قراءات نقدية

قراءة في قصيدة: فرادى وضجرون وحيارى لطالب عبد العزيز.. من الفاعلية الاحتمالية إلى أفق التوقيع الدلالي

تقوم حفريات مؤولات النصوص الشعرية اساسا على آلية وقابلية المنطقة الاحتمالية الفاعلة شعريا لكنه لا ينبغي ــ حسب ريكور ــ لأي تفسيرية مؤولة أن تكون بعدا احتماليا ناجزا فحسب . بل عليه أن يكون ذلك النص أكثر احتمالا من خصيصة تأويلية القراءة النقدية ذاتها . ونحن نقرأ قصيدة (فرادى وضجرون وحيارى) لطالب عبد العزيز وجدنا بأن فكرة معايير المرشح النسبي الدال في منطوق دليل النص راح يقترب من حدود فاعلية إحالات فضاءات الفراغ الاحتمالي المبثوث في موجهات أفق التوقيع الدلالي في منطقة مداليل النص القصدية، وذلك استنادا الى مقتربات احتمالية من شأنها ربط علاقات الأحوال الذواتية والمكانية والزمانية بموجب فاعلية ملء الفراغ وعلى نحو اتصالية القوة المرجعية في حيثيات أفق القراءة التوقعية الدالة في النص وسعيها الحثيث نحو منطقة كشف جماليات القيمة القرائية للنص وفي بيانه النوعي المنصب في تأويل الشكل النصي المستودع داخل كيانية المحصلة الافعالية والادواتية والإجرائية .

معطيات استجلاء مكامن النص

لاشك أن إدراك مفاصل عقد النص وأبهامه والتعامل معه قرائيا يظهر اسلوبين مختلفين في التعاطي مع غموضه وتشكيله الإيحائي المعقد: فالأسلوب الأول يتضمن قراءة تقول النص وتضغط على نسيجه .. أي تكرهه على قول شي ما قد يكون بعيدا عن معطيات تعقده النصي . والأسلوب الثاني يتجه بدوره الى قراءة تؤول النص أي أنها تستجيب الى ما يبرمجه .. وتبعا لهذا هناك اقتراح لأسلوب ثالث من شانه جمع الأسلوبين على نحو ما .. لأن الاتجاه نحو تأويل النص على وفق الاستجابة لبرمجة النص ذاته قد لا يكفي لاستجلاء بواطن خفايا النص .. فغالبا ما يمارس الخطاب النصي أشكالا فراغية من الحجب والاستبعاد والمراوغة والتلاعب مما يجعل من الضغط عليه وإكراهه على التخلي عن رغبته المستمرة في الحجب والأخفاء كوسيلة احتمالية ناجعة للوصول الى نتائج أكثر حجما من مجرد الاستجابة لبرمجته الأفقية الخاصة .. إذ هو عادة ــ أي النص ــ لا يعطي كل ما لديه ضمن ما يبرمجه في طريق أفق انتظار القارىء، بل يسعى الى ضم كينونته عبر محطات فراغية ابعادية الاحتمال والتخمين حيث نجدها وصولا وكأنها كامنة في مسافات مظلمة من الحجب والظلال والعتمة ومناطق المسكوت عنه فيما يتفادى شاعر ذلك النص كل السبل النمطية التي يسلك فيها القارىء داخل أفق دلالات توقعاته الضمنية في سبيل الحفاظ على هوية مروره القرائية المحتملة .

لم تأت مراكب الصيد اليوم

تخطف الموج العالي بحارتها

فظلوا هناك ..

فرادى وضجرين وحيارى .

