قراءات نقدية

صالح الرزوق: شهادة في (غراميات بائع متجول) لبرهان الخطيب

saleh alrazukلبرهان الخطيب مشروع روائي ناجح بعض محطاته نقاط علام في مسيرة الأدب العربي. غير أن روايته (غراميات بائع متجول) تصطدم بجدار المغامرة الروائية في عدة أمور. بعضها له علاقة بمفهومنا المتسامح عن الرواية.. هل هي للتسلية والترفيه أم أنها أداة تربية وثقافة.

قد تجد الإجابة عن ذلك عند المعلم غراهام غرين الذي يقسم أعماله ولا سيما الروايات إلى نوعين: أدب ترفيه ومنها (رجلنا في هافانا) و(الرجل الثالث). وأدب تحرري يهتم بقضايا إنسانية وفلسفية عامة مثل (قضية منتهية) و(نهاية غرام) وسواها.

وتفتح (غراميات بائع متجول) ملف هذه المناظرة الفنية. وتدعونا لتقليب النظر في ماضي الرواية العربية وحاضرها.

ولكن حتى لا ننجرف كثيرا مع العموميات والتهويمات النظرية بودي مقارنتها مع (أجملهن) للدكتور المرحوم عبد السلام العجيلي الذي لا نعرف عنه أي تجربة في أدب الترفيه. وإن اقترب في بعض الحالات من فن المقامة العربية والقصص الساخرة التي تشبه من قريب أو بعيد نوادر حجا ونوادر البخلاء وما شاكل ذلك.

والحق يقال يوجد في (غراميات بائع) القليل من السخرية والنكتة السوداء. ولا تجد ولو النذر اليسير منها في (أجملهن). لكن يبدو لي أن هناك علاقة لا شعورية وغير مقصودة بين العملين.

يبني برهان الخطيب فكرة روايته على حكاية أصلان العراقي ورحلاته المكوكية بين موسكو للدراسة ثم لبيع الكتب وبين استوكهولم للإقامة والتجارة. ويربط هذا القلق المعرفي بحكاية غرام مع الروسية هيلينا وهي بائعة خبز رقيقة ومتزوجة من أفاق سكير. ومثله يتابع العجيلي رحلة استجمام سعيد في النمسا واللوكسومبورغ. وحبه لسوزان النمساوية.

لكن تشابه الأفكار يدعمه لاحقا تشابه في البنية. أو في الفكرة الفنية لفلسفة العمل كله.

كلاهما يراهن على فلسفة وتكتيك صراع الشرق والغرب. وإذا كانت حرب الحضارات عند الخطيب بين ثلاثة أطراف: بغداد (أمة العرب الجريحة والمتخلفة) وموسكو (التي تشهد قيامة سياسية ورمزها البيروسترويكا واقتصاد السوق) واستوكهولم (الوادعة والتي تمثل الطرف القوي في الحرب الباردة) فإن العجيلي يبدو أقرب للفكرة المعروفة عن التفسير الجنوسي لصدام الشرق والغرب.

لو تناسيت الجانب التنويري في هذه الرحلات يمكنك أن تتوقف عند الترميز الجنوسي للمثاقفة. فالحبكة واضحة وبحدود الضرورة. وهي عن شرق مذكر وغرب مؤنث. الشرق يحمل بضاعته وهي الليبيدو أو شحنة الغرائز والغرب يمارس تسلطه بسيف الأنوثة وإغراءات إستاطيقا الجسد. ولا تجد مجالا للمحبة أو لنداء الروح.

إنها فقط حرب ضروس في المخادع. ينتقم فيها ابن المشرق لكرامته المهانة والجريحة بركوب فروج النساء. وهذا التعبير الأخير لجورج طرابيشي.

ومع أنه تعبير مبالغ به. لكنه لا يشكل أي ضرر على أصل الأطروحة.. أن ابن المشرق هو مجرد غريق وضائع. ويتراوح في نظرته إلى الغرب من التبعية المطلقة إلى الرفض الجازم. ويستند في موقفه على تاريخه العقلي ومصالح الطبقة التي ينتمي لها. وباعتبار أن الرواية الحديثة متعددة الأصوات تتوفر فيها أيضا عدة أشكال من التبعية للغرب أو التباهي بجوهر الشرق الروحي والنفسي  كما يقول محمد كامل الخطيب في (المغامرة المعقدة).

وهو ما يؤكد عليه االصيني يان ليانكي في روايته التهكمية (في خدمة الشعب). فركوب عسكري لزوجة آمره عبارة عن تجسيد لمشاعر الانتقام من الضباط الذين يغلون يديه بالقيود والنواهي.

وعلى ما أرى هناك شبه اتفاق أن أخلاق المقاومة تبدو غامضة. وأصبحت في عصر التوسع والشركات متعددة الجنسيات مجرد بحث عن الذات في حفرة من العدم النفسي بلغة وين جين أويان. وهذه هي كل المسألة.

