قراءات نقدية

قراءة في رواية: حارس التبغ لعلي بدر.. الأنا الذواتية تتمحور في اقنعة تسجيلية الرواية

إن الأتجاهية التسجيلية السردية في جملة اشارات وتضمينات ووقائع خالقية الإنجاز الروائي تدفع بالنص الروائي أحيانا الى إحداث ثمة متغيرات مخيالية وسردية ووظيفية واسعة أو محدودة تبعا لماهية نسقها المرجعي المستند الى مركزها حيثيات النص الروائي قدما . أن الأستثمارية عادة لمثل هذه الحالات والأشكال الروائية ما يؤدي بالنص نفسه الى تقنية وحدات الدلالة الوقائعية التي من شأنها إدخال حزمة وظيفة الحكي في خواص ومتغيرات تفاعلية خاصة تقود بذاتها نحو عملية الكشف الذروي والنواتي الى متاريس علاقات تمظهرية متشعبة ومركبة في آلية تشكيل الفضاء التكويني في النص الروائي وعبرة مجالية العقد التفاعلي بين بنى المسرود ووظائف الدلالة الوقائعية الكاشفة تسجيلا . إن جماليات وقائع رواية (حارس التبغ) لعلي بدر تمتلك في ذاتها مرجعية خارجية خاصة راحت تتسم بشكلها المتحول من جراء تلوينات حدثية ومرويات وأخبار وتقارير وتنقلات عديدة الى حد الإسراف داخل متن يافطة الزمان والمكان حيث نجدها أحيانا تبدو ربطية مباشرة بتلك المرجعيات الخارجية فيما تبدو أحيانا تحكمها شرطية علاقات وثائقية سابقة تتعلق بسيرة حياة الموسيقار اليهودي الأصل يوسف سامي صالح فتكون الرواية بهذا التحديد وكأنها دوائر حياتية سيرية صرفة لاسيما وإن وقائع قصة هذه الرواية تعود لحياة تنشطر ما بين المخيلة الروائية والوثيقة المرجعية وعلى هذا الأساس مرت هذه الشخصية بتحولات صراعية الهوية وفجوات تحولات المرونة الذواتية المنشطرة الى جملة وحدات شخوصية مصدرها ثلاثية اسمائية شخصانية بل أنها راحت تدخل في صلب آلية التفاعلات الشخصانية الأحادية المتعددة بوضوح أحدية الأهداف التي استحضرها الروائي من أجل ترسيم ملامحها التداخلية حينا والانفصالية حينا آخر لذا يلعب المرموز الوظائفي الشخصاني لأحدية هذه الشخصية ثمة لعبة إدائية حاذقة مصدرها تمظهرات مرجعية خاصة تختص بوظيفة تعدد الذوات في قناع أفق الأنا الواحدة وبخواصها التفاعلية والدرامية في مسرح صراع بؤرة الشد النسقي والأرسالي في مجاليات بناء جدلية (الأصل / البديل) .

 