سنضع في ظل هذه المقاطع من القصيدة مختلف الأبجديات الاحوالية التي من شأنها بث رموز البرقيات وأبجدية شفيرات المكتوب ونقله بعدا : (فرادى ــ ضجرون ــ حيارى) من هذه الدوال المركزية نستنتج بأن البناء الدلالي بين الحالة الموقعية للرؤية والنظرة المنتجة لحالات دليل علاقات حدود الدال وصورته وموضوعته بل أنها دوال تمثيل بصري تستند في مجمل بناءاتها على ثيمات الأنتظار والفراغ الاحتمالي المبثوث في محور الكائنات المكانية والحسية مودعة وجودها الاحوالي في مطبات المثير النفسي الذي راح بدوره يحتكم إليه أسلوب صياغة الفردي والجماعي . ولعل هذا الأمر ما جعل من دلالة جملة (لم تأت مراكب الصيد اليوم) بمثابة الأنطلاقة الخلاصية المركزة في بناء عضوية الارسالية السببية والمسببة ومن زاوية النظر هاته يمكننا تحديد الصورة الاحتمالية المرتبطة بأجواء المدرك المكاني في الواقعة التشكيلية : (تخطف الموج العالي بحارتها) فالشيء الماثل في الصورة ليس هو الشيء في محددات استعادة أيقونة الارسالية الاشهارية في قوانين التدليل الدوالي، بل أن هناك تداعيات احوالية خاصة تتمثل بوظيفة المتداول الاستحضاري : (فظلوا هناك / فرادى / وضجرون / وحيارى / لم تأت مراكب الصيد اليوم / تخطف الموج / بحارتها) من هنا هو مصدر قدوم النظر المؤول الى الصورة المرتبطة بالغياب والمسكوت عنه فمن خلالها نعاين مجالية دوائر خبايا زمن الفراغ الاحتمالي المتداول في مفردات وفضاءات وممكنات النظر المحتمل وهو في ظل آفاق الصورة الانتظارية للعالم الموجود خارجها .

ولأن خاصرته مقاعد من جريد وقصب

يدخل باعة الثلج

من هدم في أضلاع المقهى

مطارقهم خشب وعصيهم طويلة .

وقد يتجاوز الأمر مجرد الإحالة على مفردات الوظيفة القولية دتخل الصورة الانتظارية تبعا لمدلول ذلك الزمن الاحتمالي القابع في وجه النموذج الأولي من النص .. بل باتت الغاية هنا محصورة في رسم العلاقة الجانبية إزاء وضعية تحديد العناصر الظرفية المكونة لدال محطات ذلك التداول في بيئة ومؤشرات حالات النص . (ولأن خاصرته مقاعد من جريد وقصب / يدخل باعة الثلج / من هدم في أضلاع المقهى) أن المشهد هنا يخضع لنوع من آفاق التحول في فضاء الأقاصي المكانية وعلى نحو راح يخضع في الوقت نفسه لتصاعدية واضحة في الحمى التوصيفية المعادلة لوحدات دوال (فرادى وضجرون وحيارى) وتقوم الصورة المكانية هنا بتوكيد شفرات المضاعفة الحسية الذواتية المتصلة بطاقة عاملية البطالة والركود والاهمال والتيه في مهاد سقوط الذات الضجرة في تغريبة تؤول الى أرض وفضاء مؤثثات حسية المكان الاغترابية : (يدخل باعة الثلج / من هدم في أضلاع المقهى / مطارقهم خشب وعصيهم طويلة) أن واقعة شعرية الكساد والفقدان تكون أمرا واقعا راح يناهض ملامح وتقاسيم وتنقلات وآمال دلالة باعة الثلج وهم يدخلون المقهى المقفر من خلال فجوة (هدم) في أضلاع زمن توقف مطارقهم الخشبية عن ديمومة العمل والاستمرارية في صيانة دلالة مسارات الفعل المصدري المعطل والمعطب من جراء (لم تأتي مراكب الصيد / فظلوا هناك / فرادى وضجرين وحيارى) .

البؤرة الدرامية / الصراعية

أن خطية امتدادية دلالة الأسى الضاربة في خلفيات أعماق الفراغ اللانهائي المتسطح أفقيا في مرارة المنظور حيث راح يضيف إليه ذلك الحضور اللجوج لعزلة الأشياء في الأمكنة والحالات السلوكية عمقا خاصا بحسية بنية الفقدان والتلاشي والضالة في المتاهة التي غلفت بطابعها الرؤيوي حيثيات مفاصل تصحر تلك الأمكنة والأشياء والذوات في دوال القصيدة :

ظل أخضر من شمس رطبة

لا تنفك جائمة

يتبعهم الى العنابر المالحة

حيث يجلس العاطلون عن الأمل .

