قراءات نقدية

(أنا.. وسِربُ القطا).. ومضاتٌ في الوجدِ والتماهي

النصوصُ المفتوحةُ، أو ما سُمّي بـ(قصائد النثر) ليست ـ كما يظنُّ بعضُهم ـ رصفاً لكلامٍ مسترسلٍ يسهلُ فيها القولُ بحريّةٍ دون ضوابطَ، لأنّها لو كانت كذلك لناقضتْ شأوَ الفنِّ، وخالفتهُ، ومتى ما خلا النصُّ من الصعوبةِ فقد خلا من الفنِّ، لأنّهُ ابنُها دون تردّدٍ.

 ومع أنَّ النصَّ المفتوحَ منفلِتٌ من عقالِ التقنين، فإنّ له ضوابطَ اقتضتها البنيةُ في جانبيها: النسيجي والموضوعي.

فالنسيجي هو المتعلّق باللغةِ من حيثُ بناءُ الجملةِ، والفقرة، لتكوين بنيةِ الأداءِ الكلّيّ، مع مراعاةِ أهميّةِ الموسيقى الداخليّةِ في تكوين الإيقاعِ العام  لأصواتِ الحروفِ، والتجمّعاتِ الصوتيّة. أمّا الموضوعيّ، فهو المتعلّقُ بفلسفةِ النصِّ، أو فكرته.

 وهذهِ الضوابطُ الافتراضيّةُ يمكنُ أن تتحدّدَ في وجوبِ امتلاك النصِّ للإدهاشِ، والمغايرةِ، أو الإثارة، والابتداعِ، ومخالفةِ السائدِ، كي يُقنعَ المتلقّي بما يملكُ من اقتدارٍ في تقديمِ الجديدِ المغايرِ .

 وليسَ شرطاً أنْ تكونَ كلّ هذه الضوابط ماثلةً في النصِّ الواحد، إنّما أنْ يمتلكَ بعضاً منها كي يُتاحَ له مناقشةَ السائدِ المحافِظِ، ومخالفته .

 وهذه المجموعة (أنا ... وسربُ القطا) وإنْ كانت تنتمي إلى هذا الشكلِ الفنّي من الأداءِ، إلا أنَّ منشئتُها الشاعرة حياة الشمّريّ عمدتْ إلى جعلِ بطلاتِ هذه النصوصِ يلمحنَ إلماحاً إلى ما في أعماقِهنَّ من اكتواءٍ دونَ أن يمضينَ في الشكوى، فهي إذاً نصوصٌ أقربُ إلى الإيماءةِ منها إلى الاسترسالِ المطنبِ، ممّا يجعلُها نصوصاً تُعنى بالإشاراتِ الخاطفةِ كلمعِ الوميضِ الدالِّ على لَمَعانٍ محدّدٍ، ممّا يحفّزُ على توصيفِها بـ بـ(قصائد اللمحةِ) أو (قصائدِ الومضةِ) التي تختصرُ فصولاً من البوحِ بفقراتٍ شاعريّةٍ دالّة.

 وليسَ اللّمحُ جديداً في الإبداعِ العربيِّ، فقد كانَ من لوازمِ الكلامِ المبينِ عند العربِ، فقد قالوا: (خيرُ الكلامِ ما قلَّ ودلَّ)، ولعلَّ رسالةَ الخليفةِ عمر بن عبد العزيز (رض) إلى والي مصرَ خيرُ مثالٍ على اللمحةِ الدالّةِ حين كتبَ له: (أمّا بعدُ، فقد كثُرَ شاكوكَ، وقلَّ شاكروك، فإمّا اعتدلتَ، وإمّا اعتزلتَ)⁽*⁾، فقد اختصرتْ كلاماً كثيراً في سطرٍ واحدٍ ليسَ غير.

  لمحاتُ حياة الشمّري، أو ومضاتُها المركّزةُ في (أنا... وسرب القطا) أوفتْ على الخمسين، ومع أنّ معظمَها ومضاتٌ إيروسيّة ⁽¹⁾ تناولتْ موضوعةَ الحبِّ والرغبةِ، فإنَّ فيها ومضاتٍ عديدةً عنتْ بموضوعةِ التماهي⁽²⁾ بينَ العاشقينِ بأنْ جعلتهما في حالةِ اتحادٍ فلسفيٍّ شمل فكريهما، وجسديهما معاً، فتمَّ ذوبانُ الواحدِ منهما بالآخرِ، إلى جانبِ ومضاتٍ، أو لمحاتٍ أخرى اقتربت من الأداءِ الصوفي، لكنّها خالفتهُ في نوعيّةِ الاختيار؛ ولن يعدمَ القارئ الجادُّ لمحاتٍ خاصّةً للذاتِ الشاعرةِ وهي تعالجُ أزمتها النفسيّةَ من الحياةِ، والكونِ، والوجود، لكنّ الجزعَ قد يَحُلُّ فيها فتنكفئ على ذاتِها محبطةً، كما في (إصرار) .

