قراءات نقدية

صورة المكان الشعري في قصائد عمار المسعودي: يزرع بهجاته انموذجا

تتشكل صورة المكان  في مجموعة الشاعر عمار المسعودي (يزع بهجاته) الصادرة عن المركز الثقافي للطباعة والنشر العراق/بابل لسنة 2016  عبر ثلاثية اللغة ، الأسلوب ، المعنى  حيث ينشد الشاعر من خلال هذه العناصر الوصول إلى ترابط أسلوبي فلسفي عميق في الفكرة والإحساس يتيح للشاعر مساحة من الحرية الفنية والفكرية في خلق عوالمه الشعرية بسلاسة وانسيابية عاليتين ما يضفي على القصائد خصائص  فنية وأدبية مميزة .

الأسلوب 

يعتمد الشاعر في جميع قصائد المجموعة على تراكيب جملية قصيرة (ومضة) لكن بصيغة    حوارية تواصلية باتجاه الآخر لاكتشاف  الذات  وهو ما يعطي للخيال بعدا اكبر في صناعة القصيدة ،لذا  نجد أن قوة الصورة عند الشاعر لا تقف عند المرئي او المجسم العام (الشكل) بل تتجاوزها إلى نطاق النفس واللاشعور( المضمون)  الذي يرتكز على عاملي التأثير والإيحاء، لذا يبدأ الشاعر قصائد المجموعة بسؤال الأنا الشعري المختلف عن أناه الواقعي اي الشاعر كفرد منفصل (سألني عن البداية قلت لم ابدأ) ص5 يستعيد الشاعر تجاربه الأولى التي أثرت في ذاته المرتبطة بالمكان الأول البساتين والأنهر والأشجار(أنا المتربع على أخضر السواقي عن يباسه وصده) ص5 رغم انها صورةحسية مباشرة  للشاعر لكنها تحمل الكثير من الأبعاد  الدلالية حول ارتباط وانغماس الشاعر في جذور المكان بكل تنوعه البيئي كونه يشكل هوية الشاعر الإنسانية وهو ما يجعل صورة المكان  تختلف من حيث الذائقة والتمثل عن غيره من الأمكنة،و يعطي للصورة الشعرية حضورا مميزا في جميع قصائد المجموعة  ،معززا ذلك  بلغة  مفعمة بالإحساس والتساؤل إضافة إلى الصور النفسية والفكرية  التي تتيح للشاعر تفجير طاقات اللغة من دلالة ،وتراكيب ،ومجاز ،وإيقاع ،وتجانس وغيرها ... فكل قصيدة من قصائد المجموعة تمثل حدس وإحساس الشاعر اتجاه الوسط المعيش (المكان) وتشكل جزءًا من صورة أسطورية متكاملة يسعى الشاعر عبر أسلوب المحاكاة  (الصورة )من جعلها أكثر رسوخا وتأثيرا  في أشكال  التلقي (رؤيتي مكتوبة في هذا الأخضر من الامتداد )ص22.

معمارية النص:

تقوم معمارية النص  على بنية حكائية سردية أي لكل قصيدة حكاية تروي هم الشاعر وأحلامه ورغباته وانساقه المضمرة تجاه المكان ، لذا كان فعل الروي يمثل خطابا مرسلا من الذات الى مرسل اليه (الأخر المتلقي) عبر وسيط  لغة /مكان ،الذي يروي حكاية البحث عن تمثلات الشاعر لصورة المكان (كان صوتها النازل من أعالي الأشجار موجعا اسمعه فأتفقد أمي التي تركتها قبل قليل تسف حصيرا من أحزان)ص23 كما وتشترك هذه المعمارية في دمج صورة الواقع المعيش الطبيعة الريفية ،والمدن ، والأزمات ، مع صورة المتخيل الفني الجمال ،والسلام ،والأنوثة  ( أقول متسائلا متى ستنزل أيها النبات من هذه السنادين المعلقة في واجهات المرمر ؟)ص35.