آلية الذات الروائية وظهوراتها في أقنعة المتغير

قد ذهب (كاسيرر) في مذهبه الفلسفي الى محاكاة النظرية البيولوجية التي وصفت كل كيان عضوي حسب تركيبه التشريحي حيث يمتلك جهازين: جهاز استقبال وجهاز تأثير .. ولا بقاء للكيان نفسه إذا لم يتعاون الجهازان ويتوازنا . وهذان الجهازان هما حلقتان في سلسلة واحدة يسميها يوكسكل (الدائرة الوظيفية) وكانت محاكاة كاسيرر لهذه النظرية بأن أيدها وأضاف أليها حلقة ثالثة هي التي يمكن أن نسميها (الجهاز القناعي المتحول) وعدها وحدة تحول حيوات الأنسان المنشطرة الى جملة أشكال وعقبات ومصائر موقفية وتحولات في حيثيات دائرة الهويات الذواتية في كافة أبعادها الحقيقية في مركب وعناصر الشخصية الواحدة . من هنا لعلنا نجد ثمة وصلة تواصلية ما بين تعدد الشخصيات ثلاثية المحور في رواية بدر حيث قد جاءتنا وفقا لسيرورة رؤية الأنا الذواتية المتزامنة مع حسية ومادية وقائع صور تلك المحاور الشخصانية الثلاثية والتي راحت تستقطب في متن النص السردي تفاوضية عضوية الأسماء والأقنعة والوقائع ومسارية الأزمنة والأمكنة وذكريات ضمن دائرة وظائفية راحت تتحول منها حالات الحكي الى كائنية عضوية متوحدة ومفقودة ومتواجدة في الآن نفسه عبر طبقة حيز (المسافة / الزمن / الشخصية) . كانت محاكاة الشخصية اليهودية يوسف صالح كامنة في ظل تحولات المواقف والظروف ومسافة الإستجابة العلائقية المكثفة إزاء ما يحيط به من صراعات التمييز ودافعية حسية الآمال المستقبلية وإخفاقات سؤال الجوهر الإشكالي المتشاكل مع معطيات مدخلية ذواتية دلالية عالية التوظيف والقيمة التوزيعية في حالات الأشياء . يوسف صالح الشخصية الفنية المرهفة والحالمة مع محيطها الاختلافي تكثيفا لأهم وصولاته وعثراته نحو الشخصية الثانية حيدر سلمان بالمقابل الآخر من الشخصية الثالثة كمال مدحت: الشخصية الأولى هو يوسف صالح الفنان الموسيقار اليهودي الأصل . أما الشخصية الثانية فهو حيدر سلمان الذي قام بالسفر الى إيران متخذا لنفسه شخصية حيدر سلمان أي بمعنى ما شخصية مقتبسة من حدود تداولية شخصية اليهودي يوسف سامي صالح، فيما نجد حيدر سلمان قد افتعل لذاته ولادة أسلامية / شيعية وقد كان على حد قول المؤلف تاريخ ولادته أكبر من شخصيته الأولى بعامين (وقد ارتبط بالحركة الشيوعية طوال الستينات وتقول موسوعة الموسيقى العراقية أنه توفي في طهران في العام 1981و حين دخل دمشق الى بغداد بشخصيته الثالثة وهي شخصية كمال مدحت وهو الموسيقار المعروف ولد في عائلة من التجار تقطن في الموصل في العام 1933و هي من كبار العائلات السنية وقد ارتبط بعلاقة خاصة مع السلطة السياسية في بغداد في الثمانينات وأصبح من المقربين من صدام حسين / الرواية) نتبين من هذه الفقرات بعض من الملاحظات: أن بحث الشخصيات الثلاثة كان متعلقا بشيء ثمين وهو الموسيقى . فلم تفارق ذائقة هذه الشخصيات على اختلاف نوعيتها وحجم دورها أحلام الموسيقار الموهوب الكبير واستمر هذا التواصل والإلحاحية في حلم دخول العراق طلبا لذات الرغبة في الحصول على فخامة الموسيقار العبقري المتفرد دوما . أن أصل فكرة ودلالة رواية  (حارس التبغ) تبدأ من فكرة بيسوا في قصائد ديوان (دكان التبغ) حيث الشخصيات الثلاثية المركبة حيث تقول الرواية بصددهم: (وهم عبارة عن ثلاث حالات تقمص .. كل شخصية من هذه الشخصيات المخترعة هي وجه من وجوه بيسوا مقدما لكل واحدة منها أسما خاصا بها وعمرا محددا وحياة مختلفة وأفكارا وقناعات وملامح مختلفة عن الشخصية الأخرى .. وكل مرة يطور شكلا للهوية أعمق وأكثر اتساعا .. ولكننا نصل فيما بعد الى التباس حقيقي للهوية الشخصية الأولى لحارس القطيع وأسمه البرتو كايرو والثانية للمحروس وهو ريكاردو ريس والثالثة للتبغجي وهو الفار ودي كامبوس .. فنجد أنفسنا أمام لعبة ثلاثية الأطراف أو رسم تكعيبي ثلاثي لوجه واحد / الرواية) مما يتضح لدينا أن حقيقة الشخوص الثلاثية التكعيبية في رواية علي بدر هي عائدة لفكرة فلسفة (الأنا ـــ الذواتية) في جل توجهاتها الامكانية القصوى في مختزل بؤرة التخصيص الروائي المتناص . مما راح يجعل علي بدر من شخوص روايته وكأنها الحدود الملائمة لشخوصية بيسوا في قصائده .

 