*****

ومع أنَّ الومضاتِ الإيروسيّة (كما ألمعنا) عديدةٌ، فإنّها صيغتْ على وفقِ درايةٍ نابهةٍ، وتلميحٍ إيمائيٍّ ذكيٍّ، فالحديثُ عن الحبِّ والرغبةِ ـ وإن وردَ على لسانِ بطلاتِ القصائدِ ـ ينبغي ألا يكونَ مباشراً واضحاً، لأنّهُ سيقعُ تحتَ طائلةِ السطحيّةِ الفجّةِ ؛ إنّما يكونُ إيماءً مكتسياً غموضاً شفّافاً غيرَ مستغلقٍ ممقوتٍ، ليؤدّي شأوهُ الذي صيغَ من أجلهِ، كما في ومضة (حقيقة):

إن راقصتَ تضاريسَ الشتاءِ في جسدي،

ولم تبحثْ عن معطفٍ

فاعلمْ أنّي أسبحُ بماءِ الشمس..

التي قالت الكثيرَ من المسكوتِ عنهُ في بضعةِ مفردات، فالبطلةُ أشعرتنا ما كانَ فيها من موقدِ نارٍ، أومصطلى قاستْ حرَّهُ، بإيماءةٍ  ذكيّةٍ أوحتْ بها جملة (إنّي أسبحُ بماء الشمسِ)

  وكما في لمحةِ (نداء):

أيتُها الفيروزةُ المتدليةُ يبن قمرينِ

أتتكِ جحافلُ أصابعي

ابتعدي، فسنواتي اليوم قمريّة.

فهذا التحذيرُ الذي يردُ على لسانِ بطلِ النصِّ ينطوي على رغبةٍ شبقيّةٍ  عاتيةٍ في جسدٍ ناضحٍ بالقوَّةِ .

وكما في (قالَ لي):

قال: تبرَّجي،

فحماقة ُ الصبيانِ  تزدادُ اخضراراً  في عيني َّ،

ولهاثي مصلوبٌ حتّى يطرقَ قمراكِ على صدري

فأتّقدُ فجراً،

وتكونينَ مطعَّمة ً بالبنفسج

يلسعُكِ ما أقرأُ من سوَرِ الغواية.

فهذا النصُّ الإيروسيُّ الجميلُ يتحدّثُ عن لهاثٍ لا ينطفئ إلا حين تكتملُ قراءة الغواية ⁽³⁾.

*****

أمّا ومضاتُ التماهي، ولمحاته، فلعلّها لاتقلُّ عن الإيروسيّات، إن لم تكن تتعدّاها عدداً، ولعلَّنا لانغالي إن قلنا: إنّها تُعنى بحركةِ إذابةِ العاشقِ بمعشوقهِ على نحوٍ من ولهٍ وجديٍّ أتاحَ لكلٍّ منهما أن يكونَ هو المذابُ بالآخر محبّةً، كذوبانِ الثلجِ بالماء . وهذا الاشتغالُ لم يكنْ بعيداً عن التأثّرِ بفكرةٍ الحلولِ الفلسفيّةِ، وإن اختلفَ عنها في المراد النهائي، لأنّ الحلولَ يقتضي أن يحلَّ جزءٌ من المقدّسِ بالمريدِ دونَ أن تتغيّرَ معالمهُ الشكليّةُ، في حين يُعنى التماهي بتوحيدِ العاشقينِ، وصيرورتهما كياناً واحداً ليسَ غير، كما في (حوار):

قالتْ لهُ: لك أنا

قال: هي أنا

قالت:عندي

قال:عندها

فوقَ غربةِ روحي أحلى مطر

عندها أجَّلتْ شراييني موتَها

قالت: أنا وأنا

قال: نحنُ ما زلنا كما في الماء

نذوبُ عندَ اللقا

مسحتْ عن جبهتي سنيَّ القدر

هي، وهي تلاحمني كهدبي

وترزمُ عنّي الألم

فكيفَ لي وكيف َ

ألا تستحي الروحُ، ويستحي النظر ؟

  فقد حاولت فيها بطلتُها أن تفلسفَ التماهي بما يُشبهُ ذوبان الثلجِ في ماءٍ ساخن، بعدَ أن تمَّ التلاحم بينهما .

