قراءات نقدية

بسّام فاضل: نزار شاعر الحب الذي كتب قضيته شعر على جسد النساء

ما من شاعرعربي دار حول شعره ولازال يدور حروب دامية في نوادي الأدب والشعر والنقد كنزار قباني ومن الجدير التطرق إلى أن هذه الآراء ما ألتزمت في قوقعتها التي دارت فيها تناهيدها الاولى وإنما تعدت حدودها إلى سجالات في نطاق أبعد في الجامعات والحياة العامة وغزت الانسان نفسه، حتى صار صراع أيدلوجيا أقحم الدين، عندما حاول شقْ الانتصار لآرائه بتوظيف متحمسي التدين السياسي فكان التشعب الذي نظر إلى الجزء الفاضي من الكوب وأخذ على نزار تجريد المرأة من عباءتها وملائتها الدافئة في جب البيت الشرقي ولم ينظر إلى التجريد الحقيقي الذي سبح بهذا الكيان إلى عالم القدسية والتآخي والرفقة وأدان التبضع المشرعن للجسد حسب الفاقة والاهواء والامزجة أضافة إلى الصورة المعبرة والرسالة التي أراد نزار إلى أن يوصّلها عبرها حاملة لعصر عاش فيه نزار أراد منها شاهدة على الإرادة العربية بكل تجلياتها وأن تخلد تلك النفائس العطرة التي قدمها الشاعر العربي مكتشفا بورة المأساة التي عالجها متخذ من جسدها مشرطا لاستئصال المرض المسيطر على الفكر العربي والعائد به  من أطناب الأندلس والحضارة القهقري إلى ديار البؤس واقتناء الحريم ونزق الشهوة المباحة وما تخفيه من دنس فج محرم .

جسمك خارطتي ..ما عادت

خارطة العالم تعنيني ..

أنا أقدم عاصمة للحسن

وجرحي نقش فرعوني

وجعي..يمتد كبقعة زيت

من بيروت.. إلى الصين

وجعي قافلة.. أرسلها

خلفاء الشام ..إلى الصين

في القرن السابع للميلاد

وضاعت في فم تنين

........

أنا نقطة مــــاءِ حائرة

بقيت في دفــــتر تشرينِ

زيدينــــي عشقاً زيدينــــي

يا أحلـــى نوبات جنوني

مــن أجلك أعتقت نسائي

وتركت التاريخ ورائي

وشطبت شهادة ميلادي

وقطعت جميع شراييني .

كانت نساء نزار كموجات الأثير على كثرتهن وتعدد مواطنهن وأمزجتهن وصفاتهن والوانهن،  فأنهن كنَّ يحملنًّ نزار قضيةً ونزارٌ هوية وثقافة وسيماء عرفنا منهن أن نزار محب  والحب لآياتي إلا بكُره ما يعكر صفوه من قبح وغيره، ونزارٌ يميل إلى السلام والسلام لا يأتي إلا بقوة تعيد نصاب الحق لأهله والاستعداد وشحذ السيوف وصقلها فهو يكره سلام الخنوع والذل الذي رى فيه استسلام وليس سلاماً.

سقطت آخر جدران الحياءْ

وفرحنا ..ورقصنا..

وتباركنا بتوقيع سلام الجبناءْ

لم يعد يرعبنا شيئٌ

ولا يخجلنا شيئٌ

فقد يبست فينا عروق الكبرياء...

ويحن الى زمنٍ صنعته سيوف الكبرياء وأنفة الحق

يقول نزار في قصيدة ترصيع بالذهب على سيف دمشقي :-

أتراها تحبني ميسون أم توهمت والنساء ظنون

يا أبنة العمّ ...والهوى أمويٌّ كيف أخفي الهوى وكيف أبين

هل مرايا دمشق تعرف وجهي من جديد أم غيرتني السنين

يا زمان في الصالحية سمحاً أين مني الغوى وأين الفتون؟

الى أن يقول :

اه يا شام ...كيف أشرح ما بي وأنا فيك دائماً مسكون

يا دمشق التي تفشى شذاها تحت جلدي كأنه الزيزفونُ

قادما من مدائن الريح وحدي فاحتضني كالطفل يا قاسيونُ

ثم يقول :-

جاء تشرين يا حبيبة عمري أحسن الوقت للهوى تشرين

......