لقد نفذ الشاعر من الحجاب المادي الكثيف للحدث الدلالي ليدخل آلية الوصفي المعنوي بمستوييه الخارجي / الداخلي يتمثل الأول في اقتناص أحوال ذلك الفقدان ومكوناته الجزئية فيما راح التمثل الثاني يرسم علامة تنامي اللقطات البانورامية تتابعا في فضاء حافل بالفعاليات المؤشرة الى أفق الهيمنة الغيابية المجردة :

و منذ شقوق الفجر الأولى

ينهب الحفار المدولب القناة الى البحر

ممرغا ببساتين محترقة ــ كانت جنائن ــ

مراقد ومزارات يبتدعها السائقون .

أن صورة (ممرغا / ببساتين / محترقة / كانت جنائن) تكشف لنا عن مدى تلويث الذات الشاعرة التي كانت فيما مضى تتكشف لها هذه الصورة المحترقة بجمالية وطابع فكرة (الجنائن) فالأفعال المنفية التي تطالب فيها الذات الشاعرة بالحرية الكامنة تنتظم في مسلة الفقدان الشعري مما أخذت تشكل انتظاما عكسيا راح يكشف عن وعي مخالف وعدائي لطبيعة ما آلت إليه حدود توقفات الأشياء في جل مفاصلها الكاشفة وغير الكاشفة . وإذا ما أنتقلت الذات الواصفة نحو مفصل آخر من مفاصل الكشف عن الصورة الشعرية الممتدة من فضاء الداخل الشعري الى فضاء الخارج الشعري فأنها باتت تبلغنا عن فعل القهر والإكراه والمصادرة التي تتعرض له الكينونة الواصفة بدلالة الأسى والزوال والتلاشي . فيما تتجه الذات بأنوية صارخة لوصف حساسيتها وسط معطيات انتقالية الانا الى حدود الانجاز الواصف بديلا .

 

ما تنغلق بين النخيل .

ولأنها من شجن وظلمات، لم تكبر الفسائل

التي غرستها دائرة الزراعة في سيحان الثانية

ظلت حبيسة الملح والخنازير

التي تدنو عند الطريق بين الواصلية والعشار .

فالوحدات التوصيفية / القولية الفاعلة في هذا الاطار المقطعي : (و لأنها من شجن وظلمات / لم تكبر الفسائل / التي غرستها دائرة الزراعة في سيحان الثانية / ظلت حبيسة الملح والخنازير) داخل سياقاتها التعبيرية الكاشفة تنم عن علامات مصادرة حريات الذات المقموعة في معناها الذي راح يشكل في ذاته الخارجية والداخلية عملية محنة نمو الفسائل وفق طبيعتها الكيفية التي فارقتها بفعل فضاء زنازن الشجن والظلمات السلطوية الجائرة فيما ظلت حبيسة مشروع موتها المؤجل بين مقصلة الملح ووحشة أجساد وملاعبات قوائم الخنازير . أن الشاعر نراه يعود وضمن انتقالة أخرى بعمقها الزمني والمكاني الى منطقة القول والوصف ليظهر من جديد دلالات مشهد الصيادون :

البحارة، النواخذ، الصيادون

علقوا هناك .. الآن، صهاريج الزيت تقطر

مراكبهم

مراكبهم تخذلها مكائن دبابات هالكة

مراكب علقت بخطاطيف الموج

و لم تأت .

تعليق القراءة

يتعرض الشاعر الى ملامح وأدوات وزوايا وظلال قصيدته (فرادى وضجرون وحيارى) نحو شبكة كبيرة من القصديات والتسميات المبطنة فيما تذهب رياح الاشارات والأشكال في موحيات دال خطاب النص الشعري وصوره الى أقصى غايات وتجليات تلك الذات المرهونة بفكرة الفقدان والغياب عن طبيعة وجودها شعريا ونفسيا وتشكيليا . وبهذا يكون فضاء العنونة الكلي (فرادى ــ ضجرون ــ حيارى) كشفا ضمنيا عن التسمية المصرح بها فضلا عن طبيعتها وكيفيتها وحدودها القهرية القابعة في أعماق الحالة الشعرية الواصفة . وهكذا تبقى قصيدة طالب عبد العزيز تشكل في ذاتها ايقونة علامية مركزة ومعبرة أخذت تنتظم في حلقاتها البانورامية دلالات الفاعلية الاحتمالية المتوجهة نحو مداليل أفق التوقيع الدلالي الانتظاري .

حيدر عبد الرضا

 

 

 

 

في المثقف اليوم