أو كما في (كأسك أنا) التي أومأتْ لهذا التماهي بخمرِ الحلول:

سيخالطُ الوقتُ عطري، فتشتهيه

ساُولدُ في حضنِكَ كأساً تشربهُ كلَّ حين

فشوقي فاقَ أشرعتي

وروحي تزيدُ بكَ اتساعا

ضوؤكَ أيقظَ ذاتي

أنسى القصيدةَ صمتَها

ولأني لغةُ عشقٍ

ستقرأُ وجعي في سطورِ حياتي.

*****

أمّا ومضاتُ الهيامِ التام بالحبيبِ، وتركِ الذاتِ الشاعرة تهيمُ بين عالميهِ الصوفيِّ والحسّيِّ بما يجعلها تُفيدُ من التفكّر الفلسفيِّ في الأداءِ، والتعبيرِ الشعريّ، أو تقتربُ منه كثيراً فقد تمثّلت بـ (إرادة):

وحتى أحفظ َ رسائلَكَ المطرزة َ بعيني َّ،

وحتى لا يتسلل الآخرونَ لحدقاتِهما كالشمس

وحتى لا أرى شفاهَ الغيمِ  تتدلَّى،

و تُغريني لتقبيلِك

فقأتُهما.

فمثلُ هذه النهاية الموجعة في (فقأتُهما) لا يمكن أن تقالَ لبشرٍ من لحمٍ ودم، فهي أشبهُ بمناجاةِ ذاتِ المريدِ للذاتِ الإلهيّة.

أمّا في ومضة (قبح) فإنَّ بطلةَ النصِّ هي التي تتولّى دورَ الراويةِ في تبجيلِ المعشوقِ، وتعظيمِهِ:

إنْ وضعوا إكليلاً من الغارِ على رأسِك

فأعلمْ أنَّهم نسجوهُ على أريكةِ عطرِك!

أخيراً نقول: إنَّ حياة الشمّري شاعرةٌ سامقةٌ تعدُ بالكثيرِ، ومجموعتُها هذه (أنا... وسربُ القطا) التي اتّسمَ شكلُها التعبيريُّ بأداءِ اللمحِ، أو الومضِ النابهِ بيّنتْ بجلاءٍ أنَّ ما تتمتّعُ بهِ من استعدادٍ فطريٍّ، واكتسابٍ معرفيٍّ، وقوّةِ ملاحظةٍ في الجانبِ اللغويِّ، قد مكّنها من تقديمٍ نصوصٍ ستعيشُ عواطفُها في وجدانِ المتلقّي زمناً ليسَ بالقصيرِ، فضلاً عمّا في هذهِ النصوصِ من أخيلةٍ سحريّةٍ أدّت إلى استحضارِ قوّة نجاحها دونَ شكٍّ، وليسَ هذا بالقليل.

 

أ.د. عبد الرضــا عليّ

.....................

إحالات

⁽*⁾ وتنسب أيضاً لـ جعفر بن يحيى: وقَّعَ في رجلٍ شكاهُ بعضُ عمّاله.

(1) الإيروسيّة: نسبةً إلى الإله (إيروس)  المسؤول عن الحبِّ، والرغبةِ، والجنسِ في الميثولجيات القديمةِ، لاسيّما اليونانيّة، والرومانيّة.

(2) التماهي: اتحادُ العاشقينِ فكراً وجسداً على نحوِ ذوبانِ أحدهما بالآخر من شدّةِ الوجدِ، وهو قريبٌ من فكرةِ الحلولِ الصوفيّة.

(3) ثمّةَ ومضات أخرى تناولت فيها الشاعرةُ هذهِ الموضوعةَ بتمكّنٍ، كما في (آنَ للثلجِ أنْ يتدفّأ)، و(دلع)، و(لكَ أنت)، و(توزّع)، و(تساؤل)، و(نورسة)،و(أرى)، وغيرها.

(4)  ثمّة ومضات أخرى في التماهي تجلّت في: (أمنية)، و(هي أنت)، و(تساؤل)، و(عشق)، و(صرخة)، و(أحلام الهوى) وغيرها.

 

 

 

في المثقف اليوم