مزقي يا دمشق خارطة الذل وقولي للدهر كن فيكون

ثم يختم بــ:-

علمينا فقه العروبة يا شام فأنت البيان والتبيينُ

وطني ياقصيدة النار والورد تغنت بما صنعت القرون

إركبي الشمس يا دمشق حصاناً ولك الله حافظ وأمينُ

هذا عيب رؤي من منظور ما تحمله النفس على نزار ليس في شأن المرأة وإنما في شأن فسيح أخر يتمثل في صراحته التي عرت أصحاب هذه التصور في  جوانب الركود التحرري والانغلاق المميت الخلاق للانهزام وأفراق ضراوته وحنقه على ملته والمستضعفين،  عيب الصق بنزار للتظليل على إيماءات ما يمكن محاربته والتفكير في الثورة الحقيقية التي تقف في وجه الخذلان وتزاوج الحق بالباطل من غير توافق بنيوي او شرعي بين الاثنين، حال ذلك المشرعن للحرام وابتداع البدع لاقتناء النساء كحال ذلك الذي ينشد السلام وهو مازال في سجن المهيمن والمحتل والذي يطبع العلاقة مع قاتل الانسانية والاخوة العربية .

نزار شاعر لا يمكن أن تقرأه من شعره فتجزم بأنه أرستقراطي أو برجوازي أو ثوري اواواو .

ولكن من شعره تستطيع أن تقرى محيطه، واقعه الذي عاشه، مجتمعه الذي  زفر غيضه من أعماق صدره شعراً توزع كتقلبات حال الحياة .

نقل الحياة كما هي من تعاستها وأحزانها وطقوسها وضيمها وجمالها ونقائها وكذلك عبر عن أخلاقها فلأيمكن أن يشكل ذلك عيباً له شخصيا أو لشعره الذي أجاد أستلهام فيزيائيته بديناميكية ثلاثية الابعاد .

=الواقع أو الحياة،  الشاعر،  الروح المقدسة  التي قرات الاشياء =

ولذلك حول الاخلاق بكل جوانبها بشعر وقوته الشعرية إلى ما تراه روح الكون المقدسة .

ولا ننسى أن نزار سياسياً عاش في بيئة سياسية وليس شعره أبن محيطه الضيق فقد كان رحال حفيف الخطى عفيف المنطق ولكنه أبن واقعه وأبن قضيته اللذان لزماه في ترحال وتقلب السياسة يرتقيان سمواً ورفعة وينقصان أخلاقاً وعزة .

شاعر كبير أفتقده الوطن العربي والشعر عامة وفي شعره ترجمة وأثراً تاريخياً عظيمين .

نزار سفراً عربي ترجم حال الامة العربية كما لم يترجمها شاعر من زاوية منطقية قد تكون غريبة ولكنها صادقة فاضحة للعجز والفشل الذي يداوي جراحه بمعاقبة جسده فيسقط جم غضبه على من حوله ليس لانهم السبب ولكن محاولة لاستعادة بعض من كبرياء مهدور وعزت نفس تخلت عنها الامة في لحظة عابرة كحال نزوات نزار مع النساء التي قطعاً بات لا يستطيع عدهن أو تذكر واحدة منهن بينما لا تفارقه ولا تغادره حالة الشبق الجامح التي اوصلته اليهن .

وكأن نزار يقول أن شبق العذاب التي تصطليه أمتنا يشكل شفاء لحالات مرضية وأن ذلك الجموح سيضل عالقا في ضمير كل الأوطان لا ينسى حتى يتكرر فتنسى الضحايا ولا ينسى شبق قتل الضحايا .

بلقيس هي حالة العجز التي قتلها الشبق المدمر وهي الذكرى واللوحة الجميلة والراية التي خُلدة وبقيت على أنقاض أهرامات النساء التي مررنا في حياة نزار الشعرية .

في قصيدة بلقيس التي تلقي بظلالها  وحياً إلى معاصرة زماناً يكرر مأساتها بعد أن كانت في هيلامان ويناعة شبابها والفرق بين الزمان والزمان أن الماضي كانت أدواته بسيطة فيما أستفحل هذا الشعور الدامي أضعافاً وزاد الشبق إلى ذروته .

يقول نزار:-

شكرا لكم ..

شكرا لكم ..

فحبيبتي قتلت ..وصار بوسعكم

أن تشربوا كاسا على قبر الشهيدة

وقصيدتي أغتيلت

وهل من أمة في الأرض ..