فصول الرواية وايقاع البنيات الزمكانية

وإذا ما تفحصنا بنى تشكيلات الفصول والبنيات الزمكانية المؤطرة للمادة السردية في الرواية، لألفيناها على هذا الشكل: (الجزء الأول: 1ــ بيوغرافيا / خرائط / ووثائق خاصة 2ــ البلاك رايتر جنة متخيلة أم رحلة الى المجهول 3ــ صحفيون في دكان التبغ 4ــ المدينة الأمبريالية وحانات الزمرد 5ــ بوريس وسمير ورسائل فريدة روبين / الجزء الثاني: 1ــ حارس القطيع 2ــ المحروس في دكان التبغ3ــ حارس التبغ / الجزء الثالث: 1ــ أسرار القتل / حياة على الحافة / ومدن غريبة: فصول وأجزاء الرواية) وفي سياقية هذه العنوانات الفرعية من زمن مكونات الرواية نعاين فعل تصعيد حيوات دائرة الشخوص الثلاثية المحور مع مضمرات أسئلتها وقلقها واغترابها ووحشتها إزاء سيرورة احباطات فخ مصيرها . وقد نتوخى من مقاربات صور واوضاع وأقدار ومصائر ثلاثية الشخصية الواحدة في الرواية تجربة علائقية تشكيل الزمكاني . إذ لا يخفى على أحد بأن هناك ثمة مسارات صوغية خاصة راحت تنهض من خلالها حركية الزمكانية في رقعة تخوم عبورياتها المماثلة والأختلافية وما يغري في مسارية زمان ومكان هذه الرواية هو أنها تشكل في ذاتها وحدة دينامية متناغمة أخذت تتجاوب في إيقاعها الداخلي / الخارجي مع وظائف نسيج الملائمة الحياتية المشخصة في حياة تلك الشخوص المحورية الثلاثة .

 

تضمينات المحكي ومداراته الدلالية

و في وضع آخر من فقرات مشاهد الرواية نعثر على عنونة بهذا الشكل (صورة وصفية عن كمال مدحت) حيث راح من خلالها الروائي يقدم ملامح ومشخصات الشخصية كمال مدحت فيما يقول: (و من أجل تسهيل العمل على هذه الشخصية الملغزة قمت بتجميع مجموعة من الخيوط لتكوين صورة وصفية عن كمال مدحت: فهو شخص طويل القامة نحيل جدا بشعر طويل ولحية خفيفة يرتدي نظارة ذات إطار بلاستيكي .. أنيق الملبس .. علاقاته النسائية متعددة وعواطفه غامضة .. أهتماماته موسوعية مثل الفن الحديث .. الشعر .. الرواية .. العلوم السياسية .. له أيمان كبير بالقوى الغامضة .. غير محدد من جهة مواقفه السياسية .. قراءاته الفلسفية واسعة ولكنها انتقائية .. كما كان كمال مدحت عازف فيولون ــ كمان ــ ماهر جدا حصل على العديد من الجوائز العالمية في الموسيقى وهو يجيد القراءة والتكلم بست لغات .. العبرية والعربية أكتسبهما من خلال العائلة . / الرواية) لقد لاحظنا مرات عديدة بأن لغة المؤلف كانت مركزة تحديدا بشخصية كمال مدحت وذلك لأن هذه الشخصية يقع من خلالها صنيع التعالق المحوري وبشكل يطيل من ديمومة شكل التماسك الدلالي والعلاقة البؤروية مع ضروب تداولية الخطاب الربطي والفضائي في نطاق حيثيات النص . أما شخصية حيدر سلمان ويوسف سامي صالح فإن حدود سيرهما في الحكي أضحى لنا شكلا من الأحوال الموصوفة والمتممة لمستوى بناء شخصية كمال مدحت في أحداث الرواية . وفي هذا المستوى تبقى شخصية حيدر سلمان تشكل درجة أدنى بذاتها من درجات أفعال وحكي ومسرود كمال مدحت ويوسف سامي صالح: (لقد عاش حيدر سلمان في طهران أكثر من عام لآجئا ثم استطاع الهرب الى دمشق نهاية العام 1981 بجواز عراقي مزور بأسم كمال مدحت وقد بقي في دمشق أقل من عام .. تزوج هناك من سيدة عراقية ثرية أسمها نادية العمرية ودخل بغداد أول العام 1982 بجوازه المزور .. ولدت له نادية العمري أبنه عمر في بغداد وفي الثمانينات أصبح أشهر موسيقار في الشرق الأوسط . / الرواية) في النص أدناه نجد شخصية (الصحفي / السارد) الذي راح يتبنى حقيقة وقائع سرد وحكي تمفصلات الأحداث الروائية فهو غدا يشكل في الرواية بمثابة عدسة الكاميرا ولسان حال السارد العليم / المؤلف الضمني: (هذا موجز للخبر الذي نشرته الأميركية بعد العثور على جثته في بغداد وبخمسة أيام .. أتصلت بي صحيفة التودي نيوز الأميركية وطلبت مني الذهاب الى بغداد وكتابة ريبورتاج بألف كلمة عنه على أن لا ينشر هذا الريبورتاج بأسمي أنما بأسم جون بار وهو أحد المراسلين المهمين في الصحيفة وهو ما يطلق عليه في العمل الصحفي البلاك رايتر . / الرواية) وفي موضع آخر نجد السارد / الصحفي وبأسلوب وثائقي هائل الدقة يسرد لنا وقائع اتصالاته وتنقلاته ومجازفاته لأجل الوصول الى حقيقة الطابع النقلي للأخبار في الأمكان التي ارتادها كل من حيدر سلمان ويوسف سامي صالح وصولا الى معرفة مراسلاته لفريدة روبين زوجته ــ كمال مدحت ــ .. (كانت المغلف ثقيلا وتنبعث منه رائحة القدم .. أشبه بالرزمة مربوطة برباط مطاطي أصفر ضربت عليه براحة يدي غير أنه لا غبار عليه .. قال لي أن هذا المغلف مهم جدا في عملي .. أنه الرسائل التي بعثها كمال مدحت الى زوجته فريدة روبين وعلى مقدار عقود طويلة وقد حصل عليه بوريس من زوجته وعلي أن افضه واستخدمه في كتابة تقريري عنه . / الرواية) أن السارد / الصحفي كان في الرواية هو الذي يعتم ويضيء محور شبكة منظور أحداث الشخوص في ما كانت الزوجة فريدة وعملية مراسلات كمال مدحت لها بمثابة المؤشر التنويري والأرتدادي والتقدمي في مسار نمو أصوات الحكي في مجمل تطورات مجرى أحداث الزمن الروائي . وتبعا لهذا الحد نكون أمام لعبة مراوية ماهرة لمرايا متعددة أخذت تعكس رؤية المؤلف في أحداث المسند والاسنادي من دلالات أفق المحكي في الرواية .

