قراءات نقدية

علوية صبح.. منامات لأمطـــار الجسد

تشكـّلت انتباهات الجسد الأولى لدى الروائية اللبنانية مثيرة للجدل (علوية صبح) بداية الحرب الأهلية في لبنان، وتشكـّل معها وعيها السياسي الذي قادها بالتالي الى لا جدوى التعاطي بالأيديولوجيا والتنظيرات الثورية والأندفاعات الفكرية غير المحسوبة، اذ أكتشفت مبكـّرا ان كل الذي جرى ويجري في لبنان وفي الساحة العربية هو محض أصطراعات للأكاذيب والأفتراءات وضياع للحقيقة التي جرفتها سواقي الدماء الحارة الفتية وتاهت مع الأرواح التي فاضت متوحّدة صعوداً كظفيرة دخان هائلة حاملة شكواها الى الرب .. ولم يبق لدى (علوية صبح) غير حقيقة فيزيائية واحدة وهي الجسد بكل أبتهالاته وأنفعالاته وشهواته وشذوذه، فأصبح آيقونتها التي من خلالها تطـّل على ما يعتمرُ داخل شخوص رواياتها، كما أضحى رمزاً حياتياً متعدّد الدلالات تتمحور حوله كل مكابدات الأنسان وعبثه وحتى سكونه ودعته .. الجسد هو الحقيقة الوحيدة الذي منح (علوية صبح) القدرة على هتك ستر المحظور والمخبوء والمندس تحت وسائد المحرّمات، كما حفـّز لديها شهوة الكشف عن الرغبات والأختلاجات الحبيسة والمكتومة التي يحفل بها أنشغال الجنس الأنساني ذكراً أو أنثى في عملية أنتاج الحياة وتجديد خلاياها .

لم تعتمد الكاتبة في كلتا روايتيها (مريم الحكايا) و(دنيا) على التراكم البنيوي في السرد الحكائي للأحداث صعودا للأحاطة والسيطرة على حركة شخوصها ضمن ثنائية المكان والزمان أنتهاءاً بالخاتمة، بل جاءتا كمجموعة من قصص وحكايا وأحاجي وذكريات لأشخاص جمعتهم ويلات وبشاعة الحرب الأهلية التي وفـّرت لهم فرص تكوين علاقات حرّة غير مقيدة هي عبارة عن أنتهاكات صارخة للقبول العام المحافظ، ولقاءات حميمية غير مرخـّصة وزيجات عبثية تنتهي بخيبة وندم هي أنعكاس لطبيعة تلك الأيام والسنوات الحافلة بالترقـّب المرير للموت المجاني والقتل على الهوية وأنتزاع الحياة حتى من الأجساد القابعة في دهاليز الذات الخائفة المحتسبة .

لقد لجأت (علوية صبح) وهي تستعرض هذه الحكايا وبجرأة نادرة لم يألفها القاريء العربي الى أعتماد الصدمة والدهشة والأنبهار والتساؤل والحيرة حينما كانت تبحر في جغرافية وكيمياء الجسد وتأوهاته قبل لحظات الذروة ، لكنـّها وبذكاء نادر أيضاً أوهمت القاريء بين علوية صبح الكاتبة وبين مريم الراوية للحكايا في روايتها (مريم الحكايا)

وبين علوية صبح الكاتبة وبين دنيا وفريال الراويتين لأحداث روايتها (دنيا)، ممّا دفعت القاريء الى أن يعيد قراءة كل صفحة أكثر من مرة ليتأكد من هي الراوية الحقيقية لهذه القصص والذكريات ، محاولة منها لتشتيت المسؤولية ولأمتصاص صدمة القاريء وتأثير فعل الفجاءة فيه، وهذا ما جعل روايتها (مريم الحكايا) ذات ذائقة روائية جديدة

رشحتها للفوز بجائزة السلطان قابوس للأبداع الروائي لعام 2006 والذي يعد تحوّلاً مهمّاً في العقلية النقدية العربية وأنفتاحها على آفاق جديدة كانت محظورة حتى وقت قريب .

ان الحرب التي جرت بين الشوارع والحارات والأزقة والبيوت، حفـّزت غرائز الحيوان داخل الأنسان فنسي آدميته وراح يمارس أصطياد فرائسه أيّاً كانت ليمعن في تمزيقها وبهمجية لا نظير لها .. والحرب عطـّلت عقارب بوصلة الأمكنة وأوقفت جريان الأزمنة وجعلت لكل شيء رائحته، فالجرح له رائحة والموت له رائحة والمكان والشارع والضلال كلٌّ له رائحته وحتى الأمل له رائحته يشمّها عن بعد الذين أعمت أبصارهم ظلمات الملاجيء والأقبية العطنة .. في هذه الحرب فقد كل شيء قيمته، فلا معايير الشرف والعفة والعذرية ظلـّت على قوة فعلها الزجري ولا النظرة الى الأم أو المرضع بقيت على نفس قدسيتها ولا المحرّمات أستطاعت الحفاظ على طقوسها وتأثيرها الأعتباري على الناس .. اذن أصيب النسيج الأخلاقي والتربوي والعائلي الى هتك متعمّد والى تدمير للآواصر التي كانت تتحكم بعلاقة الأفراد .

من وسط دائرة التخريب هذه ولدت روايتي (علوية صبح) (مريم الحكايا ) و(دنيا) وأكتست لغتها السردية وصياغاتها التعبيرية بطعم الدخان ولون النار ورائحة أبخرة الأجساد التي تتلوى على أسرّةٍ لا تخشى عاقبة الحرام .

روايتي (علوية صبح) ستفتح باباً واسعاً جديداً للنص الروائي النسوي لا يمكن غلقه بسهولة، وستكون فاتحة لنصوص قادمة ولروائيات عربيات أخريات سينهضن من ركام الممنوعات وليتحدّين شرقاً أسبلت عيناه دهوراً كي لا يرى الحقيقة ..الحقيقة لا غير .

 

 

في المثقف اليوم