-إلا نحن- تغتال القصيدة

بلقيس ....

كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل

بلقيس ..

كانت أطول النخلات في أرض العراق

كانت إذا تمشي ..

ترافقها طواويس

وتتبعها أيائل

إلى أن يقول ..

يانينوى الخضراء

ياغجريتي الشقراء  ..

يا أمواج  دجلة ..

يستمر نزار في نفث غضبه وإقامة أدعائه على قتلة الحلم وصب نار الجحيم في بيادر القرنفل وحدائق السفرجل وبساتين البرتقال والتفاح .

بلقيس ..

مذبوحون حتى العظم ..

والاولاد لا يدرون ما يجري ..

ولا أدري أنا ..ماذا أقول ؟

هل تقرعين الباب بعد دقائق ؟

هل تخلعين المعطف الشتوي ؟

هل تأتين باسمة ..

وناظرة..

ومشرفة كأزهار الحقول ..

إلى أخر القصيدة ..

وفيما ينظر الكثيرون إلى ما يسمونه إنهيار للقيم والحواجز التي تحفظ كيان المرأة بدرجة أساسية وأحترام المجتمع لها الأحترام الذي لا يسمح بالتعدي عليها ذلك التعدي المشمول بعدم المجاهرة بفطرتها الدونية ونزواتها الغرائزية والتمثيل بها من الجنس الآخر! وهنا ضع علامة تعجب من تلك النظرة السطحية أحادية الجانب .

والمحافظة على مستوى من السلوك التي تتعامل به في معيشتها اليومية حتى مع أولادها وزوجها وتأتي ثورة نزار على هذه النزوة المجتمعية التي تقلل من شأن المرأة فيكشف خبايا غياهب الاستعباد التي تتعرض له .

فحين يرتقي بها نديم وأنيس إلى مصاف القدسية والتبتل والطهر تجرم وينقص من شانها وقدرها وكيانها الإنساني وعندما تهان كقطعة خردة لا تبارح ركن دارها ويعتدى عليها وتصادر حريتها في الزواج والتعليم وتذوق الجمال يعتبر ذلك من المحافظة القيمية لذلك فلا عقاب تستحقه أن ثارت وكسرت قيود الظلم وأباحت لنفسها الاستمتاع بثورتها .

يقول نزار:

لماذا في مدينتنا؟

نعيش الحب تهريباً وتزويرا؟

لماذا أهل بلدتنا؟

يمزقهم تناقضهم

ففي ساعات يقظتهم

يسبون الضفائر والتنانيرا

وحين الليل يطويهم

يضمون التصاويرا .

رحم الله نزار لقد عاشا زمنه في قميص ازماناً قادمةٍ منها زمننا هذا ولذا لم يفقه مجايلوه ونقاده مكامن الثورة التي أضحت شعلة في صدره تلهمه إلى قراءة  المستقبل شعراً زاخراً .

ولنتذكر حين كان العرب يدافعون عن أرضهم في جنوب لبنان والجولان وفلسطين ألصقت بهم تهمة الإرهاب وتصديره خارج حدود أوطانهم وها هو الإرهاب يغزو ديارنا بفضل التخلي عن عصمتنا ومنعتنا ومقاومتنا وسياسة الاستسلام التي هي أبعد ما تكون عن السلام فقرر أن يكون مع الإرهاب هذا ضد الإرهاب المستورد المطبوخ في أقبية الاستعمار والصهيوامريكية العالمية الذي جل على اوطاننا وتنبه نزار به ضيفاً لتقسيمها ودمارها   .

يقول :-

متهمون نحن بإلارهاب

إن نحن دافعنا بكل جراءة

عن شعر بلقيس

وعن شفاة ميسون ..

وعن هند ..وعن دعد..

وعن لبنى ..وعن رباب ..

عن مطر الكحل الذي

ينزل كالوحي من الاهداب !!

.

.

.

متهمون نحن بالإرهاب

إذا كتبنا عن بقايا وطن ..

مخلع ..مفكك مهترئ

أشلاؤه تناثرت أشلاء..

عن وطن يبحث عن عنوانه ..

وأمة ليس لها سماء!!

 

بسّــام فاضل 26-10-2016م

*كاتب يمني جنوبي

 

في المثقف اليوم