لقد كان لزاما على الرجل المتباهي بفحولته أن يحرص على مكامن الرجولة والذكورة. وأن ينظر للمرأة كفرس طيع ولنفسه كفارس لا يشق له غبار. وهذه واحدة من الطرق السلبية في الدفاع عن الذات من الانتقاص.

ولعل هذا التكنيك من أهم خطوط التوازي في بنية أبطال (أجملهن) و(غراميات بائع).

فالبطل سائح أو تاجر. والبطلة معشوقة ويمكن اختصار مؤهلاتها بجسدها. وكأنها رمز للمدينة الميتروبول. لديها الجمال الطاغي. ولديها القدرة على اتخاذ القرار في لعبة الصد والجفاء أو القبول والاستسلام.

فأصلان في نهاية الرواية يجد نفسه وحيدا. بلا هيلينا التي تختار ابنها وبلدها وتدعه لمصيره. وقل نفس الشيء عن بطل العجيلي. في النهاية يفترق عن سوزان التي تتراجع عن الخطيئة الأصلية وتغتسل من أدرانها بالتبرع لخدمة الرب.

ومن الواضح أن منطق النهايات ينير عقل الكاتب. فالموقف الوطني المشرف لهيلينا يعارضه الموقف الروحي والميتافيزيقي لسوزان. غير أن كلتا المرأتين لهما مقاربة إيجابية من الإنسان إما بأسلوب واقعي أو بأسلوب إيماني.

وتذهب الروايتان لشوط أبعد في التشابه. وتنتقلان من الفكرة إلى الشكل. وتوظفان تكنيك حكاية داخل حكاية. الخطيب يفتح نافذة على عالم الذكريات القريبة ويقف على أطلال بغداد التي ينهبها صراع دموي. ويفرض عليها منعطفا دراميا. يقودها من شمولية العسكر إلى ديمقراطية التخلف والفوضى.

في حين يدمج العجيلي قصته السياحية والترفيهية مع ذكرياته عن حب قديم للراهبة ندى وهذه تموت بدورها في ظرف مأساوي.  وهي تعبر الحدود بين دمشق وبيروت. كـأن العجيلي يريد أن يساوي بين منطق البدايات وفلسفة النهايات. ويحول مصير الإنسان إلى قدر غاشم مقرر سلفا. فكلنا نسير بعيون مفتوحة وعقول مطبقة إلى نفس الحفرة. ويبرر ذلك  بضرورة الوصول إلى المعرفة بغير العقل المحدود الاستطاعة. ص 113.

وهذا يضع العملين بشكل رأس أمام رأس.

النظرة السياسية والاجتماعية المباشرة عند برهان الخطيب. والتفسير الحضاري ومن فوق الواقع الملموس عند العجيلي المعروف بإسقاطاته الخرافية على شرط الوجود..

إن التشرد في (غراميات بائع) يضع الإنسان قبل الأرض. ويعادل بين الفكرة العملية والقلب الرومنسي. وربما يقف ذلك خلف أسلوبه المونولوجي الذي يصور أصلان بشكل الإنسان وقرينه وبمهارات شكسبيرية عالية. فكائن الظل عند شكسبير يماثله التجريد النفسي عند الخطيب. وهذه هي نقطة القوة في الرواية كلها.

في حين أن النظرة السياحية عند العجيلي تضع ستارا شفافا بين الشخصية والأحداث. وتبدو لك عواصم الشمال كأنها صور أو أفكار. لا يمكن أن تشعر بلهيب الواقع واتقاد العاطفة. ويغلف كل شيء جو من البرود الذي تخلو منه أعمال العجيلي الأخرى .

في (أجملهن) نحن أمام مجسمات لشخوص وليس شخصيات تنبض بالحياة. كل شيء يبدو جاهزا ومسبق الصنع. أو مجرد رمز لعنصر غائب عن الوجود. لقد ضاعت عاطفة العجيلي في هذه الرواية بين الأخلاق الشرقية والإطار الغربي.  بعكس الترابط العضوي في رواية الخطيب.

مع أنها توليفة من الرومنس والمفاجآت والغرام والخطيئة فقد هضمت خلفياتها.

بمعنى أنها وظفت عناصر من رواية التشويق كما يكتبها جون لي كاري وعناصر  من رواية السلوك والأخلاق كما عودنا عليها غراهام غرين بالإضافة لعناصر من الرواية السياسية ذات المضمون التاريخي والتي طور فيها رؤيته منذ شقة في (شارع أبي نواس) وحتى (على تخوم الألفين).

وبهذه الطريقة أصبح بمقدورنا أن نقترب من روايته هذه من عدة محاور.

وسواء اتفقنا معها أو كانت لدينا ملاحظات عليها فهي تجربة تستحق الاهتمام والتنويه. إنها ورقة أخرى تضيف لكاتبها رصيدا ملحوظا. 

 

صالح الرزوق - حلب

 

في المثقف اليوم