قراءات نقدية

مادونا عسكر: أنسي الحاج وخواتمه الكيانيّة.. فنّ

madona askarمن العسير أن تمرّ بأنسي الحاج دون أن تقف عند باب ذاتك، وتندهش من قدرته على الغوص فيها ببراعة المفكّر المتغلغل في أعماق الإنسانيّة. أنسي الحاج رفيق القارئ، يفكّر معه بصوت عالٍ. يدهشه، يعلّمه، يدلّه على خيوط لم تكن لتتراءى له إلّا بوخزة كلمة من كاتب، أقلّ ما يُقال فيه إنّه عرف سرّ الإنسان، وكشف عن أعماقه الدّفينة.

لا يختلف الجزء المتعلّق بالفنّ، في كتاب "كان هذا سهواً"، عن باقي الأجزاء من ناحية اللّغة الأنسيّة المرتبطة بتأمّل وتحليل سيكولوجيّة الإنسان، لاسيّما الفنان. إلّا أنّ الفكر الأنسيّ غير معنيّ بالنّظريّات السّيكولوجيّة المتعارف عليها، بل هو معنيّ بالكشف عن السّلوك الّذي يصعب تغييره؛ لأنّه متجذّر في التّركيبة الإنسانيّة. كما أنّه لا يهدف إلى طرح حلول أو إيجاد مخرج لهذا السّلوك، وإنّما تسليط الضّوء على خلفيّة العمق الإنسانيّ من جهة، وعلى السّر الكامن في هذه التّركيبة دونما تفكيكه، وعلى تفسير هذه الخلفيّة بعيداً عن إصلاحها.

"سرّ لاجوكوند بسيط. ليس أنّ في ابتسامتها لغزاً، بل أنّ هذا الصّنم يبتسم" (ص 205).  اختلف النّقاد والمحلّلون في تفسير أسرار تلك الابتسامة في رائعة ليوناردو دافنتشي، إلّا أنّ أنسي ضخّ الحياة في هذا السّرّ، وفتح للقارئ والمشاهد نافذة على يقين لا يختلف عليه أحد: "هذا الصّنم يبتسم". فلا لغز في ابتسامة الموناليزا، وإنّما السّرّ في كون دافنتشي رسم صنماً يضجّ بالحياة.

وهنا يبرز الوعي الجماليّ عند أنسي الحاج الّذي يقرأ اللّوحة، بل يقرأ الرّسّام الّذي عاش مع هذه اللّوحة سبع سنوات. فيمنحك مفاتيح السّرّ، ولك أن تعيد قراءة اللّوحة واستخدام المفاتيح لتستمتع بما تعاين. الوعي الجماليّ لا يقتصر على تأمّل جمال معيّن، بل إنّه ينفتح على الجمال الأعلى. أنّى شاء، يخطف أنسي الجمال من الجمال ويبثّه في النّفس، لأنّه يمتلك فنّ الرّؤية ما يتيح له معاينة أسرار الجمال.

"تحافظ الموسيقى على صمت سرّها رغم ضجيج الآلات. ويحافظ الصّوت السّاحر على صمت سرّه مهما حُمّل من ألفاظ. هنالك أسرار لا يستطيع حتّى أصحابها أن يفضحوها إذا رغبوا. إنّها هنا حدود طاقتنا على الهدم." (ص 211).

بين سرّ الموسيقى النّابع من الضّجيج، وسرّ الصّوت السّاحر المسكوت عنه، ينبت عشب الجمال في روح المستمع حتّى يكاد لا يعاين إلّاه. وتكفيه سعادة أن يقرأ الجمال المُسكر، ويتنعّم بسرّه بدل البحث في تفاصيل تهشّم صورته وتعزل ضياءه. ذاك ما لا نفهمه في صوت فيروز، ولا ينبغي أن نفهم. فأنسي الّذي هام بسرّ فيروز لا يجد مبرّراً لاقتحام سرّ هذه الأيقونة، بل الأجدر التّأمّل به حتّى الثّمالة واكتشافه كنوراً تنبعث في الدّواخل الإنسانيّة. سرّ هذا الجمال يكمن في التّضاد بين شخصيّة الفنّان وفنّه. "فصوت فيروز الآسر لا يشبه شخصيّتها الكاسرة (ص 212). كما التّباين بين شخصيّات الموسيقيّين والمؤلّفين وموسيقاهم، فلعلّ عدم اتّحاد فنّهم بشخصيّاتهم هو من يفجّر الإبداع الجماليّ.

"في يوم من عام 2000 قالت فيروز لمحدّثها: "أمس كنت أسمع أغنيات لي عن فلسطين. كُتب مرّة عن التّحريض في صوتي: سأقول لك ما اكتشفته أمس: تحريض حنون. كيف تفسّر لي هذا التّناقض؟ تحريض وحنون؟!" (ص212).

في المقابل يبيّن الفكر الأنسي أسباب انتفاء الجمال، فيبرز للقارئ تفاصيلَ قد تاه عنها، أو استحوذ عليه جمال آنيّ. يكره أنسي مسرح الأقنعة، لأنّه يخفي الوجه، أي تفاصيل الجمال. في الوجه سمات الإنسان، نقرأ فيه رغبته، وغضبه، وحبّه واشتهاءه... "عندما نخفيه نلغي القناة العظمى لإيصال كهرباء الممثّل، وهي العينان والهالة منهما وحولهما"  (ص 204). والأسوء من إخفاء الوجه، هو ذاك "التّصنّع "الحركات" عند ممثّلي السّينما الّتي يقلّدها الملايين، هي أوضح ما يؤكّد الببّغاويّة البشريّة. وإذا أعدنا مشاهدة شريط سينمائيّ أكثر من مرّة نُصدم بالتّكلّف عند الممثّلين (وهو أشدّ فظاظة وانتشاراً ممّا نلاحظه عند الممثّلات). ونستاء من كوننا قد أعجبنا بهؤلاء في فترة ما ونحسّ بخديعة." (ص207) . وهنا لا يتعلّق الأمر بالتّناقض بين شخصيّة الفنّان وفنّه، بقدر ما يتعلّق بالتّمثيل خارج إطار التّمثيل. فالتّكلّف هو فرض شخصيّة أخرى غير تلك الّتي يمتلكها الفنّان. قد يعود السّبب لإظهار الذّات بصورة معيّنة، أو الاعتداد بالنّفس أكثر من اللّزوم، أو بالنّرجسيّة.

إذا كان لا بدّ للأدباء أن يمرّوا بمدرسة أنسي ليقيّموا حسن توجّههم، فلا بدّ للفنانين أن يتوغّلوا في الفكر الأنسي؛ ليعاينوا ما غاب عنهم من جمال أنفسهم. خاصّة أنّ الفنّ اليوم يجنح إلى السّخافة والانحطاط، وأنّ فنّاني اليوم يسمّون سخافاتهم فنّاً فيحاربون الجمال ويخفونه عن عيون المستمع والمشاهد والقارئ.

 

في المثقف اليوم