سعى الكاتب الى جعل المكان فضاءً سرديا أسطوريا يعكس فلسفة الشاعر لوجوده المتخيل اكثر منه مكانا جغرافيا، وذلك بفعل التكثيف لصورة المكان الأليف الذي شكل ملاذا وجوديا خاصا يستدعيه الشاعر طول مرحلة اغترابه خارج الذات  (المدن) ففي  أماكن الاغتراب ، نجد الشاعر يحاور الحقل والنهر والغيم والأشجار، الردم حالة الضياع ، لكن هذا التكثيف الوجودي لصورة المكان الأول سرعان ما يتشظى إلى عدة اتجاهات وألوان وتصورات (الأخضر والأبيض والأصفر) ثم يعود ليلتئم حول ذات الشاعر كوحدة وجود  مركزية لبناء النص  ( ها...إني قد رأيت البحر أخيرا سأعود إذن الى موجتي من النخيل : لأتسلق من أعلى سعفاتها ما يطول من أحلامي ) ص46  وبما ان النخيل يرمز للعلو والشموخ والقوة والعطاء ظلت صورة المكان تعني الوطن والانتماء .

اللغة

يحاول الشاعر عبر ألاعيب اللغة ،الاستعارات الصورية ، والمجاز، والدلالة  كسر حالة الثبات في صورة المكان  (أمي تمشط المساء في شعر أختي الكوز يتقطر وبطيخة خضراء تركها أبي  في جوفه لتبرد) ص25 . اعتمد الشاعر على لغة شعرية مكثفة رمزية ،وصورية ، وفكرية (أنا انزل أتقطر حزنا كما الكوز أصور بعيني فأرتين كل هذه المشاهد )ص26 وهو ما جعل من لغة المجموعة تنفتح على عدة  تحولات نصية وأجناسية تعكس قصدية ورغبة الكاتب في إحداث إزاحات فكرية ونفسية وعاطفية في بنية المكان السائد (أنا حفنة ماء لا تغري عطشى) ص 38 فهذا التمازج مابين حفنة الماء والعطش يفسر رغبة الشاعر بتكسير الصورة السائدة لذكورية المكان التي ترمز للبطولة والتكامل كما ترمز للوحدة والغياب  وهو ما يبرر  الحضور الدائم  لصورة المرأة في جميع القصائد والتي دائما ما ترمز للحياة والثراء والعطاء، الشجرة ، والمدينة ،والطيور، والغيمة، تعبيرا عن ديمومتها التي تعني الأمل بالنسبة للشاعر (كي أريح حروبي مع مدن الخراب ؛ اتدرب على بيروت) ص 47 او في قصيدة اخرى (سأتسلق خضرتها هذه النبتة التي ستصير شجرة) ص43 . يعيش الشاعر صراعه الوجودي ما بين الريف والمدينة عبر ثنائية الواقع /المتخيل التي اجاد الشاعر دمجهما في جسد النص  بشكل متجانس ومتسق مستثمرا ثراء خزينه اللغوي (أجمل القرى تلك التي لا تباشرها المدن من جهة) ص88 فالجدل ما بين المكان الواقع يتشكل عبر المتخيل (الصورة) لإنتاج اللغة التي تترجم وعي الكاتب من خلال سيل الأسئلة التي يحاول الشاعر اثارتها على شكل تمرد واحتجاج اتجاه الثبات السائد للمكان (لقد قررت- أخيرا في بيروت أن أتدرب على كل شيء) ص48.

المعنى

جهد الشاعر في ضخ دفق روحي جديد للمعنى داخل النص الشعري بفعل المزاوجة مابين الصورة المكان ،واللغة   كمعنى رمزي وذلك بفعل الانهماك في تعميق وتفجير المعنى أكثر من تثبيت للمعنى لإحداث إزاحات في شكل المعنى  (اللحظات التي لا تستطيع الإمساك بها ، دعها تهرب عنك بعيدا) ص54 ،

وهو ما ارتبط بهاجس وجودي قلق مسكون بهمِّ الشاعر  تجاه المكان- الوطن الذي مزقته الحروب والصراعات المتواصلة  (أرنو مثل انتظار يملأ المحطات) او في نفس القصيدة (مثل مواعيد لا أحد يحصي لهفاتها) ص56 فهذا الهم الوطني هو من يحفز ذات الشاعر على البوح بكل همه الشعري ( لا أنوي- أبدا –استبدال صمتي ولو بأغاريد طير) ص69 وكأن المعنى  لدى المسعودي يمثل وطنا وهوية وطنية  ذات صيرورة دائمة ، وهو ما يفسر الإيقاع الحزين للمجوعة (ربي..إني بسرب سحاب أغسل سمرتي... ربي.. بذكرى وطن أنافس الدائرين عليه) ص91 لذا كان هذا الضياع والخفاء والحنين للمكان هو التجلي الذي يزرعه الشاعر  ليحصد بهجاته (لا أكتب عن الذي أحب بل اجمع نداه وأفرقه حتى يصير غيما).

 

بقلم حيدر جمعة العابدي

في المثقف اليوم