 

تعليق القراءة

في الحقيقة أن القارىء لأحداث شخوص رواية (حارس التبغ) لربما سوف يواجه عوالم شيقة ومبطنة في مساحة الرائي والمروي أو لربما سوف يجد له منطقة قرائية متشعبة من ناصية مبئر (الأنا الذواتية) المتوحدة في أقطاب ثلاثية الأسماء والأمكنة والأزمنة والصفات والأفعال والقابليات الآفاقية في منتوج آليات النص .. بل هي وبلا أدنى شك رواية الأقنعة والأصوات الموصولة في سطوح أمواج ذواتية متمظهرة بموضوعية (الأنا الأحدية) مع أختلاف التفاصيل والتعالقات والرؤى والأمزجة . ان الروائي علي بدر أرد منها ــ أي فكرة حارس التبغ ــ بأن تبدو في مضاعفات الفعل القرائي وكأنها ملفوظية سردية متموجة الأوجه والهويات والأقدار والمصائر .. نعم أنها رواية ثلاثية الشخصية الواحدة التي تتقدمها وجهة نظر ذاتية الأنا المتعرجة فوق مقعرات ذواتية صفات متعددة ولكنها تقع ضمن محورية مركزية متمحورة في مجلى واحد: (وحده الأب .. حارس التبغ .. وحده كمال مدحت كان ممثلا حقيقيا لصورة الهامشي والخارجي والمقصي .. صورة المعادي لكل سلطة .. والخارج عن كل ايديولوجيا .. أنه صورة حقيقية لحارس التبغ .. تذكر كمال مدحت قصيدة فرناندو بيسوا .. أبناؤه الثلاثة هم شخصياته الثلاث أيضا .. فمئير جاء من شخصية يوسف سامي صالح أي من حارس القطيع في كتاب دكان التبغ .. وحسين جاء من حيدر سلمان من شخصية المحروس في كتاب دكان التبغ .. وعمر من كمال مدحت من حارس التبغ . / الرواية) هكذا غدا يمنح الروائي علي بدر الاشارة الحازمة لصوته السارد آخذا بزمام رؤية الكشف الفعلية للحكي معتمدا الرؤية التفاصلية والارتدادية والاستطرادية ليبث منها حاضرية دلالة المعنى العلائقية في روايته المرتكزة على وجود ثيمة (الأنا الذواتية) وهي تتمحور في ايقونة اقنعة تسجيلية الرواية . هكذا تنكشف لنا رواية (حارس التبغ) ضمن ممارسة تتراوح ما بين لعبة المخيلة الفنية لتقترب من رواية التسجيل والوثيقة بل أنها لعبة بناء رواية المؤلف المخيالية حيث يهدم الخيال من خلال زمن وذاكرة الشخصيات اللاشعورية بوعي أحيانا وبتداخل غير واع أحيانا مع ضجة زمكانية فضاءات البحث عن الحانات والرسائل والصور والمواقف الجنسية الدخيلة في بعض المشاهد وذلك من أجل ابعاد عملية التسويق والطلب في مستودعات ومعارض مبيعات الرواية الرابحة .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم