أنا باتجاهك وأضع رأسي على رأسك .

• ججو يتكلم عن حبه للقديسة وحبها له والناس بطبيعة الحال تضحك وتسخر والبعض ينهره ويطرده مالذي يقوله هذا الابله عن القديسة خادمة الشفيعة، حتى يأتي اليوم وتظهر القديسة يوليانا لججو شعاع من نور ذهبي وتتحدث له كاشفة ماستؤل عنه الايام القادمة،  بالسفر الى الموصل والزواج هناك ...

وهكذا، رسمت القديسة لججو خارطة طريق جديدة، لكنه ظل منبوذاً وان كانت القديسة لم تتخلى عنه، والاخرون كعادتهم لن يصدقوه ...

تزوج وانجب وتوارث ولده حنا عاهات الاسرة وسذاجتها مشية اللقلق العرجاء ومرض السل والنحافة المقززة وحياةالهامش ...

في عز نمو شخصية ججو يموت وتسدل الستارة ليكون حنا هو البطل المفترض ويوليانا مازالت تشد القارئ، فهي عنوان الرواية ولكنها لاتظهر بصورة جلية، هي تتشكل عبر ضباب يسدل عليها ستاراً، ولكنها من العنوان تمنح الرواية هاجساً حضورياً، انها موجودة وتتدخل كلما سنحت الامور او ترهلت الاحداث ....

يولد حنا كوالده ججو وارثاً كل مالديه من عاهات، ويعيش كالاب مهمشاً، تستعير الرواية اجواء حقيقية من تاريخ العراق والموصل وان بصورة غير مباشرة، وهي تغطي مساحة واسعة من تاريخ العراق (١٩٢٥-١٩٨٧) والتي شهدت تحولات كبيرة ومهمة ودراماتيكية كان لها الاثر الكبير فيما آلت ابيه الامور فيما بعد والتي فجعت فيها الموصل باحتلال داعش وتهجير وقتل المكون المسيحي واضطهادهم ...

يوليانا تمثل الكلمة والمحبة ولكنها بالنهاية تمثل الوطن الذي أستبيح ودمر ومزقت كرامته، في ظهورات يوليانا المتكررة سواء لججو او لولده حنا او في الظهور الكبير والاحتفالي في نهاية الرواية حيث تظهر القديسة بجوار حنا امام ابناء كرمليس، هذا التجلي والظهور يحدث في بلاد الرافدين حصراً، بلاد تلتصق وجداناً وروحاً وضميراً بعالم بعيد وغائب وميتافيزيقي، عالم يعرفه المسيحيون والشيعة والسنة، كلما ضاقت البلاد بالناس وحاصرتهم الحروب والمشاكل انفتحت امامهم افاق ماوراء القبور، وبها يجدون خلاصهم...

 

في سفره الى كرمليس يزور حنا قبر يوليانا وتظهر له وتخبره انها لن تتركه وستعود معه الى الموصل، يتعجب ويبادر لكنه مكان آثم ان البيت الذي يسكنه هو بيت بغي عاهرة، وتقول له يوليانا مايلخص الفكرة الاساسية للرواية : الظلام يحتاج الى النور ياحنا...

ان ياسمين البغي وان تلوث جسدها لكن روحها لم تتلوث، روحها مازالت طاهرة ...

هذه الاشكالية التي تطرحها الرواية وهي ؛ هل ان تلوث الجسد يلوث الروح ؟!

ربما ان اشكالية الرواية هذه تنسحب على مجمل سلوك الشعب العراقي الان، ومدى تلوث الجسد العراقي الخارجي، بفعل اصطدامه بسلوكيات بعيدة عنه وبفعل تداعيات الديكتاتورية واثارها ...

وهي إشكالية قديمة وليست جديدة، ولكنها اليوم تستمد قوتها في عراق الدماء والصراع الطائفي والقتال ضد داعش، قد تكون جديدة ومن منظور حديث، نعم هناك اجساد دفعت الى المتاجرة والعهر لكن الروح ظلت صامدة، الروح العفيفة التي استخدم الجسد لتدميرها ولكنها ظلت روح محبة وطهر وحنان ...

يوليانا الهامش المقدس تتفهم جيداً هوامش الروح والجسد، بل وتتعاطف معهم، وهاهي تمنح بركاتها لياسمين وتجلب لها قميص ججو للتبرك به !

قديماً قال بونابرت ان الله موجود في الصف الذي مدفعيته اقوى...

ولكن الله الحقيقي المحب للخير والرحمة تجده دائماً عند الفقراء والمهمشين والمرضى ...

 بين مهمشين وظلين يوليانا وججو، كلاهما لادور له في مواجهة الاخر سوى الحب والاخلاص والتفاني وان كان سلبياً ...

قد تكون يوليانا اقتيدت الى مذبحها دون ارادتها، فقط انها تابعة ومحبة لسيدتها بربارا، هذا لم تقله الرواية ولم تخض فيه، لكن تداعياته ومصائر ابطال الرواية قد يقودنا للبحث والتنقيب والاستدلال ..وهو ليس من اهتمامها...

يوليانا هي قصة الامس برواية الحاضر، الامس المستلب والحاضر الاكثر استلاباً والموغل في التفسير والتأويل والارغام ...

هذه لمحات وليست تفاصيل، فالرواية فيها احداث وشخصيات وأحداث لااستطيع سردها هنا ولو تلخيصاً، ومن هنا تستمد قوة الرواية ورصانتها والاسلوب الذي كتبت به ...

هي زاوية واحدة من عدة زوايا يمكن للناظر منها ان يرى شعبا كاملا متعدد الاجناس والاعراق والطوائف، هاهي يوليانا خادمة القديسة برباراشفيعة كرمليس تلك المدينة الصغيرة المجهولة، التي ضلت مجهولة رغم الحرب والصراع والنزوح الجماعي لاهلها لكنها ضلت كرمليس الصغيرة شعباً وجغرافيةً، انها قصة الالم والضياع، قصة البداية والنهاية ومابينهما، يرويها عبد الستار اليوم بلغة جميلة رائعة ...

يقول الكاتب في تسريبات انه قضى سبعة عشر عاماً في كتابة يوليانا، نعم ذلك صحيح، ومطمن، ويجعلنا نخلد الى سكون، نفهم من خلاله ان كتابة يوليانا تحتاج ليس الى خبرة وصناعة بل والى زمن طويل وساكن وذلك ماحصل ...

عنوان الرواية، ومضمونها في السبعين صفحة الاولى من (٢٥٢) مجموع صفحات الرواية، لااثر مباشر للوليانا التي نفهم فيما بعد انها خادمة الشفيعة بربارا، لكن القارئ، - أي قارئ -،  يظل في قلق وهو يمضي مع الشخوص والازمان والمكان، قلقه يصدر من العنوان الذي لايجد له ذلك الاثر، وهل ان يوليانا ستكون بطلة الرواية، الذي يبدو من السياق وتطور الاحداث ان ججو هو البطل، لكن ججو فجأة يموت (ص ٩٨) والرواية مازالت في عز نموها ويوليانا لم تطرح بطلة بعد، أنها لعبة الشد والتشويق، عالم يصنعه كاتب متمرس يعمل خلف الاضواء وبلا جلبة، بعيداً عن الجوائز والمسابقات ...

يسلم ججو بطولة الرواية بعد موته الى ولده وشبيهه ووريثه حنا، وبهذا تكون هذه الاسرة قد تشكلت وطرحت نفسها في مفهوم الزمن والصراع، اذن حنا يستأنف البطولة شخصيته نمطية وفقاً لوالده ججو، ولكن يوليانا تستمر كبطلة مؤجلة، او غير فاعلة، بطلة مضمرة تعيش خلف الاضواء، لكنها تظهر بين الفينة والاخرى لتدير دفة الاحداث وتحدث انتقالات كبيرة في الشكل والمضمون ..

ونكون بأزاء طرح مفهوم ثنائية البطولة، يوليانا- ججو، ويوليانا- حنا، وحنا- ياسمين، وفي الحديث عن هذه الثنائية قد يكون لنا مقال اخر .

في الختام، حاولت الرواية ايهامنا بسذاجة ججو وحنا بل وبغبائهما، لكن الاحداث اثبتت انهما لم يكونا غبيين بل متسامحين ومحبين، ويبدو ان التسامح والمحبة تظهر صاحبهما بتلك الهيئة الساذجة والسطحية بل والغبية في احيان اخرى ...

 

 

في المثقف اليوم